بات واضحاً لكثير من المراقبين داخل وخارج الولايات المتحدة أن هناك فجوة تتسع باطراد بين ما يقوله الرئيس جو بايدن وما يفعله، وهو مؤشر على تراجع قدرة أمريكا على حماية نفسها، وليس فقط توفير الحماية لحلفائها.
فالرئيس بايدن، وقبل حتى أن يتولى مهامه رسمياً يوم 20 يناير/كانون الثاني الماضي، يُصدر دائماً عبارة "أمريكا عادت"، والمقصود بها عودة واشنطن لقيادة العالم، في إشارة إلى انتهاء فترة الانعزالية والتراجع التي شهدتها مكانة القوة العظمى خلال رئاسة سلفه دونالد ترامب.
وفي خطابه بمناسبة مرور 100 يوم على توليه المنصب، ركز بايدن على تلك "العودة الأمريكية لقيادة العالم"، واضعاً خطوطاً فاصلة بين معسكرين أولهما "المعسكر الديمقراطي" بزعامة واشنطن، والثاني "معسكر الاستبداد والقمع"، في إعادة صياغة للغة الخطاب التي كانت سائدة في واشنطن أثناء الحرب الباردة ضد المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق.
والأمر نفسه -لغة القيادة الأمريكية للعالم- تكرر بشكل لافت خلال زيارة بايدن الخارجية الأولى لأوروبا، الشهر الماضي، حيث كانت أكثر العبارات ترديداً على لسان الرئيس الأمريكي هي "أمريكا قد عادت".
رسالة "تهديد" لبوتين.. دون تنفيذها
وخلال مؤتمره الصحفي الذي عقده بعد قمة جنيف التي جمعته بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، حذَّر بايدن بلغة حادة وحاسمة من أن الولايات المتحدة "لديها قدرات إلكترونية كبيرة"، وقال إن بوتين "لا يعرف بالضبط مداها، لكن إذا انتهك الروس هذه المعايير الأساسية فإن الولايات المتحدة سترد على هذه الهجمات السيبرانية".
لكن الولايات المتحدة تعرضت خلال الأسبوع الماضي مجدداً لهجمات سيبرانية ضخمة، وذات تأثيرات ممتدة، ربما لم يتم التوصل إليها كاملة بعد، دون أن يلوح في الأفق أن بايدن سينفذ تهديده لبوتين "ويرد على تلك الهجمات السيبرانية".
ونشرت مجلة Politico الأمريكية تقريراً عنوانه "بايدن يواجه لحظة الحساب بشأن الهجوم السيبراني الروسي الضخم"، ذكّرت فيه الرئيس الأمريكي بوعده "أن يجعل موسكو تدفع ثمن تغاضيها عن القراصنة الذين يعملون من داخل أراضيها".
ورصد تقرير المجلة تفاصيل تصريحات بايدن التي أطلقها بعد هجمات سيبرانية تعرضت لها الولايات المتحدة في مايو/أيار الماضي، وأقسم فيها أن يتخذ "أفعالاً قوية"، تجبر الرئيس الروسي على التفكير ملياً في السماح بأي هجمات سيبرانية أخرى ضد الشركات والمصالح الأمريكية.
لكن تعرض مئات الآلاف من الشركات والعملاء الأمريكيين للقرصنة من خلال "فيروس الفدية" خلال الأسبوع الماضي، يظهر بشكل لا لبس فيه أن الرئيس الروسي "لم يأخذ رسالة بايدن التهديدية على محمل الجد"، بحسب وصف المجلة الأمريكية.
ورغم مرور نحو أسبوع على تلك الجولة الأخيرة من الهجمات السيبرانية من روسيا، وعقد مكتب التحقيقات الفيدرالي وقسم مكافحة الهجمات السيبرانية وهيئة حماية البنية التحتية وغيرها من الهيئات الأمريكية اجتماعاً، الجمعة 2 يوليو/تموز، لتحديد حجم الأضرار الناجمة عن الهجمات التي قالوا جميعاً إن مصدرها روسيا، قال بايدن للصحفيين الثلاثاء: "يبدو حتى الآن أن الأضرار في حدها الأدنى، وما زلنا بصدد حصر باقي الأضرار"، واعداً بقول المزيد في الأيام المقبلة.
لكن مقالاً كتبته الدكتورة أماندا روتشيلد، الباحثة الأولى في المجلس الأطلسي، والتي عملت مستشارةً خاصة لترامب، نشرته مجلة The National Interest بعنوان "كلام قوي منفصل عن الواقع: فك شيفرة فلسفة السياسة الخارجية لبايدن"، جاء أكثر حدة في توجيه الانتقاد للرئيس الأمريكي، الذي يقول ما لا يفعل، ما يتسبب في مزيد من التدهور لمكانة أمريكا على المسرح السياسي الدولي.
بايدن المدافع عن "الديمقراطية وحقوق الإنسان"
روتشيلد ركزت في مقالها على نقطة الانطلاق في السياسة الخارجية لإدارة بايدن، وهي "الديمقراطية وحقوق الإنسان"، من خلال التركيز في خطابات الرئيس على ذلك الصراع بين "معسكر الديمقراطية" و"معسكر الاستبداد"، محذرة من أن هذا التركيز "غير الواقعي وغير الممكن" يهدد مع مرور الوقت بفقدان "كلام بايدن أي مصداقية".
والواقع العملي يشير بالفعل إلى وجود فجوة ضخمة بين ما يصرح به بايدن وبين ما يقدم عليه من أفعال، والأمثلة هنا عديدة، منها على سبيل المثال قرار بايدن نشر التقرير الاستخباراتي بشأن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بتركيا، وهو التقرير الذي وجه الاتهام لولي العهد السعودي بأنه أمر بعملية القتل، دون أن يفرض الرئيس الأمريكي أي عقوبات على الحاكم الفعلي للسعودية.
ومؤخراً أجبرت حرب غزة بايدن على الاتصال مرتين متتاليتين بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي كان بايدن قد أشار إليه بوصف "ديكتاتور ترامب المفضل"، ووعد بوقف "الشيكات على بياض" التي حظي بها السيسي في رئاسة ترامب. والسبب في موقف بايدن من السيسي هو ملف حقوق الإنسان السيئ في مصر منذ وصول السيسي للحكم، ورغم أن انتهاكات حقوق الإنسان لم تتوقف فإن بايدن اتصل بالسيسي، ووجه له الشكر بسبب جهود مصر الناجحة في التوسط لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة.
ويرى كثير من المراقبين أن بايدن بحديثه المتكرر عن "عودة أمريكا لقيادة العالم"، وحديثه عن الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية حول العالم، يبدو وكأنه غير مدرك بشكل كامل للتحولات الجذرية التي شهدها العالم خلال العقدين الماضيين، وأن محاولته "إعادة عقارب الساعة إلى الوراء" محكوم عليها بالفشل.
فإذا كان بايدن يبدو عاجزاً عن الدفاع عن بلاده في مواجهة الهجمات السيبرانية الضخمة والمتكررة من جانب قراصنة على الأراضي الروسية، فكيف يمكنه إقناع حلفاء واشنطن بالاصطفاف معها في مواجهة الصين على سبيل المثال، أخذاً في الاعتبار أن الصين ليست الطرف الذي يسعى إلى مهاجمة الولايات المتحدة في أراضيها، بحسب كثير من المحللين.
الانسحاب من أفغانستان ومساندة إسرائيل
ويرى المنتقدون لبايدن، وبعضهم من داخل حزبه الديمقراطي نفسه، أن حديث الرئيس المتكرر بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعودة لقيادة العالم تقوّضه الأحداث الفعلية على الأرض.
فبعد عقدين كاملين من غزو أفغانستان، أوشكت الولايات المتحدة على أن تكمل انسحابها من هناك دون أن تحقق شيئاً من أهدافها، ويواجه بايدن وإدارته مأزقاً حقيقياً يتمثل في سيناريو يبدو وشيكاً، وهو سيطرة حركة طالبان على البلاد مرة أخرى، وسقوط الحكومة الأفغانية المدعومة أمريكياً. وتجعل هذه الظروف بايدن "تحت رحمة" غريمه بوتين، إذ لا يمكن للأمريكيين أن يتوصلوا إلى سيناريو يقلل المخاطر مستقبلاً دون وجودهم على الأرض في إحدى الدول المجاورة لأفغانستان، وهو أمر أقرب للمستحيل دون موافقة روسيا.
أما دعم بايدن المطلق لإسرائيل فهو نموذج آخر على ذلك الانفصال بين ما يقوله الرئيس الأمريكي وبين أفعاله، فإسرائيل تخطط لتهجير الفلسطينيين من منازلهم في القدس بغرض تهويدها، وهو ما ترفضه وتندد به غالبية دول العالم والأمم المتحدة، بينما يغض بايدن الطرف تماماً عن إجراءات الاحتلال الإسرائيلي، ولولا انتصار المقاومة في غزة لظلَّ بايدن على تجاهله لما يجري في فلسطين كما فعل منذ تولى منصبه.
الخلاصة هنا أن الرئيس الأمريكي يردد طوال الوقت أن "أمريكا قد عادت" لممارسة دورها القيادي حول العالم، بينما حقيقة الأمر تشير إلى أن الولايات المتحدة غير قادرة على حماية نفسها، ليس فقط من خلال تعرض قواعدها في العراق وسوريا وأفغانستان لهجمات متكررة من فصائل مسلحة، لكن أيضاً من خلال تكرار تعرض الشركات والهيئات الأمريكية لهجمات سيبرانية روسية، دون أن "ينفذ الرئيس تهديده" ويرد على تلك الهجمات.