لا يزال العالم يعاني من التداعيات الكارثية لتفشي فيروس كورونا شديد العدوى رغم اللقاحات المتعددة، لكن هناك مناطق تشكل خطراً داهماً لانتقال فيروسات أخرى من الحياة البرية -وخاصة الخفافيش- إلى البشر.
ففيروس كورونا المستجد الذي يسبب كوفيد-19 أحد فيروسات كورونا المرتبطة بمرض الالتهاب الرئوي الحاد SARS، التي تتربص بنا بين الحيوانات البرية في بعض مناطق العالم، والتي قد ينتقل الكثير منها نظرياً إلى البشر إذا توفرت الظروف المناسبة. ويعتبر تحديد ماهية هذه الظروف من الأولويات الملحة، وقد حقّق العلماء الكثير من التقدم في هذا الشأن.
موقع Vox الأمريكي نشر تقريراً عنوانه "أين قد يحدث الانتقال المقبل لفيروس كورونا إلى البشر؟"، تناول نتائج بحث جديد حول الظروف التي تمثل بيئة مثالية تنتقل خلالها الفيروسات الفتاكة من الحيوانات البرية إلى البشر.
ما الظروف المثالية لانتشار فيروس إلى البشر؟
تفشي الأمراض حيوانية المنشأ -أي تلك القادمة من الحيوانات- آخذ في الازدياد، وللأسف يتحمل البشر مسؤولية ذلك إلى حد كبير، فمن بين العوامل الرئيسية لتفشي الجوائح إزالة الغابات وتدمير موارد الحياة البرية، وفقاً لتقرير صادر عن المنبر الدولي المعني بالتنوع البيولوجي وخدمات النظام البيئي (IPBES). ويشير التقرير إلى أن ما يقرب من ثلث الأمراض الجديدة التي ظهرت منذ عام 1960، مثل الإيبولا، تعود إلى تغيير استخدام الأراضي.
ويكمن جوهر مشكلة تغيير استخدام الأراضي في أنها توفر للبشر فرصاً كثيرة للاتصال بالحياة البرية، إذ تؤدي إزالة الغابات، على سبيل المثال، إلى زيادة مساحة حواف الغابات -حيث تلتقي الغابات بالتجمعات البشرية- وانتشار الحيوانات البرية في المناطق الحضرية. وكتبت مجموعة من العلماء في مجلة Science الصيف الماضي: "حواف الغابات الاستوائية نقطة انطلاق رئيسية لفيروسات بشرية جديدة".
وأظهرت الأبحاث أن البشر وماشيتهم أكثر عرضة للاتصال بالحيوانات البرية حين تختفي أكثر من ربع مساحة الغابة الأصلية، وأن خفافيش الفاكهة أكثر ميلاً للبحث عن الطعام بالقرب من البشر حين تتأثر مواردها الطبيعية سلباً. علاوة على ذلك قد يؤدي تدمير تلك الموارد إلى وفرة الحيوانات البرية التي قد تؤوي مسببات الأمراض البشرية، مثل الخفافيش والقوارض.
وتغيير استخدام الأراضي أحد العوامل التي يقول العلماء إنها تساعد على انتقال الفيروسات من الحيوانات إلى البشر. وتشكل التجمعات البشرية الكثيفة خطراً كذلك، مثلها مثل الممارسات الزراعية المكثفة. فالماشية على سبيل المثال يمكن أن تؤوي عدداً من مسببات الأمراض، وقد تسببت في تفشي عدد من الأمراض الخطيرة، مثل إنفلونزا الخنازير H1N1 وفيروس نيباه. ويزداد الخطر أيضاً في أساليب الزراعة الحديثة، التي غالباً ما تعتمد على تكديس عدد كبير من الحيوانات في مساحات صغيرة، وغالباً ما تكون أجهزة هذه الحيوانات المناعية ضعيفة.
أين يزداد خطر انتشار الفيروس؟
حين بدأت عمليات الإغلاق، العام الماضي، بدأ الباحثون في جمع البيانات عن تغيير استخدام الأراضي، وكثافة الثروة الحيوانية، والتجمعات البشرية، وعدد من عوامل انتشار الفيروس الأخرى. ثم طبقوا هذه البيانات على موطن خفافيش حدوة الحصان في آسيا وأوروبا، ومن المعروف أن خفافيش حدوة الحصان تؤوي عدداً كبيراً من فيروسات كورونا المرتبطة بمرض الالتهاب الرئوي الحاد، وأحدها وثيق الصلة بفيروس SARS-CoV-2 الذي يسبب كوفيد-19.
وبالاستعانة بكل هذه المعلومات، رسم الباحثون خريطة للبؤر الساخنة، التي توضح المناطق التي تتداخل فيها عوامل الخطر مع موائل الخفافيش. يقول ديفيد هايمان، أحد المشاركين في إعداد الدراسة وأستاذ العلوم البيطرية في جامعة ماسي في نيوزيلندا، إن النقاط الحمراء الداكنة تشير إلى المناطق التي تزداد بها خطورة انتقال أحد فيروسات كورونا إلى البشر، وأن الدراسة رصدت أبرز تلك المناطق الخطرة في الصين واليابان والفلبين.
ويقول هايمان إن الملاحظة الرئيسية هي أنه لا تزال توجد أجزاء كبيرة من جنوب الصين يرتفع بها خطر ظهور فيروس كورونا جديد. ويقول: "شروط تفشي فيروس لا تزال قائمة، وهذا يعني أنه قد تنتشر فيروسات جديدة".
وفي حين أدّت الصين دور المصدر شبه الحصري للفيروسات الجديدة التي ظهرت في القرن الأخير، لكنّها لم تكُن نقطة التفشي الوحيدة، إذ ظهرت جائحة الإنفلونزا عام 2009 من مزرعة خنازير في المكسيك، بينما ترجع أصول فيروس ميرس إلى الجمال والخفافيش في السعودية.
لكن قبل كورونا كانت الصين نقطة التفشي الأصلية للإنفلونزا الآسيوية عام 1957، وإنفلونزا هونغ كونغ 1968 وإنفلونزا الطيور 1996 وسارس 2003، ويظل العالم على موعد مع جائحة جديدة أكثر فتكاً إذا لم يتم اتخاذ إجراءات للتقليل من فرص انتقال فيروس آخر للبشر، بحسب الخبراء.
لكن الأهم في الدراسة الجديدة هو أن العلماء رسموا أيضاً خرائط للمناطق التي لم تصبح بعد بؤراً ساخنة، ولكنها قد تصبح كذلك قريباً إذا حدثت زيادة في إزالة الغابات أو العوامل الأخرى المعروفة لانتشار فيروس، وهذه المناطق تشمل منطقة جنوب شنغهاي بالصين، واليابان وشمال الفلبين.
هل يمكن منع تفشي وباء جديد؟
قال باحثان لم يشاركا في الدراسة لموقع Vox، إن البحث مهم، ويضيف بُعداً جديداً للحديث عن تفشي فيروس كورونا. يقول أندرو دوبسون، أستاذ علم البيئة وعلم الأحياء التطوري في جامعة برينستون، إن بعض الجهود السابقة لتحديد الانتقال التالي للبشر اعتمدت على مواقع تفشٍّ سابقة، وهو ما لم يكن مفيداً كثيراً. يقول دوبسون إن هذا البحث يذهب إلى أبعد من ذلك بتركيزه على أسباب تفشي الفيروسات في المقام الأول.
ويقول جوناثان إبستين، نائب رئيس العلوم والتوعية في منظمة EcoHealth Alliance غير الربحية، التي تركز على الحياة البرية والصحة العامة: "هذه الدراسة ترسم صورة واضحة للأماكن التي تنتشر بها أهم العوامل التي تؤدي إلى انتشار فيروسات من أصول حيوانية مثل سارس-كوف 2".
وارتفاع خطر تفشي فيروس ما في منطقة معينة لا يعني أنه يرجح حدوثه، أو أنه سيتحول إلى جائحة، إذ قد يقلل عدد من التدابير، مثل إرشادات حماية الماشية من الأمراض -التي لم تكن جزءاً من الدراسة- من الخطورة.
أكثر من 1.7 مليون فيروس تتربص بالبشر؟
حين تعيش الدمار الذي تسببه جائحة، يصبح صعباً أن تفكر في المستقبل، ناهيك عن الاستعداد لجائحة جديدة، لكن العلماء يقولون إنه من الأهمية بمكان أن نفعل. فهم يُقدّرون وجود ما يقرب من 1.7 مليون فيروس غير مكتشف في الثدييات والطيور، ونصفها له القدرة على الانتقال إلى البشر.
يقول دوبسون إن كوفيد-19 بمثابة نداء تنبيه. وقال: "الشيء الأهم هو أن نفعل ما يتعين علينا فعله لتقليل معدل انتشار هذه الفيروسات، ولدينا بالفعل فكرة جيدة عن النقطة التي نبدأ منها: وقف إزالة الغابات وتقسيمها".
ويقول إنه يتعين على الأشخاص الذين يعيشون في بؤر ساخنة، على سبيل المثال في جنوب الصين، "أن يمارسوا مزيداً من الضغوط على رجال السياسة لتبني هذه الآليات". وتقول كريستينا رولي، مؤلفة الدراسة الرئيسية وأستاذة علم المياه في جامعة بوليتكنيكو دي ميلانو الإيطالية، إن واضعي السياسة يمكنهم أيضاً الاستعانة بهذا التحليل ليعرفوا كيف يمكن حماية مناطق بعينها من أن تتحول إلى بؤر ساخنة في المستقبل.
وتكلفة الحفاظ على الغابات وتنظيم الحياة البرية أقل بكثير مما تكلفنا إياه الجوائح، وفقاً لبحث أجراه المنبر الدولي المعني بالتنوع البيولوجي وخدمات النظام البيئي. وللحد من إزالة الغابات فوائد أخرى أيضاً، إذ إن الغابات السليمة تمتص ثاني أكسيد الكربون، وتنظف الهواء والماء وتؤوي التنوع البيولوجي.
يقول إبستين إن الصناعة القائمة على الزراعة، التي تنمو بسرعة، لا بد أن تتخذ بعض الخطوات لحماية الماشية من الإصابة بالفيروسات. وقال: "في ظل تنامي المزارع وكثافتها، فهي تصبح عرضة للإصابة بفيروسات الحيوانات البرية. ولهذا تحديداً ثمة شيء واحد يمكننا التركيز عليه، وهو الأمن البيولوجي في المزارع. وهذا يشمل تدابير مثل الحرص على إبعاد الخفافيش عن المزارع".
ويقول الخبراء إنه يوجد الكثير مما يتعين علينا معرفته عن آلية انتشار الفيروسات وما يحدث على أرض الواقع في هذه المناطق. يقول دوبسون: "أكبر مشكلة علمية في هذا القرن هي فهم الطريقة التي تسير بها النظم البيئية الطبيعية. لقد عرفنا كيف نرسل صاروخاً إلى الفضاء منذ عقود، لكن فهم آلية انتقال الفيروسات من الحيوانات البرية إلى البشر؟ حسناً، هذا أصعب بكثير من المسائل الرياضية".