قدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لنظيره الأمريكي جو بايدن "خطة من 3 مراحل" لإخراج المقاتلين الأجانب والمرتزقة من ليبيا، ما يطرح تساؤلات حول ما يريده ماكرون هذه المرة.
التساؤلات بشأن الهدف الذي قد يكون الرئيس الفرنسي يسعى إلى تحقيقه سببها كون ماكرون أصبح معروفاً بتقديم الأفكار الكبرى بشأن العديد من الملفات دون أن يصادفه نجاح يذكر في أي منها، بحسب المحللين.
ففي لبنان، على سبيل المثال، وفي أعقاب تفجير مرفأ بيروت الصيف الماضي، أصدر الرئيس الفرنسي تصريحات كبرى وأعطى مهلة للسياسيين في لبنان لتشكيل حكومة، وقام بزيارتين إلى العاصمة بيروت، وفي النهاية لم يتحقق أي شيء ولا يزال لبنان يعاني من الجمود ووصل إلى حافة الهاوية بالفعل.
ما تفاصيل خطة ماكرون هذه المرة؟
خطة الرئيس الفرنسي، التي اطلعت عليها مجلة Politico الأمريكية، عبارة عن مقترح من صفحتين يضع جدولاً زمنياً لانسحاب المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا خلال ستة أشهر، تبدأ المرحلة الأولى من المقترح بانسحاب المقاتلين السوريين الذين تدعمهم تركيا ويعقب ذلك في المرحلة الثانية انسحاب مرتزقة فاغنر الروس والقوات النظامية التركية من البلاد.
وقال مسؤولون للمجلة الأمريكية إن المقترح الفرنسي كان متداولاً على مدى الأسابيع الماضية بين الدبلوماسيين من الدول المعنية بالملف الليبي، لكن ماكرون قدم المقترح بشكل مباشر لنظيره الأمريكي بايدن خلال اجتماعات مجموعة السبع في بريطانيا، ثم عرضه على نظيره التركي رجب طيب أردوغان خلال اجتماعات حلف الناتو في بروكسيل.
ويبدو أن المقترح الفرنسي هو محاولة لتحريك الجهود المتعثرة لإخراج المقاتلين الأجانب من ليبيا، بعد أن فشلت خطتان سابقتان لتحقيق هذه الغاية التي تعتبر حيوية بالنسبة لاستقرار البلاد وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في موعدها المقرر نهاية العام الجاري، بحسب مسار ملتقى الحوار الليبي برعاية الأمم المتحدة.
وتقترح المرحلة الثالثة من "خطة ماكرون" توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، المنقسمة حالياً بين قوات الغرب التي تدعم الحكومة المعترف بها دولياً، وبين ميليشيات الشرق التي يقودها حفتر. وتعني الخطة الفرنسية أنه في تلك المرحلة- حال تنفيذ المرحلتين الأولى والثانية- أن القوة العسكرية المسيطرة ستكون ميليشيات حفتر في الشرق، وهذا ما يجعل قبول الطرف الداعم لطرابلس والحكومة المعترف بها دولياً، أي تركيا، أمراً صعباً، خصوصاً أن تلك الخطة تعتبر مكافأة لحفتر على هجومه الفاشل على طرابلس، بحسب المجلة الأمريكية.
وهذه النقطة تؤكد على موقف فرنسا الداعم لحفتر، حيث كانت باريس قد قدمت له الدعم العسكري لتقوية موقفه، في إطار اختيارها للتحالف معه أثناء الحرب على الجماعات المتطرفة في المنطقة خلال عامي 2016 و2017. واستمر الدعم الفرنسي لحفتر خلال حصاره الفاشل لطرابلس وحتى هزيمته وتقهقره إلى الشرق مرة أخرى.
فعلى الرغم من أن تولي حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة والمجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي المسؤولية في ليبيا بتوافق دولي منذ مارس/آذار الماضي، إلا أن انقسام المؤسسة العسكرية لا يزال قائماً، والسبب الرئيسي هو أن خليفة حفتر يرفض أن يكون القائد العام للجيش تحت سلطة الحكومة المدنية؛ وهي الذريعة التي بنى عليها انشقاقه وانقلابه على حكومة الوفاق واتفاق الصخيرات من قبل.
ماذا يريد ماكرون هذه المرة؟
يبدو أن الفكرة من وراء "خطة ماكرون" هي الاستفادة من الثقل الأمريكي ومحاولة إقناع جو بايدن بأن يمارس ضغوطاً على روسيا وتركيا لسحب قواتهما من ليبيا، وهو ما يعتبره كثير من المحللين تحولاً تكتيكياً من جانب الرئيس الفرنسي. فماكرون كان يقدم الدعم للجنرال خليفة حفتر زعيم ميليشيات شرق ليبيا- أو قائد الجيش الليبي كما يسمي نفسه، لكن بعد هزيمة حفتر وفشل هجومه على طرابلس، يسعى ماكرون إلى انتهاج أسلوب مختلف قد ينتج عنه تحقيق نصر في السياسة الخارجية لن يحسب لماكرون نفسه بل لجو بايدن.
وقال طارق مغريسي، خبير الشؤون الليبية في المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية، لمجلة بوليتيكو إن "هذا (مقترح ماكرون) يمكن أن ينسجم مع السياسة الأمريكية. فالأمريكيون يعتمدون على الشكل أكثر من المضمون فيما يتعلق بليبيا، ويعولون بشكل مكثف على الحلفاء الرئيسيين رغم الشراكة معهم".
لكن "خطة ماكرون" المقترحة تحمل إشكالية ضخمة تتمثل في أنها تساوي بين المرتزقة الروس الذين يدعمون ميليشيات حفتر من جهة وبين القوات التركية التي جاءت إلى ليبيا بناء على دعوة رسمية من الحكومة المعترف بها دولياً وتعمل من خلال اتفاقيات عسكرية وأمنية بين البلدين من جهة أخرى، بحسب تقرير المجلة الأمريكية.
ولم تعلق الإدارة الأمريكية على خطة ماكرون، وقال مسؤول بارز لمجلة بوليتيكو تعليقاً عليها: "إننا نجري مشاورات مع عدد من الشركاء الليبيين والدوليين لنحثهم على إظهار الاحترام الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار والدعوة لمغادرة جميع العناصر الأجنبية".
وقال مسؤولون أمريكيون إن بايدن ناقش الملف الليبي بشكل عام مع نظيره التركي أردوغان خلال لقائهما الذي استغرق أطول مما كان متوقعاً له، أثناء قمة الناتو، الإثنين الماضي، وكان من المتوقع أن تكون ليبيا أيضاً على أجندة لقاء بايدن والرئيس الروسي بوتين التي عقدت في جنيف الأربعاء.
مشكلة "خطط ماكرون"
لكن تظل المشكلة الأبرز هي محاولة إقناع تركيا بالمقترح الفرنسي، إذ إن المساواة بين القوات التركية ومرتزقة فاغنر أمر توقع المراقبون أن يغضب المسؤولين الأتراك. "يبدو أن خطة ماكرون مصممة لإغضاب تركيا بينما تتجاهل روسيا بشكل كبير"، بحسب مغريسي: "وجود مرتزقة فاغنر في ليبيا لا يوجد له أساس قانوني وهم يمثلون تهديداً لأوروبا، ويظلون على الأرجح التهديد الاستراتيجي الأبرز للانتخابات في ليبيا".
وعندما واجه ماكرون أسئلة جادة بشأن "خطته" وتفاصيلها وما إذا كان نظيره التركي أبدى موافقته على انسحاب القوات التركية، تجاهل الرئيس الفرنسي تقديم إجابات وركز حديثه على ما وصفه بأنه اتفاق عام على ضرورة انسحاب المقاتلين الأجانب، كما لم يقدم ماكرون إجابات واضحة بشأن الجدول الزمني المقترح للانسحاب. "أكد الرئيس أردوغان، خلال اجتماعنا، على رغبته في مغادرة المرتزقة والميليشيات الأجنبية الأراضي الليبية بأسرع ما يمكن، كما عبر عن رغبته في العمل معاً على هذا الأمر".
كما حذر ماكرون من أن فرنسا وتركيا لا يمكنهما أن تحلا المشكلة وحدهما بالضرورة، ذاكراً دور دول أخرى بينها مصر والإمارات والسعودية وقطر، دون أن يأتي على ذكر روسيا: "الانسحاب لا يعتمد بشكل كامل على موقفنا نحن فقط (فرنسا وتركيا)".
اللافت في خطة ماكرون وإجاباته عن أسئلة الصحفيين بشأن تفاصيلها هو تفاديه الحديث عن روسيا، رغم أنه لا يبدو أن مرتزقة "فاغنر" يستعدون للخروج من البلاد. فقد كانت شبكة CNN الأمريكية نشرت تقريراً قبل أسابيع يظهر المرتزقة الروس الداعمين لحفتر وهم يحفرون خندقاً ويقيمون تحصينات لتأمين مواقعهم في سرت والجفرة، في إشارة واضحة إلى أنهم ينوون البقاء في البلاد.
وفي النهاية تظل المعضلة الأبرز في ليبيا متمثلة في حفتر نفسه، الذي يصر على أنه القائد العام للجيش الليبي، وكان يوم 29 مارس/آذار الماضي بالتحديد مؤشراً على حجم تلك المعضلة. فقد شهد ذلك اليوم حدثين متوازيين ومتناقضين تماماً في آن معاً. الأول هو عقد محمد المنفي، رئيس المجلس الرئاسي، اجتماعه الأول بصفته قائداً أعلى للجيش الليبي، والثاني جرى في الشرق وكان عبارة عن اختتام تدريبات عسكرية مكثفة بحضور حفتر "القائد العام للجيش الليبي"، تحدث خلاله حفتر عن ضرورة "رفع الكفاءة القتالية" لقواته.
وفي هذا السياق، أعادت "خطة ماكرون" للأذهان موقفاً مشابهاً للرئيس الفرنسي في ليبيا أيضاً يرجع إلى عام 2017، حين أعلن عما سماها وقتها "خطة النقاط الساخنة" في ليبيا، خلال زيارته مركزاً للاجئين في نيو أورليانز بالولايات المتحدة.
وقتها قال ماكرون: "الفكرة هي إنشاء نقاط في ليبيا لمنع الناس من المجازفات الجنونية في حين أنهم ليسوا جميعاً مؤهلين للحصول على اللجوء.. أعتزم إنشاء هذه المراكز هذا الصيف، مع أو بدون أوروبا. أريد أن أرسل بعثات من "المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين وعديمي الجنسية" إلى النقاط الساخنة في إيطاليا وكذلك أنا مستعد لإرسال بعثات إلى ليبيا.
وجاءت "خطة ماكرون" وقتها في إطار مساعي فرنسا للعب دور أكبر في ليبيا، في وقت كانت فيه حكومة الوفاق الوطني في طرابلس معترفاً بها دولياً وتسعى إلى إعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية، لكن باريس اختارت وقتها دعم خليفة حفتر؛ وهو ما أدى إلى تعميق الانقسام، وصولاً إلى مغامرته العسكرية الفاشلة وهزيمته في النهاية، فهل يعيد التاريخ نفسه وتعود الأمور إلى نقطة الانفجار مرة أخرى؟