"أيها الرئيس لا تأتي إلى هنا سوف تتسبب في كارثة"، كان هذا لسان حال مسؤولي الصحة في مدينة كينية، وثبتت صحة توقعاتهم، إذ تعرضت المدينة لتفشٍّ واسع لفيروس كورونا ضمن موجة جديدة لجائحة كورونا في إفريقيا.
تكشف مأساة مدينة كيزومو الكينية أن تصرفات بعض المسؤولين السياسيين هي أحد أسباب الموجة الجديد لجائحة كورونا في إفريقيا.
كانت إفريقيا تمثل استثناءً محيراً، ولكنه مثير للارتياح في مأساة انتشار الجائحة في العالم، فعدا جنوب إفريقيا وعدة دول أخرى كان تفشي جائحة كورونا في إفريقيا أقل من أوروبا والأمريكتيين والهند رغم نقص إمكانيات القارة.
يعزى ذلك لأسباب عدة منها نقص الاختبارات، ما يؤدي لإصدار أرقام مضللة أو إجراءات مبكرة اتخذتها الحكومات المذعورة في بداية الجائحة، أو بفضل التركيبة العمرية الشابة وغلبة سكان الريف على القارة، وضعف المواصلات العامة التي تحد من حركية المواطنين.
ولكن زمن هذا الاستثناء الإيجابي يبدو أنه ولّى أو يكاد.
فلقد حذّرت منظمة الصحة العالمية مؤخراً من أن مسار الإصابات بفيروس كورونا في إفريقيا "مقلق جدّاً جدّاً"، بعد تفشي نسخ متحورة معدية أكثر، وفي ظل معدل تطعيم منخفض "بشكل خطير".
أسباب توحش جائحة كورونا في إفريقيا.. كينيا نموذجاً
تعزو منظمة الصحة العالمية الارتفاع المفاجئ في إفريقيا إلى نقص التطعيم، وعدم كفاية الالتزام بالتدابير الاحترازية مثل ارتداء الأقنعة والتباعد الاجتماعي، علاوة على انتشار سلالة دلتا وغيرها من السلالات.
وتقدم كينيا، البلد الشرق إفريقي، القريب من العالم العربي، سيناريو مقلقاً لتوسع جائحة كورونا في إفريقيا.
قبل وصول الرئيس الكيني والقادة الآخرين في أواخر مايو/أيار الماضي للاحتفال بعطلة عامة كبرى، رأى مسؤولو الصحة في مدينة كيزومو، ثالث أكبر مدن كينيا والمُطِلَّة على بحيرة فيكتوريا، حدوث كارثة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
كانت الإصابات بفيروس كوفيد-19 تتزايد، ووحدات العزل بالمستشفيات تمتلئ، وعُثِرَ على سلالة دلتا شديدة العدوى في كينيا لأول مرة.
قال الدكتور بواز أوتينو نيونيا، المدير التنفيذي للصحة والصرف الصحي بالمدينة، إنه هو وغيره من المسؤولين الصحيين ناشدوا الساسة من أجل عقد الاحتفال افتراضياً عبر الإنترنت، وكذلك إلغاء الفعاليات الجماعية التي يمكن أن تؤدِّي إلى تفشي الفيروس.
كانت مأساة الهند ماثلة أمامهم، إذ أدت التجمُّعات السياسية الضخمة إلى تأجيج موجة كوفيد-19 الكارثية في الهند، حيث ظهرت سلالة دلتا لأول مرة وصارت هي المهيمنة.
وقال مسؤولو الصحة الكينيون إن اعتراضاتهم تعرَّضَت للتجاهل، ونزل الرئيس أوهورو كينياتا، ونائب الرئيس ويليام روتو، ورئيس الوزراء السابق رايلا أودينغا، وآخرون، إلى كيزومو، واجتذبوا حشوداً غفيرة من الناس الذين لم يرتدوا أقنعةً واقية في الغالب، واحتشد الناس في الشوارع لمشاهدة المواكب عبر المدينة وتجمَّعوا لمتابعة الحدث في الأسواق ومواقف السيارات.
في الأسابيع التالية لذلك تُظهِر جميع التقارير ارتفاعاً مُقلِقاً في الإصابات والوفيات في المدينة التي يزيد عدد سكَّانها عن 1.1 مليون نسمة، وكان معظم المصابين بالفيروس من الشباب.
السلالة الهندية تنتشر
قال الدكتور باتريك أموث، القائم بأعمال وزير الصحة الكينية، إن سلالة دلتا هي التي قادت هذا الارتفاع في الإصابات.
وهذا أمر ينذر بالخطر بشأن توسع جائحة كورونا في إفريقيا، خاصة أن شرق القارة مرتبط تقليدياً بالهند.
وأكد مسؤولو منظمة الصحة العالمية، أن سلالة "دلتا" تعد بمثابة أسرع وأقوى سلالات فيروس "كورونا" حتى الآن، حيث ينتقل للأشخاص الأكثر ضعفاً خاصة في الأماكن ذات معدلات التطعيم المنخفضة.
وقال "مايك رايان" المدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ بمنظمة الصحة العالمية خلال مؤتمر صحفي، إن سلالة "دلتا" المكتشفة في الهند أولاً لديها القدرة على أن تكون أكثر فتكاً لأنها أكثر فاعلية بشأن طريقة انتقالها بين البشر.
ومع نفاد الإمدادات الطبية، وندرة اللقاحات، والإرهاق الجسدي والنفسي الذي يتعرَّض له الأطباء، وإبعاد المرضى عن المستشفيات نتيجة الافتقار إلى الأسرَّة والأوكسجين، يقول مسؤول الصحة إنهم يخشون موجةً مثل تلك التي اجتاحت الهند، في أبريل/نيسان ومايو/أيار قد تلوح في أفق كيزومو.
وقال الدكتور نيونيا: "مثال الهند ليس بعيداً عنَّا".
ورغم أن بيانات المدينة المتعلِّقة بالعدوى ليست منتظمة، فإن أكثر من 23% من الأشخاص الذي اختُبِروا بحثاً عن إصابتهم بالفيروس في كيزومو الأسبوع الماضي جاءت نتائجهم إيجابية، وهذه النسبة تُعَدُّ أكثر من ضعف المعدَّل على مستوى كينيا بأسرها.
وهذا المُعدَّل من إجمالي الحالات الإيجابية في كينيا مشابهٌ للمُعدَّل في الولايات المتحدة، عندما بلغت الجائحة ذروتها، في يناير/كانون الثاني الماضي، لكن سلالة دلتا كانت لا تزال نادرةً في ذلك الوقت، علاوة على أن النظام الصحي الأمريكي أقوى بكثير من نظيره الكيني، فيما كانت حكومة الولايات المتحدة تكثِّف التطعيم على نطاقٍ واسع.
الخطر يمتد للقارة السمراء بأكملها وسط ندرة صادمة في اللقاحات
كلُّ إفريقيا مُعرَّضة للخطر، إذ تتوسع أحدث موجةٍ من كورونا في إفريقيا، مدفوعةً جزئياً بمزيدٍ من السلالات القابلة للانتقال. هذا وقد تلقَّى التلقيح أقل من 1% من سكَّان إفريقيا جزئياً، وهو مُعدَّلٌ أقل من أيِّ قارةٍ أخرى إلى حدٍّ بعيد.
وقال الدكتور مارك نانيجي، أخصائي الأمراض الوبائية المعدية بجامعة ليفربول البريطانية: "أعتقد أن الخطر الأكبر في إفريقيا هو على مستوى ما حدث في إيطاليا في وقتٍ سابق، وما حدث في الهند أيضاً، حيث التفكير أننا بأمان، أي القول بأننا بعيدون جداً عن هذه الحالة، وأن الأمر لن يسير لدينا كما حدث هناك". ووصف الدكتور نانيجي الطفرة في غرب كينيا بأنها "عاصفةٌ تلوح في الأفق".
وقالت منظمة الصحة العالمية إن الوفيات المرتبطة بفيروس كوفيد-19 في إفريقيا قفزت الأسبوع الماضي بنحو 15%، مقارنةً بآخر إحصائيات، بناءً على البيانات المتاحة من حوالي 40 دولة، لكن خبراء يقولون إن الحجم الحقيقي للجائحة يتجاوز الأرقام المُبلَّغ عنها في إفريقيا بكثير، حيث لا يزال الاختبار والتعقُّب يمثِّلان تحدياً للعديد من البلدان، في حين أن العديد من الدول لا تجمع بيانات الوفيات.
ربع المشرعين في الكونغو ماتوا بسبب الفيروس
ومن أجل احتواء الأزمة المتواصلة، فرضت وزارة الصحة الكينية الأسبوع الماضي قيوداً على التجمُّعات ومدَّدَت حظر التجوُّل من الغسق حتى الفجر في كيزومو، وأكثر من 12 مقاطعة محيطة، لكن الإجراءات جاءت متأخِّرةً في نظر الدكتور نيونيا.
وفي أوغندا، المتاخمة لكينيا بالقرب من كيزومو، والتي أعلنت تسجيل حالات إصابة ووفيات، فرض الرئيس يويري موسيفيني إغلاقاً صارماً لمدة 42 يوماً قبل أسابيع فقط، واستضافت رواندا الدوري الإفريقي لكرة السلة، وغيرها من الأحداث الرياضية الكبرى، ما زاد من احتمال إعادة الفتح كاملاً، لكن بعد ارتفاع حالات الإصابة طبَّقَت الحكومة إجراءات إغلاق جديدة، يوم الإثنين 21 يونيو/حزيران.
وتُصارع جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث أودى الفيروس بحياة أكثر من 5% من المُشرِّعين في البلاد، موجة ثالثة، مع تعثُّرها في طرح اللقاحات، حسب New York Times.
وأبلغت جنوب إفريقيا، الدولة الأكثر تضرُّراً في القارة، عن تضاعُف الإصابات الجديدة في غضون أسبوعين فقط، مع الزيادة الأكثر حِدَّة في المراكز الحضرية الرئيسية. وتعاني تونس، حيث تمتلئ المستشفيات بالمرضى وتفتقر إلى إمدادات الأوكسجين، من موجةٍ رابعة.
وقال الدكتور نغوزي إيروندو، كبير الباحثين في مجال الصحة في معهد أونيل بجامعة جورج تاون الأمريكية: "تخلق السلالات الجديدة سريعة الانتقال وضعاً محفوفاً بالمخاطر في العديد من البلدان التي لديها أنظمة صحية ضعيفة".
عمال جاءوا من الهند جلبوا النسخة المتحورة
في كيزومو بكينيا، اكتشف مسؤولو الصحة لأول مرة سلالة دلتا في أوائل مايو/أيّار، بين عمال المصانع الذين وصلوا من الهند. ومنذ ذلك الحين، انتشر المرض إلى المقاطعات المُجاوِرة، حيث قال الأطباء إن المرضى كانوا يعانون من أعراضٍ أكثر حِدَّة مِمَّا واجهوه في وقتٍ سابق في الجائحة.
وامتدَّت زيادة الإصابات إلى المستشفيات العامة والخاصة، حيث قال كثيرون إنهم أُبعِدوا من المستشفيات أو أُحيلوا إلى مستشفياتٍ بعيدة عنهم، في العاصمة نيروبي، على بُعدِ أكثر من 220 ميلاً.
مستشفى ياراموغي أودينغا التعليمي، وهو المستشفى العام الرائد في المنطقة، يحتوي على 130 سريراً للعزل، ولكنه غُمِرَ بالإحالات من المستشفيات في المقاطعات القريبة. وقال الدكتور جورج راي، المدير التنفيذي للمستشفى، إنه يشعر بـ"الحصار"، ويخشى أن تنضب احتياطات الأوكسجين بسبب الطلبات المتزايدة.
وقال: "إذا كانت كيزومو تمثِّل الوضع في إفريقيا بشكلٍ عام، فإن كيزومو تتطلَّب خطةً وطنيةً للتعامل مع الفيروس، وتلقيح الجميع، والحصول على المعلومات الضرورية لمنعه، وإقناع الجميع بعدم التزاحم".
وقال موسى إسماعيل، رئيس جمعية كيزومو الإسلامية، إن المسلمين في كينيا صاروا يدفنون في بعض الأحيان شخصين إلى ثلاثة أشخاص يومياً في الأسابيع الأخيرة، في المقابل كانوا يدفنون شخصاً واحداً فقط كلَّ بضعة أشهر من قبل. وقال زابلون أوانغ، السكرتير التنفيذي لنقابة المعلمين في المنطقة، إنه شارك في دفن العديد من المعلمين في الأسابيع الأخيرة. وقالت سالي أوكودو، عضوة مجلس المدينة، إن هناك ارتفاعاً مفاجئاً في الوفيات بين ناخبيها في المدينة.
ويقول العاملون في مجال الرعاية الصحية في المرافق العامة إن العديد منهم أُصيبوا بالعدوى، وهم ينتظرون جرعاتهم الثانية من اللقاح، ويأسفون لنقص المعدَّات الوقائية والتأمين الصحي.