يواصل خليفة حفتر وضع العراقيل أمام السلطة الموحدة الجديدة في ليبيا، وآخرها رفض الميليشيات التابعة له فتح الطريق الساحلي "مصراته-سرت"، فهل حانت لحظة مواجهة اللواء المتقاعد؟
فرغم إعلان حفتر دعمه للمسار السياسي في ليبيا، والذي نتج عنه تشكيل مجلس رئاسي وحكومة وحدة وطنية تحظيان بالاعتراف الدولي ودعم جميع الأطراف داخل وخارج البلاد، فإن زعيم ميليشيات شرق ليبيا يصر على الإشارة لنفسه بقائد الجيش الوطني الليبي، ويواصل تحدي المسار السياسي وما نتج عنه.
ويتولى المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي منصب القائد الأعلى للجيش الليبي، بينما يتولى رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة منصب وزير الدفاع، وهو ما يعني أن خليفة حفتر لا يحمل أي صفة رسمية في ليبيا حالياً، لكن الأمر على أرض الواقع مختلف، فقد أعلن حفتر قبل أيام إغلاق الحدود الليبية مع الجزائر، وردت السلطة المعترف بها دولياً بإصدار بيان يمنع التحركات العسكرية إلا بإذن منها.
مرتزقة فاغنر يتحدون السلطة الليبية
والأحد 20 يونيو/حزيران الجاري، أعلن الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية، أنه أعاد فتح الطريق الساحلي الرئيسي على خط المواجهة، لكن ميليشيات حفتر لم تسمح لموكب الدبيبة بالوصول إلى سرت، واضطرته للعودة نحو الغرب مرة أخرى، ما يسلط الضوء على العقبة الأكبر التي تهدد عملية السلام الهشة في البلاد.
فقد أزال الدبيبة كومة من الرمال تسد الطريق عند الحاجز الأمني الأخير على الجانب الغربي من الخط الأمامي للطريق السريع (مصراتة-سرت)، باستخدام آلية جرافة، وقال نلتقي قريباً في سرت قبل أن ينطلق في موكب من السيارات صوب المدينة الخاضعة لسيطرة قوات الشرق.
وتوجَّه موكب الدبيبة شرقاً صوب سرت، لكنه توقّف عند نقطة قرب مواقع قوات حفتر، حيث أغلقت حاويات شحن وحواجز الطريق، ما اضطر الموكب للعودة أدراجه.
ثم أعلنت وحدة إعلامية تابعة لقوات شرق ليبيا بقيادة خليفة حفتر أن الطريق لا يزال مغلقاً، وأنه لا صحة لما أشيع عن إعادة فتحه، ما يسلط الضوء على التحديات التي تواجه الدبيبة، الذي تحظى حكومته رسمياً باعتراف طرفي النزاع في ليبيا وداعميهما الأجانب.
ودعا اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم إبرامه بعد فشل هجوم قوات حفتر على طرابلس، والذي استمر 14 شهراً، إلى إعادة فتح الطريق الساحلي وانسحاب كل المرتزقة الأجانب من خط المواجهة، لكن مرتزقة فاغنر الروس الداعمين لحفتر ظلوا متمركزين داخل وحول سرت، وعلى امتداد الطريق الساحلي سلط الحاجز الأمني المغطى ومحطة وقود محترقة الضوءَ على استمرار التوتر.
الأمم المتحدة وضرورة فتح الطريق الساحلي
وأكدت الأمم المتحدة، الإثنين 21 يونيو/حزيران، على ضرورة إعادة فتح الطريق الساحلي، ضمن عملية تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين طرفي النزاع في البلد الغني بالنفط. وشدَّد المتحدث باسم أمين عام الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، على أهمية انسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة كافة من ليبيا.
واعتبر دوجاريك، خلال مؤتمر صحفي، أن "إعادة فتح الطريق الساحلي هو أمر بالغ الأهمية لتنفيذ اتفاق أكتوبر/تشرين الأول (الماضي)، المتعلق بوقف إطلاق النار".
ولسنوات، عانت البلاد من صراع مسلح، فبدعم من دول عربية وغربية ومرتزقة ومقاتلين أجانب، قاتلت ميليشيا حفتر حكومة الوفاق الوطني السابقة، المعترف بها دولياً.
وبرعاية الأمم المتحدة، وقّع طرفا النزاع هذا الاتفاق، وهو ينص على انسحاب المرتزقة الأجانب من ليبيا خلال 3 أشهر من تاريخ التوقيع، وهو ما لم يتم على أرض الواقع، إذ يتمركز في مدينة سرت (وسط) ومطارها مرتزقة من شركة "فاغنر" الروسية، الداعمة لميليشيا حفتر.
وأثنى دوجاريك على "الجهود القوية المبذولة من اللجنة العسكرية المشتركة 5+5، والعمل مع السلطة التنفيذية المؤقتة لضمان فتح الطريق الساحلي". وتضم هذه اللجنة 5 أعضاء من الحكومة الليبية الشرعية، و5 من طرف ميليشيا حفتر.
وتابع: "الأهم من ذلك كله هو ضرورة بدء انسحاب المقاتلين الأجانب والمرتزقة والقوات الأخرى، من دون تأخير أكثر من ذلك. نواصل عزمنا على دعم تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، بما في ذلك من خلال النشر التدريجي لعناصر مراقبة وقف إطلاق النار، التابعين للأمم المتحدة".
هل يؤدي مؤتمر برلين2 إلى شيء ملموس؟
من المهم هنا التوقف قليلاً عند الصورة الأكبر لما يجري على الأرض في ليبيا، قبل يوم واحد من انطلاق مؤتمر برلين2، الأربعاء 23 يونيو/حزيران، بحضور الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالملف، والذي يحضره وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في إشارة على عودة واشنطن للعب دور مؤثر بعد أن تسببت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في تعقيد الأمور بصورة غير متوقعة.
كان ترامب قد أربك الجميع عندما أجرى اتصالاً بحفتر، في أبريل/نيسان 2019، بعد بدء الأخير هجومه الفاشل على طرابلس، لمحاولة الإطاحة بالحكومة المعترف بها دولياً، وفرض نفسه حاكماً عسكرياً على ليبيا. وتسعى إدارة بايدن حالياً إلى إخراج مرتزقة فاغنر الروس من ليبيا عبر تطبيق بنود المسار السياسي المتفق عليه، وإجراء الانتخابات في ليبيا بنهاية العام كما هو متفق عليه.
ومنذ تولي السلطة الموحدة الحالية مهامها، في مارس/آذار الماضي، كان واضحاً لجميع الأطراف أن العقبة الأساسية التي تواجه تلك السلطة تتمثل في توحيد المؤسسة العسكرية، خصوصاً أن حفتر لم يبدِ أي بادرة على استعداده لإنجاح تلك الخطوة، متذرعاً بضرورة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا أولاً.
ويواصل حفتر تحديه للسلطة الموحدة، رغم اعترافه الشكلي بها. ففي اليوم الذي عقد فيه محمد المنفي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة اجتماعاً مع هيئة الأركان في الجيش الليبي، قام حفتر بإجراء تدريبات عسكرية ضخمة في بني غازي، ضارباً عرض الحائط بحقيقة كونه لا يحمل صفة رسمية من الأساس. ولا يتحدث حفتر عن مرتزقة فاغنر ولا الجنجويد وغيرهما، والذين يمثلون القوام الأساسي لقواته في الشرق، بينما أظهرت تقارير قيام المرتزقة الروس بحفر خنادق وإقامة حواجز توحي بأن المرتزقة الروس لا ينوون مغادرة ليبيا قريباً.
وقد اتخذ المنفي والدبيبة عدداً من القرارات والخطوات التي فسرها أغلب المراقبين على أنها رسائل مباشرة لحفتر، ربما كان أبرزها حضور الدبيبة حفلاً لتخريج دفعتين من الكليات العسكرية في طرابلس (بركان الغضب)، كان آخرها مطلع الشهر الجاري.
ونشر موقع Arab Weekly تقريراً بعنوان "رسالة الدبيبة لحفتر: بركان الغضب نواة الجيش الليبي"، رصد فيه التغيير في المشهد الليبي في هذه المرحلة عما كانت عليه الأمور في 2019، عندما انقلب حفتر فجأة على المسار السياسي وشن هجومه الفاشل على طرابلس.
إذ رغم أن كثيراً من المحللين عبّروا عن القلق من أن يعيد التاريخ نفسه في ليبيا، ويعاود حفتر انقلابه على المسار السياسي، ويسعى لمهاجمة طرابلس مرة أخرى، إلا أن هناك تغييرات كبيرة في المشهد الآن، تجعل مغامرة كهذه غير مرجحة، وحتى إن أقدم عليها اللواء المتقاعد كخيار يائس ليبقى في الصورة، لن تكون تكراراً لما حدث من قبل من حيث طول المدة.
فالآن تحظى العملية السياسية بدعم مصر وتركيا، في ظل تقارب متنامٍ بين القاهرة وأنقرة، مع تفهُّم الأخيرة لموقف الأولى، المتعلق بالعمق الاستراتيجي والأمن القومي للجارة العربية. وربما يمثل هذا المتغير نقطة الضعف الأبرز في موقف حفتر الآن، الذي كان يحظى بالدعم الكامل من جانب القاهرة، عندما شنّ هجومه الفاشل على طرابلس.
ورغم أن حفتر لا يزال يحظى بدعم الإمارات وروسيا، فإن الموقف الأمريكي الرافض تماماً لوجود مرتزقة روسيا على الأراضي الليبية متغير آخر لم يكن موجوداً في المرة السابقة.
وفي هذا السياق، قال مبعوث واشنطن الخاص لليبيا، أمس الإثنين، إن الولايات المتحدة تجري محادثات مع بعض الأطراف المهمة في البلاد، بشأن انسحاب قوات أجنبية قبل الانتخابات المقررة في ديسمبر/كانون الأول.
وقال المبعوث الخاص لليبيا ريتشارد نورلاند للصحفيين، إن جزءاً من أهمية الانتخابات في ليبيا يكمن في أن حكومة قوية شرعية ويعتد بها قد تضغط على الأطراف الأجنبية لسحب قواتها.
نورلاند كان يتحدث قبل توجه وزير الخارجية بلينكن إلى برلين للمشاركة في المؤتمر الثاني بشأن ليبيا هذا الأسبوع، وقال: "سيكون ذلك تطوراً مهماً للغاية ومؤثراً جداً، لكننا لا نقترح الانتظار حتى العام المقبل في محاولة لتحقيق بعض التقدم". وأضاف "هناك مفاوضات جارية مع بعض الأطراف المهمة، تهدف إلى محاولة دفع بعض المرتزقة والمقاتلين الأجانب للرحيل"، بحسب رويترز.
الخلاصة هنا هي أن المسار السياسي في ليبيا لا يزال مهدداً بنفس العقبة التي أدت لإفشاله في المرة السابقة، وهو ما يطرح تساؤلاً رئيسياً أمام جميع الأطراف: هل حانت لحظة التصدي لطموحات حفتر في فرض نفسه حاكماً عسكرياً على ليبيا، بمساعدة مرتزقة فاغنر الروس؟.