أراد بنيامين نتنياهو أن يوظف "مسيرة الأعلام" في القدس المحتلة، لتفجير الموقف وإجهاض ميلاد "حكومة التغيير" بإسرائيل، لكن موقفه الضعيف لم يمنعه من تحويل المسيرة إلى قنبلة موقوتة حدد توقيت انفجارها بنفسه.
والمقصود بـ"مسيرة الأعلام" هي قيام الآلاف من الإسرائيليين اليمينيين المتطرفين وهم يلوّحون بالأعلام ويؤدون طقوسهم الخاصة ويشقون طريقهم في شوارع الحي الإسلامي بالقدس الشرقية المحتلة عبر باب العامود، وهم يهتفون ويغنون الأغاني الوطنية.
والمسيرة بالطبع تمثل استفزازاً متعمداً للفلسطينيين، وكان نتنياهو قد أعطى الضوء الأخضر للمستوطنين المتطرفين الذين باتوا يشكلون قاعدته الانتخابية، لتنظيم المسيرة يوم 10 مايو/أيار الماضي، مثيراً انتقادات من جانب قادة إسرائيليين بارزين، من بينهم رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، وأحزاب يسارية، بأنه يتعمد إشعال الموقف في القدس لتحقيق مكاسب سياسية.
ففي ذلك الوقت، كان نتنياهو قد فشل في تشكيل الحكومة وبدأ يائير لابيد مهمة التشكيل، وأفادت تقارير بأن أحزاب المعارضة على وشك التوصل إلى اتفاق ائتلافي لتشكيل حكومة جديدة.
نتنياهو أراد المسيرة قبل جلسة الكنيست
وبعد أن فشلت استراتيجية إشعال الموقف مع الفلسطينيين، التي اتبعها نتنياهو بداية بـ"الشيخ جرّاح" وإغلاق "باب العامود" والانتهاكات في المسجد الأقصى، ومن ثم وصول التصعيد لذروته خلال حرب غزة التي خرج منها نتنياهو مهزوماً، وتوصل خصومه السياسيين بالفعل إلى اتفاق لتشكيل "حكومة التغيير"، قرر نتنياهو إعادة تشغيل حيلة "المسيرة" مرة أخرى.
وعلى الرغم من أنَّ وقف إطلاق النار الساري حالياً منذ فجر الجمعة 21 مايو/أيار، بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس في قطاع غزة -والذي تم بوساطة مصرية- لا يزال هشاً ومن المؤكد أن تلك "المسيرة" سوف تؤدي إلى كسره وعودة التصعيد العسكري مرة أخرى، فإن نتنياهو سعى بكل ما أُوتي من قوة للتصريح بها.
وأعطى نتنياهو، رئيس حكومة تصريف الأعمال حالياً في إسرائيل، الضوء الأخضر بالفعل لمنظمي تلك المسيرة من المستوطنين اليمينيين لإقامتها الخميس 10 يونيو/حزيران، لكن قادة الأجهزة الأمنية والجيش رفضوا الموافقة على إقامتها لتمر من الحي الإسلامي في القدس المحتلة، خصوصاً أن حماس قد أعلنت موقفها بوضوح، وهو أن تنظيم تلك المسيرة يعني كسر وقف إطلاق النار.
وخلال اجتماع المجلس الوزاري المصغر أو "الكابينيت الأمني" برئاسة نتنياهو أمس الثلاثاء، حاول نتنياهو جاهداً أن يمرر قرار المضي قدماً في تنظيم المسيرة، لكنه اصطدم برفض جماعي من وزير الدفاع بيني غانتس وقادة الشرطة والأجهزة الأمنية، ولم يستطع الزعيم اليميني الذي يبدو أنه يعيش أيامه الأخيرة في السلطة أن يغيّر موقفهم.
وهكذا تحولت "المسيرة" إلى قنبلة موقوتة
كواليس جلسة "الكابينيت"، التي تناولتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، تكشف نقطتين رئيسيتين الآن: النقطة الأولى مدى الضعف الذي بات يعانيه نتنياهو، الذي يلقبه أنصاره من اليمين بالملك بيبي. إذ على الرغم من تبريره تمسُّكه بتنظيم "مسيرة الأعلام" بأنه تحدٍّ لحركة حماس وليس لتعطيل إجراءات جلسة التصويت على "حكومة التغيير"، فإنه فشل في انتزاع موافقة المجلس الوزاري على تنظيم المسيرة، الخميس، كما أراد.
أما النقطة الثانية فتتعلق بالموعد الجديد الذي خرج به قرار المجلس الوزاري وهو الثلاثاء 15 يونيو/حزيران، أي بعد يومين فقط من جلسة التصويت على حكومة التغيير المقرر لها الأحد 13 يونيو/حزيران، وهذا الموعد اقترحه نتنياهو نفسه، فماذا يعني ذلك؟
الواضح أن نتنياهو أراد أن يحوّل تلك المسيرة إلى قنبلة موقوتة مُعَدة للانفجار في وجه حكومة التغيير التي سيتولى تلميذه السابق نافتالي بينيت، رئيس حزب "يمينا"، رئاستها في العامين الأوَّلين بموجب اتفاق التناوب مع يائير لابيد اليساري رئيس حزب "هناك مستقبل".
وفي حال تمت الموافقة بالفعل في جلسة الكنيست على حكومة التغيير وأصبح بينيت رئيساً للوزراء، فسوف يجد الزعيم اليميني نفسه أمام تلك القنبلة الموقوتة، فإما أن يقرر الاستمرار في الموافقة عليها بالفعل وبالتالي انفجار الموقف وكسر وقف إطلاق النار والدخول في حرب أخرى مع الفلسطينيين -سواء من هم تحت الحصار والاحتلال بالضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة أو فلسطينيو الداخل المشاركون في الائتلاف الحكومي من خلال القائمة العربية الموحدة- وهو ما يهدد بانهيار الحكومة قبل أن تكمل عدة أيام.
وإما أن يقرر بينيت، الذي لا يقل عن نتنياهو في كراهيته للفلسطينيين وتحريضه عليهم- أن يستمع لشركائه في الحكومة، خصوصاً وزير الدفاع غانتس ووزير الخارجية لابيد -وكلاهما لا ينتمي لمعسكر اليمين- ويلغي مسيرة الأعلام، وهذا يعني أن معسكر اليمين المتطرف الداعم لنتنياهو سوف يصعّد هجومه على الحكومة الجديدة ولا أحد يمكنه التنبؤ بما قد تؤول إليه الأمور.
ومن المهم هنا التوقف عند تفاصيل قرار المجلس الوزاري الأمني المصغر تأجيل موعد تنظيم "مسيرة الأعلام" بالقدس الشرقية إلى الثلاثاء المقبل، إذ لم يتم حسم مسارها وما إذا كانت ستمر من "باب العامود"، أحد أبواب القدس القديمة، بحسب البيان الذي وصلت إلى وكالة الأناضول نسخة منه.
وقال البيان: "يرى رئيس الوزراء (بنيامين) نتنياهو أهمية في التوصل إلى إجماع واسع النطاق حول إجراء مسيرة الأعلام"، وأضاف أن "نتنياهو أوقف جلسة الكابينت للقيام باستراحة قصيرة، وتوجه إلى غانتس من أجل التوصل إلى هذا الإجماع".
وكانت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أشارت إلى اختلاف في وجهات النظر بين نتنياهو من جهة وغانتس من جهة أخرى حول تنظيم المسيرة. وقالت إن نتنياهو ووزراء حزب "الليكود" بقيادته يرون أن إلغاء المسيرة يمثل "انتصاراً" لحركة "حماس"، فيما حذَّر "غانتس" ووزراء حزبه "أزرق-أبيض" من تنظيم المسيرة في هذا التوقيت.
من جانبها، قالت قناة "كان" الرسمية إن نتنياهو تطرق اليوم خلال محادثات مغلقة، إلى مسألة الموافقة على المسيرة التي كان مقرراً أن تمر في حي باب العامود بالبلدة القديمة من القدس. وقال نتنياهو: "لن نرضخ لحماس، أعتقد أنه يجب تنظيم المسيرة، وليس الهدف منع إقامة الحكومة عكس ما يقولون". وكان معارضون لنتنياهو لمحوا إلى أنه يسعى إلى تنظيم المسيرة الخميس؛ على أمل أن تؤدي إضرابات محتملة قد تخلفها إلى نسف حكومة "لابيد-بينيت" المنتظرة.
هل تقع اغتيالات سياسية في إسرائيل؟
المشهد السياسي في إسرائيل الآن يعيد إلى الأذهان موقفاً شبيهاً، في أعقاب توقيع تل أبيب اتفاقيات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة الراحل ياسر عرفات، وهو المشهد الذي وصلت ذروته إلى اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1995.
لكن الاختلاف بين المشهد الحالي ومشهد عام 1995 هو أن الصراع بعد أوسلو كان بين معسكري اليمين واليسار في إسرائيل، بينما المشهد الحالي يمثل صراعاً محتدماً داخل معسكر اليمين. فنتنياهو وبينيت كلاهما ينتمي لليمين الرافض لقيام دولة فلسطينية والساعي إلى ضم القدس والضفة الغربية وعدم معاملة الفلسطينيين داخل الخط الأخضر والذين يمثلون 21% من السكان، كمواطنين إسرائيليين لهم الحقوق نفسها كما لليهود.
وقد شهدت الانتخابات الأربعة التي أجريت في إسرائيل خلال العامين الماضيين، اتساع هوة الانقسام داخل معسكر اليمين بصورة متصاعدة، حتى وصلت إلى درجة الغليان الحالية، وسط تحذيرات من الأجهزة الأمنية من احتمال أن تشهد البلاد اغتيالات سياسية.
وهذا ما حذَّر منه المحلل الإسرائيلي المخضرم ميرون رابوبورت بقوله لموقع Middle East Eye البريطاني، إن "التحريض يتسم بالعدوانية الشديدة، لكن الشيء المثير فعلاً هو أن هذا الاستقطاب محصور داخل معسكر اليمين نفسه، وليس فقط استقطاباً بين اليسار واليمين كما اعتدنا أن نشهد".
ويرى رابوبورت أن نتنياهو الآن "يعتقد أن العنف هو الوسيلة الوحيدة كي يتشبث بمنصبه، فيتهم بينيت بأنه خائن، ويهدد أنصاره بأن يقتلوا أعضاء الكنيست الذين يدعمون الحكومة الجديدة"، مستشهداً بنشر يائير نتنياهو عنوان منزل عضو الكنيست نور أورباخ -عن حزب يمينا- من خلال حساباته على منصات التواصل.
نتنياهو إذن فشل في تنظيم "مسيرة الأعلام" قبل جلسة الكنيست، بسبب ضعف موقفه داخل المشهد السياسي الإسرائيلي الآن، فقرر أن يلقي بتلك الكرة المشتعلة في ملعب "حكومة التغيير"، هذا إن خرجت تلك الحكومة للنور من الأساس، وهو ما يعني أن الأمور ستظل على صفيح ساخن حتى بعد جلسة الكنيست.