على الأرجح لن يعرف العالم كيف تفشى فيروس كورونا وتحول إلى جائحة عالمية، ببساطة لأن الصين قد لا تتعاون مع أي تحقيق جاد في هذا الشأن، ولا يعني ذلك أن بكين بالضرورة تخفي أمراً مؤكداً.
وعلى الرغم من مرور أكثر من عام ونصف العام على تفشي الوباء القاتل والتوصل للقاحات متعددة لمقاومته ونجاح تلك اللقاحات بشكل واضح في الحد من خطورة كورونا، لا يزال حسم مسألة أصل الفيروس التاجي أمراً جوهرياً للقضاء عليه تماماً من جهة، وتجنب تكرار تفشي آخر قد يكون أكثر فتكاً من جهة أخرى.
وقد كشفت بالفعل دراسة حديثة أن هناك أكثر من 1.7 مليون فيروس تحمل الخفافيش أغلبها وقد تنتقل للبشر في أي وقت حال توافر الظروف المناسبة لذلك الانتقال، ورصدت الدراسة عدة أماكن تتوافر فيها غالبية تلك الظروف الآن بالفعل، يقع كثير منها داخل الصين.
هل تخشى الصين نظرية تسرب كورونا من المعمل؟
من المهم هنا عند محاولة البحث عن إجابة مقنعة لهذا السؤال أن نذكر النتائج التي توصل إليها فريق التحقيق التابع لمنظمة الصحة العالمية، والذي زار الصين وقضى بعض الوقت في مدينة ووهان- بؤرة التفشي الأولى لفيروس كورونا. ذلك الفريق خرج بثلاثة سيناريوهات تتعلق بأصل فيروس كورونا، كان الثالث فيها والأقل ترجيحاً هو أن الفيروس تسرب بطريق الخطأ من معمل للفيروسات.
وعلى الرغم من عودة نظرية التسرب من ذلك المعمل في ووهان بالصين مرة أخرى لتطل برأسها مجدداً، بعد أن طالبت بعض الدول، وعلى رأسها بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية، بإرسال بعثة تحقيق جديدة إلى الصين للبحث عن مزيد من المعلومات حول تلك النظرية، إلا أن الأدلة العلمية وآراء كثير من علماء الفيروسات لا تزال تستبعدها من الأساس ويقولون إن الفيروس حيواني وانتقل للبشر عن طريق الخفافيش؛ وهذا هو الاحتمال الأقوى حتى الآن.
من جانبها، تدعم الصين نظرية مختلفة تماماً، بدأت بالترويج لها منذ مارس/آذار عام 2020، مفادها أن فيروس كورونا لم ينشأ في الصين من الأصل بل انتقل إليها من خلال اللحوم المجمدة المستوردة من الولايات المتحدة أو إحدى الدول الأوروبية، وتقول الصين أيضاً إن أصل الفيروس يرجع إلى أحد معامل الفيروسات في ولاية فيرجينيا الأمريكية.
ومع هذا التراشق السياسي بالأساس، أصبحت مسألة حسم أصل فيروس كورونا وكيفية انتقاله للبشر ومتى حدث ذلك، وكلها تفاصيل علمية بحتة، أموراً تخضع للحسابات السياسية والصراعات الأيديولوجية؛ مما يعني أن الوصول للحقيقة لم يعد أمراً صعباً فحسب، بل ربما يكون دخل بالفعل في خانة المستحيل.
فرغم أن فرضية التسرب من معمل ووهان لا تحمل وزناً كبيراً أو بمعنى أدق تبدو غير مرجحة، فإن المسؤولين الصينيين، ابتداءً من المنظِّمين على المستوى القاعدي وحتى القيادة العليا، لديهم الكثير ليخفوه في ووهان، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
الصين لديها ما تخفيه بالفعل
وقال مسؤولون بإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مراراً إنه من مصلحة الصين أن تتعاون في تحقيقٍ بشأن أصل فيروس كورونا، وهذا بالتأكيد صحيح ومطلوب للغاية في عالمٍ مثالي تعمل فيه الدول معاً بروح البحث العلمي الصافي، والسؤال هنا: هل هذا حقاً العالم الذي نعيشه الآن؟ فالصين لا تنفي فقط أن الفيروس نتج عن تسريبٍ معملي، بل تنفي أن يكون الفيروس قد نشأ في أراضيها من الأصل.
وكانت جميع الاحتياطات التي أعقبت اندلاع فيروس سارس عام 2003 تعني أنه ببساطة لم يكن من المُفتَرَض ظهور فيروس آخر من الصين، ناهيك عن أن ما مِن بلدٍ يريد أن يتحمَّل مسؤولية حدثٍ عالمي بهذه الضخامة.
ودفعت الرغبة في تفادي هذا الإحراج السلطات الصينية إلى الترويج لمزاعمٍ تآمرية في وقتٍ مبكِّرٍ من مارس/آذار من العام الماضي بأن كوفيد-19 نشأ في الولايات المتحدة بالأساس.
ومن المُحتَمَل أن يعود الانتقال الفيروسي من أصلٍ حيواني إلى الممارسات الزراعية السيئة أو سوء التنظيم. توصَّلَ بحثٌ جديد أجراه علماء صينيون وغربيون إلى أن الحيوانات البرية كانت تُباع بكمياتٍ كبيرة في ووهان، رغم ادِّعاءات المنظِّمين خلاف ذلك.
ويعاني التنظيم الزراعي الصيني من الفساد وتفاوت القدرات- وهي مشكلاتٌ مُحرِجة عند الحديث عنها. والأمر نفسه بالنسبة لإخفاقات حكومة ووهان الموثَّقة جيداً في معالجة التفشي الأوَّلي والتورُّط المُحتَمَل للقيادة الوطنية في تأخير الاستجابة المناسبة.
هل تعرف قيادة الصين حقيقة أصل كورونا؟
من المُحتَمَل ألَّا يكون قادة الصين أنفسهم مدركين لكيفية ظهور فيروس كورونا المُستجَد. ورغم ما يدَّعونه من مراقبةٍ مستمرة، غالباً ما تكون الرؤية من الأعلى محدودة.
ويريد المتورِّطون في حادثِ معملٍ إخفاء الحادث عن السلطات الصينية بقدر إخفائه عن الأجانب. من الممكن تشديد الرقابة الصينية، كما حدث بعد الاندلاع الأوَّلي للفيروس، لكن هذه الرقابة في معظم الأحيان تكون مليئةً بالنقاط الخفية.
فقبل الجائحة، كرَّسَت بكين مواردها لقمع الإيغور والسيطرة على حرية التعبير، وليس لمراقبة الصحة الريفية أو إنفاذ التشريعات المتعلِّقة بالحياة البرية.
في غضون ذلك، يواجه المسؤولون الذين يتهرَّبون من التعاون الخارجي عواقب سياسية، فقد وصلت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين إلى أدنى مستوياتها منذ عقود، وتواجه بكين اتهامات بقيامها بعمليات التطهير السياسي في عهد الرئيس شي جين بينغ.
ونتيجةً لذلك، لن يعرض أيُّ مسؤولٍ صيني تعاوناً محفوفاً بالمخاطر مع نظرائه الأجانب دون الحصول على موافقةٍ مُطلَقة من أعلى على إجراء تحقيقٍ دولي، لا سيما عندما يكون تحقيقاً تشارك فيه الولايات المتحدة.
وعلى الأرجح لن تأتي هذه الموافقة. الخطاب المُسيَّس الذي تطلقه جزئياً أجهزة الاستخبارات نفسها المُكلَّفة بالتجسُّس على الصين يجعل ذلك مستحيلاً. وحتى مع تنامي تأثير بكين على المؤسَّسات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة، لا يزال الحزب الشيوعي الصيني ينظر إليها باعتبارها غير جديرة بالثقة، لأنها بشكلٍ أساسي خارجة تماماً عن سيطرة الحزب.
وعلاوة على ذلك، ليس هناك طلبٌ عام في الداخل للتعاون في التحقيق. وهناك تشكك كبير من جانب الشعب الصيني العادي تجاه الاتِّهامات بشأن التسريب المعملي. وتم تصوير الأطباء والعلماء الذين عملوا على فيروسات كورونا باعتبارهم متآمرين في تفشي المرض.
والدولة التي فشلت تماماً في الاستجابة للجائحة، والتي غالباً ما ترفض المساءلة الدولية (الولايات المتحدة) هي نفسها التي توجِّه الاتِّهامات ضد دولةٍ نجحت في الاستجابة (الصين)- مدفوعةً جزئياً بالسياسيين أنفسهم المتورِّطين في فشلها.
هذه الأجزاء المتناثرة للصورة عند تجميعها معاً نجد أن فرصة تعاون الصين مع أي لجنة تحقيق جديدة تكون مهمتها التحقق من أصل فيروس كورونا لن تجد أذناً مصغية في بكين مهما كانت الضغوط من جانب واشنطن وحلفائها.