"هذه الطائرات المتطورة أمامها بضعة أشهر فقط ثم تتوقف عن الطيران"، لا يبدو هذا حال مروحيات UH-60 بلاك هوك الأفغانية فقط، بل إنه مصير قد يواجه جزءاً كبيراً من أسلحة الجيش الأفغاني، في ظل ترقبه لانسحاب المتعاقدين الأمريكيين المسؤولين عن الصيانة وغيرها من المهام الحيوية مع بقية القوات الأمريكية.
فمنذ تأسيس الأمريكيين للجيش الأفغاني اعتمد الأخير بشكل كبير على الشركات الأمريكية والأجنبية في أعمال الإصلاح والصيانة والتزويد بالوقود والتدريب والمهام الأخرى اللازمة لاستمرار عمله.
لكن هذه الشركات بدأت تعد العدة للرحيل مع الجيش الأمريكي، لتترك فراغاً يقول قادة البلدين إنه قد يشلّ حركة القوات الأفغانية في قتالها مع طالبان الذي تخوضه وحدها، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
المشكلة أكبر في القوات الجوية
وهذه المشكلة تزداد خطورة مع القوات الجوية الأفغانية على وجه الخصوص، فأسطولها الصغير المتطور لا يوفر الدعم الجوي للقوات المحاصرة فحسب، بل هو ضروري أيضاً لتزويد المئات من المواقع والقواعد العسكرية في البلاد بما تحتاجه وإخلائها، وحماية الخط الرفيع الفاصل بين الحكومة والأراضي التي تسيطر عليها طالبان.
ويعتقد أن القوات الجوية الأفغانية، التي رعتها الولايات المتحدة وشركاؤها لتصل قيمتها إلى 8.5 مليار دولار منذ عام 2010، ستكون الآن رأس حربة الحكومة في قتالها ضد طالبان، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Los Angeles Times الأمريكية.
منذ الأول من مايو/أيار، الموعد النهائي الأصلي لانسحاب الولايات المتحدة، تغلب جيش طالبان على الجيش الأفغاني في معركة السيطرة على 23 مقاطعة على الأقل حتى الآن، وفقاً لوسائل الإعلام المحلية. وقد حرم هذا التقدم قوات الأمن الأفغانية من استخدام الطرق، مما يعني أن كل الدعم اللوجستي لآلاف من نقاط الجيش والشرطة ونقاط التفتيش – بما في ذلك إعادة إمداد الذخيرة والطعام أو الإجلاء الطبي أو تناوب الأفراد – يجب أن يتم عن طريق الجو. والنتيجة هي إيقاع تشغيلي لا يستطيع الطيارون تحمله. تتجاوز طائراتهم بشكل روتيني الحد الأقصى لعدد الساعات المسموح لهم بالطيران.
ومع تراجع قدرة القوات الجوية الأفغانية على صيانة طائراتها، يحرص الطيارون الأفغان الذين يحلقون فوق الأراضي التي تسيطر عليها طالبان على سلامة طائراتهم بقدر حرصهم على نجاح مهمتهم.
وكان أحد الطيارين قد قال بصراحة، أثناء استعداده للتحليق لاستعادة جنود أفغان في منطقة محاصرة، إنه توجد "الكثير من المشكلات" في القوات الجوية الأفغانية وإنها بحاجة "لدعم أمريكي". وقد أصيبت طائرته المروحية بعدة رصاصات ونجح بالكاد في تفادي قذيفة صاروخية.
وخلُصت قيادة البنتاغون المعنية بتقديم التدريب والمشورة والمساعدة للقوات الجوية الأفغانية، المعروفة باسم TAAC-Air، في يناير/كانون الثاني الماضي، إلى أن الطائرات الأفغانية لا يمكنها الصمود في القتال لأكثر من بضعة أشهر في غياب دعم الشركات، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times.
أمريكا أنشأت الجيش الأفغاني على طريقتها
المشكلة الأعمق أنه على مدى العقدين الماضيين، أنشأت الولايات المتحدة الجيش الأفغاني على طريقتها الخاصة، حيث اعتمدت قوات الأمن الأفغانية على حوالي 18 ألف متعاقد في كل شيء بدءاً من شراء الوقود والرصاص إلى أداء كشوف المرتبات إلى المهام الحاسمة المتمثلة في صيانة 162. الطائرات المستخدمة من قبل القوات الجوية الأفغانية وتدريب الطيارين الذين يقودونها.
تمثل المروحية بلاك هوك نموذجاً لتخبط السياسة الأمريكية في أفغانستان وكيف أثر ذلك على أسلحة الجيش الأفغاني. كانت القوات الجوية الأفغانية تعتمد على المروحيات الروسية ميل مي17، وهي طائرة عرفها الميكانيكيون الأفغان منذ الحقبة السوفييتية ويمكنها التعامل مع أكثر من 80٪ من صيانتها.
لكن العقوبات الأمريكية على روسيا تعني وقف استيراد أجزاء ميل مي17، ومن هنا تقرر استبدالها بالبلاك هوك.
قال الجنرال جون ميشيل، جنرال متقاعد بالقوات الجوية الأمريكية أشرف على مهمة الناتو لبناء قوة جوية أفغانية حديثة: "قدمنا نظاماً معقداً في وقت متأخر من المباراة، والآن ننهيها قبل ثلاث سنوات من الموعد المحدد".
وأشار تقرير رسمي إلى أن الأفغان ليس لديهم أي قدرة حتى الآن على على صيانة مروحيات UH-60 بلاك هوك الأمريكية الصنع.
وقال أحد المسؤولين الأمريكيين إن الأفغان لن يتمكنوا من صيانة أسطول بلاك هوك بأنفسهم حتى منتصف عام 2030، حسب The New York Times.
إلى جانب ذلك، كان طراز ميل مي 17 الروسي أفضل للمعارك، حسبما نقلت صحيفة Los Angeles Times عن الجنرال ميشيل.
وهناك قصور في قدرات طائرات بلاك هوك في التحليق على ارتفاعات عالية بحمولة مماثلة لحمولة MI-17.
يستغرق تدريب مشرف على المستوى الروتيني 18 شهراً؛ أما لكي يصل لمستوى متقدم فيحتاج أكثر من سبع سنوات. على الرغم من إرسال أفغان إلى سلوفاكيا لمدة تسعة أشهر لتعلم كيفية الحفاظ على طائرات UH-60، فإن الوباء أدى إلى أن المقاولين لم يقدموا لهم تدريباً عملياً عندما عاد الطلاب إلى أفغانستان.
ومن جانبه، قال الجنرال كينيث ماكنزي جونيور، رئيس القيادة المركزية في البنتاغون، التي تشرف على أفغانستان، أمام لجنة بمجلس الشيوخ بواشنطن في أبريل/نيسان: "تقلقني قدرة الجيش الأفغاني على الصمود بعد رحيلنا، وخصوصاً قدرة القوات الجوية الأفغانية على الطيران، بعد أن نتوقف عن دعم تلك الطائرات".
وهذه المشكلة في جوهر المناقشات المعقدة الدائرة بين المسؤولين في إدارة بايدن، الذين يحاولون إيجاد حلول للمشكلات العديدة المترتبة على قرار الرئيس بايدن سحب جميع القوات الأمريكية -والشركات التي تدعمها- من أفغانستان. ومن المتوقع أن يكتمل الانسحاب بين أوائل ومنتصف يوليو/تموز.
أمريكا ملزمة بعدم التعاقد مع شركات لصيانة أسلحة الجيش الأفغاني
يقول المسؤولون في البنتاغون إن أحد الحلول الممكنة لهذه المشكلة يتمثل في نقل العقود المبرمة مع هذه الشركات الخاصة التي تدفع لها الولايات المتحدة إلى الحكومة الأفغانية.
وبموجب هذا النظام، ستظل الشركات الأمريكية والأجنبية الأخرى في أفغانستان، لكن المسؤولين الأفغان هم من سيدفعون لها من المساعدات الخارجية، التي تقدم الولايات المتحدة معظمها.
وبإمكان البنتاغون والحكومة الأفغانية بهذه الطريقة الالتفاف على شروط الاتفاق الذي أبرمته الولايات المتحدة مع طالبان، والذي نص على عدم تشغيل الأمريكيين لشركات خاصة في البلاد بعد الانسحاب.
وقال وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت غيتس في مقال نشر هذا الأسبوع في صحيفة The New York Times: "يجب أن نشجع الحكومة الأفغانية على الاحتفاظ بدعم الشركات للقوات الجوية الأفغانية والعناصر اللوجستية والتشغيلية الرئيسية الأخرى لقوات الأمن الأفغانية، ويجب أن ندفع مقابل هذا الدعم (بما في ذلك الأمن الخاص لحماية هذه الشركات)".
فساد على فساد
يُشار إلى أن الشركات في أفغانستان تعمل منذ فترة طويلة في إطار نظام عرضة للفساد وسوء الإدارة. ويلفت المشرعون والمحللون المستقلون إلى أن تلقيها مدفوعاتها من خلال كيان آخر -الحكومة الأفغانية في هذه الحالة- يجعلها أكثر عرضة لتهم الفساد.
ويقول عدد من كبار القادة وصناع القرار الأمريكيين إنه حتى لو نُقلت العقود، يظل من غير المعلوم عدد الشركات الأجنبية التي ستختار الاستمرار في العمل في أفغانستان بعد رحيل المظلة الأمنية الأمريكية أو إن كانت هذه الشركات ستُخاطر.
ومن الأفكار الأخرى المطروحة نقل الطائرات خارج البلاد لإجراء أي إصلاحات كبيرة. لكن مسؤولاً في البنتاغون يقول إن هذا على الأرجح سيكون مكلفاً جداً، وقد ينتهي بتكليف دافعي الضرائب الأمريكيين أكثر مما يدفعونه الآن لصيانة القوات الجوية الأفغانية وطائراتها داخل البلاد.
وقال روبرت لودويك، أحد المتحدثين باسم البنتاغون، في رسالة إلكترونية أُرسلت يوم السبت، إن العقود المبرمة مع القوات الجوية الأفغانية وجناح مهمتها الخاصة "عُدِّلت، والشركات تواصل تقديم دعمها". وقال لودويك إنه لا يمكنه تحديد شركات معينة أو تقديم تفاصيل عن كيفية توفير الصيانة والدعم اللوجستي.
وهذه المشكلات، للقوات الأفغانية بعد انسحاب الجيش الأمريكي، لا تزال قيد البحث. وكونها لا تزال قيد البحث حتى مع استعداد آخر الجنود الأمريكيين للرحيل يشير إلى سنوات من الانفصال بين البنتاغون وسلسلة من الرؤساء، سعوا جميعهم، في مرحلة معينة، إلى تقليص الوجود الأمريكي في البلاد بدرجة أكبر مما يراه المسؤولون في الجيش ووزارة الدفاع.
بكلمات أخرى من الواضح أنه بينما كان رؤوساء أمريكا يحاولون الخروج من أفغانستان، فإن قادة الجيش لم يحاولوا تنفيذ ذلك على الأرض.
ونهاية العام الماضي، أفادت قيادة التدريب الأمريكية بأن 136 طائرة فقط من أصل الـ167 طائرة التي يضمها الأسطول الأفغاني جاهزة لمهام قتالية أو ستكون كذلك بعد صيانة طفيفة، أي بانخفاض عن الأشهر الثلاثة السابقة بـ 24 طائرة.
ووجدت قيادة التدريب أيضاً أن أفراد الأطقم الجوية استخدموا هذه الطائرات بدرجة تفوق طاقتها، متجاوزين عدد ساعات الطيران الموصى بها بين مواعيد فحوصات الصيانة.
وقال مسؤول أمريكي: "هذه الخطة التي لدينا في المستقبل المنظور لن تنجح بالدرجة التي نحتاجها".