لم تكتفِ فرنسا بعدم الاستجابة لمطالب الجزائر رسمياً وشعبياً بالاعتراف بجرائمها النووية في الجزائر إبان فترة الاستعمار وتعويض الضحايا، بل ترفض باريس أيضاً تسليم خرائط التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر، الأمر الذي يشكل خطورة على الجزائريين إلى الآن بعد نحو مرور نحو ستة عقود من هذه التجارب.
فما هي أسباب رفض فرنسا لتسليم الجزائر خرائط تفجيراتها النووية وأماكن دفن النفايات الملوثة، رغم انعكاسات ذلك على العلاقة بين البلدين؟
قال وزير المجاهدين الجزائري الطيب زيتوني، الأحد 4 يوليو/تموز 2021، إن "فرنسا ترفض تسليم بلاده خرائط تفجيرات نووية أجرتها في صحرائها، خلال ستينيات القرن الماضي". واحتلت فرنسا الجزائر بين عامَي 1830 و1962.
وأفاد زيتوني، في مقابلة مع وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، بأن "الطرف الفرنسي يرفض تسليم الخرائط الطبوغرافية، التي قد تسمح بتحديد مناطق دفن النفايات الملوثة، المشعة أو الكيماوية غير المكتشفة لغاية اليوم".
وأضاف: "كما أن فرنسا لم تقُم بأية مبادرة لتطهير المواقع الملوثة من الناحية التقنية أو بأدنى عمل إنساني لتعويض المتضررين".
وتابع أن "التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر خلال العهد الاستعماري تعتبر من الأدلة الدامغة على الجرائم المقترفة التي لا تزال إشعاعاتها تؤثر على الإنسان والبيئة والمحيط".
ومطلع يونيو/حزيران الماضي، قال الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في مقابلة مع صحيفة "لوبوان" الفرنسية: "نطلب من فرنسا تنظيف مواقع التجارب النووية، ونأمل منها معالجة ملف ضحاياها".
عدد التفجيرات النووية مجهول.. 17 أم 57 تفجيراً؟
وأجرت السلطات الاستعمارية الفرنسية بين 1960 و1966 سلسلة تفجيرات نووية في الصحراء الجزائرية، 4 فوق الأرض و13 تحتها، وفق مؤرخين.
وأُجريت بعض التفجيرات بعد الاستقلال في 1962، وغير معروف إن كان ذلك تم في إطار اتفاق أم أن فرنسا استغلت ضعف الدولة الجزائرية آنذاك.
بينما ذكرت مجلة مصادر تاريخ الجزائر المعاصر (حكومية)، في عدد 2019، أن "الصحراء الجزائرية استُعملت بين 13 فبراير/شباط 1960، و16 فبراير/شباط 1966، كمسرح لـ57 تفجيراً وتجربة واختباراً نووياً".
و"مصادر تاريخ الجزائر المعاصر" مجلة علمية محكّمة، يصدرها المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر/تشرين الثاني 1954، والتابع لوزارة المجاهدين (قدامى المحاربين).
وأوضحت المجلة أن "4 تجارب جوية أجريت بحمودية رقان (جنوبي البلاد)، كانت ملوثة للغاية و13 باطنية (تحت الأرض) في تاوريرت تان أفال، إين أكر، وكانت فاشلة".
أما أخطر حادث نووي هو "بريل ـ Béryl" في أول مايو/أيار 1962، إضافة إلى 35 اختباراً نووياً للسلامة على مستوى آبار بحمودية و5 تجارب نووية في موقع تاوريرت تان أترام (محافظة تمنراست) في الهواء الطلق باستعمال مواد انشطارية كالبلوتونيوم، بحسب المجلة.
سر رفض باريس لتسليم خرائط التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر
قال المؤرخ الجزائري عامر رخيلة، للأناضول، إن "موضوع التفجيرات النووية كان مسكوتاً عنه طوال عقود من الزمن، ولما استرجعت الجزائر أنفاسها بدأت تطرح هذه القضية".
وتابع أن "هذا الملف طُرح سابقاً على مستوى فعاليات ثقافية وأنشطة إعلامية، فقط، لكن رسمياً لم تكن هناك إرادة سياسية جزائرية كافية لجعل فرنسا تستجيب لمطلب كهذا".
وأردف أن "نفايات التفجيرات النووية في الجزائر والأجهزة المستخدمة فيها مجهولة المكان، وفرنسا اختارت أماكن معزولة عن السكان وبعيدة عن الأعين، وهي أصلاً مناطق عسكرية للقيام بالتفجيرات".
وأوضح رخيلة أن "الطرف الفرنسي لم يتجاوب مع طلب الجزائر، وليست لديه نية لحل الملف بتسليم الخرائط أو تنظيف مناطق التفجيرات ومخلفاتها".
واستطرد: "هذه القضية تعتبرها فرنسا ضمن ملف الذاكرة، ولا ترتبط فقط بالخرائط، بل أيضاً بضحايا التفجيرات وآثارها على البيئة والإنسان، لكونها تمت وفقاً لبحوث علمية مسبقة ومخطط هندسي جواً وبراً".
وأرجع عدم تسليم فرنسا الخرائط للجزائر إلى أن باريس ترى أن ذلك "يدخل ضمن سيادتها العلمية وتجاربها، لذلك لا تريد تسليمها".
وتساءل: "إذا رفضت فرنسا تسليم الخرائط، فما موقف الجزائر؟"، داعياً سلطات بلاده إلى "وضع ملف التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر ضمن أولوياتها لتطوير العلاقة الثنائية بين البلدين".
أسرار الجيش الفرنسي التي ستفتح ملف جرائم بشعة والتعويضات
أما الباحث والأكاديمي رابح لونيسي فقال للأناضول إن "رفض فرنسا تسليم خرائط التفجيرات النووية يرتبط بكونه من الأسرار التامة للجيش الفرنسي، وبالتالي باريس تريد إخفاء هذه الأسرار".
وأضاف أن "فرنسا لو كشفت وسلّمت خرائط هذه التفجيرات معناه ستفتح الكثير من الأمور حول مختلف الجرائم البشعة التي ارتكبتها في حق الجزائريين، وقد تصل حد إدانتها عالمياً".
ورأى لونيسي، وهو أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة وهران (غربي الجزائر)، أن "فرنسا تستعمل ملف التفجيرات والخرائط ورقة ضغط في مفاوضاتها مع الجزائر".
وأردف: "يبدو أن باريس لا تريد كشف كل الأوراق في إطار مسألة المفاوضات حول ملف الذاكرة لتبقي بيدها ورقة ضغط تستطيع أن تخدمها".
وتابع أنه "لو أظهرت فرنسا كل أوراقها، سينجر عن ذلك المطالبة بتعويض ضحايا التفجيرات النووية وإدانة باريس في العالم".
الجيش الجزائري يطلب رسمياً الخرائط لتطهير البلاد من الإشعاعات النووية
"مماطلة باريس في تسليم خرائط التفجيرات جعلت قائد أركان الجيش الجزائري سعيد شنقريحة يتدخل ويطلب من نظيره الفرنسي خرائط أماكن التجارب النووية التي أجريت بصحراء بلاده في ستينيات القرن الماضي، لتطهير المنطقة من الإشعاعات"، حسب لونيسي.
وفي 8 أبريل/نيسان الماضي، استقبل رئيس أركان الجيش الجزائري نظيره الفرنسي فرانسوا لوكوانتر في إطار زيارته للبلاد.
وقال شنقريحة، في كلمة آنذاك: "أنتظر دعمكم خلال انعقاد الدورة 17 للفوج المختلط الجزائري ـ الفرنسي (حول ملف التفجيرات)، المزمع عقدها خلال مايو/أيار 2021". وليس معروفاً إن كان الاجتماع عُقد فعلاً أم تأجل.
وأوضح أن انعقاد الدورة 17 يهدف إلى "التعامل النهائي بعمليات إعادة تأهيل موقعي رڨان وإين أكر (جرت بهما تجارب نووية)، وكذلك مساندتكم في هذا الإطار، بموافاتنا بالخرائط الطبوغرافية، لتمكيننا من تحديد مناطق دفن النفايات الملوثة، المشعة أو الكيماوية غير المكتشفة لحد اليوم".
ووفق لونيسي، فإن "طرح شنقريحة القضية أمام نظيره الفرنسي يعني أن المسألة عسكرية بحتة لخصوصيتها، وأن السياسيين وصلوا إلى طريق مسدود بشأنها".
وظل ملف التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر موضع مطالب جزائرية رسمية وأخرى من منظمات أهلية، للكشف عن أماكن النفايات وتعويض الضحايا من قتلى وآخرين تعرضوا لعاهات مستديمة بسبب الإشعاعات.
وتقول السلطات الجزائرية ومؤرخون إن فترة الاستعمار الفرنسي شهدت قتلاً بحق قرابة 5 ملايين شخص، إلى جانب حملات تهجير ونهب للثروات.