الإنترنت باتت قوة لا غنى عنها في حياة البشر بجميع تفاصيلها، ومن الطبيعي كلما تعرضت بعض الخدمات لعطل مفاجئ أن يبرز التساؤل: ما احتمال أن تتعرض الإنترنت لانقطاع يستمر أياماً أو حتى أشهراً؟
وقبل أقل من أربعة أشهر، اندلعت أزمة بين فيسبوك وأستراليا أدت لفرض عملاق منصات التواصل الاجتماعي "بلوك" على القارة بأكملها مانعاً وصول جميع المواقع الإخبارية المحلية والعالمية للأستراليين لعدة أيام حتى أعلن فيسبوك أنه سيرفع الحظر (البلوك) عن أستراليا بعد أن وافقت الحكومة هناك على تعديل قانون الإعلام الذي اعترضت عليه الشركة.
تلك الأزمة أثارت تساؤلات بشأن مستقبل الإنترنت بشكل عام، في ظل تفكير كثير من الدول في التوجه نحو فرض قيود يخشى خبراء أن تؤدي إلى تفتيت الشبكة العنكبوتية العالمية إلى شبكات خاصة بكل دولة.
لكن الثلاثاء 8 يونيو/حزيران تعطلت كثير من خدمات الأعمال والترفيه وتعذر وصول ملايين المستخدمين في جميع أنحاء العالم لتلك الخدمات، وكان السبب انقطاع الخدمة في شركة غير مشهورة، وربما لم يسمع عنها أغلب سكان الكوكب قبل ذلك الانقطاع.
شركات تسريع الوصول للمواقع والخدمات
ورغم أن انقطاع الخدمة لم يستمر سوى ساعة واحدة، فإن التأثير الضخم لذلك الانقطاع أعاد التساؤلات بشأن الإنترنت ومدى صلابتها بشكل عام، ونشر موقع وكالة Associated Press الأمريكية تقريراً تناول القصة بعنوان "لن تصدق مدى هشاشة الإنترنت".
والقصة تتعلق بانقطاع الخدمة في شركة غير مشهورة تعمل على تسريع الوصول للمواقع الإلكترونية، وكيف تسبب ذلك في انقطاع الاتصال بالكثير من أبرز وجهات زوّار الإنترنت، مما أدى إلى تعطيل الكثير من خدمات الأعمال والترفيه وتعذّر الوصول إليها من قبل ملايين المستخدمين في جميع أنحاء العالم.
وتمكّن المسؤولون من حل المشكلة بسرعة وفي وقت قصير، وألقت شركة Fastly باللوم على خلل بتهيئة وإعداد تقنياتها. إلا أن الواقعة، التي أدّت إلى انخفاض أنشطة شركة Fastly بنسبة 75٪ لمدة ساعة تقريباً مع بداية وقت الذروة في الساحل الشرقي للولايات المتحدة أثارت تساؤلات حول مدى هشاشة الإنترنت العالمي أمام الاضطرابات الأخطر.
ما هي شركة FASTLY؟
لا تعتبر شركة Fastly الكائنة في سان فرانسيسكو من الأسماء الشهيرة، فلماذا أدّت مشكلاتها التقنية إلى انقطاع العديد من الخدمات؟ السبب أن العديد من أشهر المواقع الإلكترونية في العالم التي تستخدم تقنية حوسبة "الحافة" التي تقدمها الشركة. ومن تلك المواقع The New York Times، وShopify، وThe Guardian، وTicketmaster، وPinterest، وEtsy، وWayfair وStripe، كما أن الحكومة البريطانية نفسها من بين عملاء الشركة.
تقدم الشركة ما يُطلق عليه شبكة تسليم المحتوى، التي تتيح لعملائها من المواقع الإلكترونية تخزين بيانات مثل الصور ومقاطع الفيديو على العديد من خوادم المرآة في 26 دولة حتى تكون البيانات أقرب إلى المستخدمين حيثما كانوا، وبالتالي تُعرض على أجهزتهم بشكل أسرع.
والعديد من عملاء شركة Fastly من المواقع الإخبارية، ويستخدمون تقنياتها لتحديث مواقعهم الإلكترونية بالأخبار العاجلة. على سبيل المثال، يستخدم موقع Buzzfeed خدمات Fastly لتقليص الوقت الذي يحتاج إليه المستخدمون للوصول إلى الموقع الإلكتروني بمقدار النصف تقريباً. ويُذكر أن إيرادات شركة Fastly بلغت 290.9 مليون دولار أمريكي العام الماضي.
ماذا لو كانت المشكلة أخطر؟
يعتمد العملاء على شركة Fastly ومنافسيها لاستضافة وحماية بيانات مواقعهم الإلكترونية من هجمات الحرمان من الخدمات والاضطرابات الناتجة عن الزيادة الكبيرة والمفاجئة في أعداد الزيارات. وإذا كان هذا الانقطاع أكثر خطورة، فقد يجعل ذلك العملاء ينتقلون إلى شركات منافسة مثل Cloudflare أو Akamai. ولكن الأمر ليس بتلك البساطة، قد تعاني العديد من الشركات من خسائر كبيرة خلال الفترة الانتقالية.
وقال دوغ مادوري، خبير البنية التحتية للإنترنت في شركة Kentik لقياس أنشطة الإنترنت للوكالة الأمريكية: "لا يمكنك الانتقال بسرعة إلى خدمة أخرى إلا بعد الإعداد لتلك الخطوة بشكل مسبق بفترة كافية. إذا تعطلت خدمات Fastly بشكل كامل في أحد الأيام، سيكون لذلك تأثير كارثي على العديد من الشركات".
وحتى مع توافر خدمة بديلة، يرى بن أبريل، رئيس الطاقم التقني بشركة Farsight Security، أن هندسة عملية انتقال انسيابية من خدمة لأخرى "لا تناسب أصحاب القلوب الضعيفة".
وقال مادوري وخبراء آخرون إن شركة Fastly والشركات المنافسة تنفق مبالغ طائلة وتخصص موارد هندسية هائلة لتقليل احتمالات حدوث مثل تلك الانقطاعات والتأكد من قدرتها على التعافي منها بأسرع ما يمكن، كما فعلت شركة Fastly يوم الثلاثاء.
هل انقطاع خدمات الإنترنت أمر متكرر؟
تلك الانقطاعات ليست جديدة، ولكنها ليست شائعة أيضاً. قال مادوري: "قد تفصلنا سنوات بين كل انقطاع وآخر مثل ذلك. أعتقد أننا سنواجه زيادة من هذا النوع من الانقطاعات النادرة والمؤثرة للغاية في المستقبل القريب".
وعلى غرار شبكات توزيع المحتوى، هناك الحوسبة السحابية، عندما يُعهد بخدمات الحوسبة إلى خادم عن بعد، والتي يهيمن عليها عدد قليل من اللاعبين البارزين بقيادة Amazon Web Services، وGoogle وMicrosoft. وتعاني شركة Amazon، أكبر خدمة سحابية، من انقطاعات وجيزة متكررة، تمثّل مشكلة كبيرة لعملائها.
وقال جوش تشيسمان، المحلل بشركة بحوث أسواق التكنولوجيا Gartner Inc: "وإذا كان الانقطاع كبيراً، أي أكثر من ست أو ثماني ساعات، لنقل أياماً مثلاً، قد يؤدي إلى انهيار شركات وأسواق كاملة".
السؤال هنا: ما الذي قد يؤدي إلى انقطاع ضخم يدّمر بيانات العملاء؟ يمكن أن يكون السبب هجوماً إلكترونياً، أو حرائق أو كارثة طبيعية، إذ توجد بيانات تلك الشركات في مراكز بيانات ذات وجود مادي. على سبيل المثال، في شهر مارس/آذار الماضي، نشب حريق في مركز بيانات في ستراسبورغ، فرنسا، تمتلكه شركة حوسبة سحابية كبيرة، مما أدى إلى انقطاع خدمات ملايين المواقع الإلكترونية.
هل تتدخل الحكومات لتنظيم عمل تلك الشركات؟
قال تشيسمان: "لا أعلم إن كنّا بحاجة إلى تنظيم عمل تلك الشركات أم لا، أو كيف يمكن فعل ذلك بالأساس"، وأضاف: "بالتأكيد يظل بإمكان الحكومة الفيدرالية وضع معايير وقواعد جديدة لحماية الشركات التي تتحكم بمجموعة كبيرة من البيانات على الإنترنت. وقد بدأت بالفعل في تشديد متطلبات الأمن الإلكتروني للبنية التحتية الحيوية في قطاع الطاقة بعد الهجوم الإلكتروني الشهر الماضي على خط أنابيب كولونيال".
وفي أحد تقارير العام الماضي، ذكرت شركة Fastly أنها تعرضت لـ"هجوم إلكتروني من أطراف خارجية، تتضمن أطرافاً نعتقد أنها مدعومة من جهات فاعلة حكومية". وأن تلك الهجمات "أجهدت شبكتنا" وقد تضر بها في المستقبل.
وفي نفس الوقت، ينبغي على الشركات والعملاء إعادة النظر في مقدار اعتمادهم على البنية السحابية لتخزين أهم وأقيم بياناتهم. قال تشيسمان: "إذا حدث انقطاع بالخدمة، كيف سيكون تأثير ذلك على الشركات؟". ربما من المنطقي ألا تعتمد الشركات على خدمة سحابية للبريد الإلكتروني للشركة إذا كان انقطاع الخدمة لمدة أسبوعين قد يؤدي إلى إفلاس الشركة.
إلا أن تشغيل خدمات البريد الإلكتروني الداخلية الخاصة بالشركات وإدارة التخزين الاحتياطي أمر معقد وباهظ التكلفة، وهو السبب الرئيسي الذي يدفع الشركات للتحوّل إلى الخدمات السحابية بالمقام الأول.
قال ديفيد فاسكيفيتش، رئيس القسم الفني السابق بشركة Microsoft والرئيس التنفيذي لتطبيق إدارة الصور Mylio، إن الأشخاص أصبحوا معتادين على الاتصال الدائم بالإنترنت، وأصبح لكل منا جهاز كمبيوتر في جيبه يصحبه أينما يذهب، ونفترض على نحو خاطئ أن خدمات الإنترنت ستكون متاحة على مدار الساعة طوال أيام العام دون انقطاع.
فاسكيفيتش، 67 عاماً، نشأ في العصر ما قبل الرقمي، قال: "هذا افتراض غير واقعي وغير جيد في نفس الوقت. الإنترنت موجود دائماً، حتى لا يغدو موجوداً". وأضاف: "برغم الترابط الكبير للعالم حالياً، يظل من الحكمة تخزين بعض البيانات محلياً. بدلاً من الاعتماد على البث السحابي للمحتوى الموسيقي، ينبغي علينا التفكير في تخزين بعض ملفات الموسيقى محلياً. ونفس الأمر ينطبق على خدمات البريد الإلكتروني، إذ ينبغي التفكير في تخزين الخدمة على جهازك الذي تستخدمه كثيراً".
وخلص إلى القول: "جهازك هو أفضل صديق للإنترنت وأفضل ضمانة في نفس الوقت. عندما ينقطع الاتصال بالإنترنت، وكانت أمورك منظمة بعناية، سيظل بإمكانك أداء المهام التي تحتاج إلى فعلها".