يبدو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن أصبح يميل إلى نظرية تسرب فيروس كورونا من مختبر ووهان الصيني، وأن هناك دلائل قوية غيرت رأيه في هذه القضية، وكذلك أسباب سياسية.
فعندما أمر جو بايدن المخابرات الأمريكية، في الأسبوع الماضي، بتكثيف الجهود لتحديد مصدر نشأة "كوفيد-19″، أعاد للحياة نظرية أنَّ الفيروس ربما يكون قد تسرب من معهد ووهان الصيني لعلم الفيروسات، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
لماذا تبنت إدارة بايدن نظرية تسرب فيروس كورونا من مختبر ووهان؟
وقال بايدن إنَّ المخابرات الأمريكية "اجتمعت حول سيناريوهين": أنَّ الفيروس إما ظهر بشكل طبيعي أو كان نتيجة حادث مختبر.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يعطي فيها الرئيس الأمريكي مصداقية لاحتمالية تسرُب الفيروس من المختبر، وهي فكرة تعرضت لانتقادات واسعة باعتبارها نظرية مؤامرة منذ أعلنها سلفه دونالد ترامب لأول مرة.
وقبل فترة، قيل إن إدارة بايدن قد أغلقت التحقيق الذي كانت تقوم به وزارة الخارجية الأمريكية بناء على طلب الرئيس ترامب، لتقييم نظرية التسرب، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
وقال مسؤولون أمريكيون حاليون وسابقون إنَّ هناك عدة أسباب وراء استعداد إدارة بايدن للترويج علناً لنظرية انتقدها الديمقراطيون سابقاً.
فتش عن خروج ترامب
كان العامل الحاسم وراء ميل إدارة بايدن إلى نظرية تسرب فيروس كورونا من مختبر ووهان الصيني هو أنَّ النقاد أصبحوا أكثر انفتاحاً على نظرية تسرب المختبر الآن بعد خروج ترامب، الذي كان يُنظَر إليه على أنه يريد تشويه سمعة الصين لإبعاد اللوم عن تعامله مع الوباء، من منصبه.
وقالوا أيضاً إنَّ بايدن كان يرد على ما توصلت إليه المخابرات الأمريكية. وهو يتعرض الآن لضغط سياسي للعثور على إجابات.
وقال ديفيد آشر، الذي قاد تحقيقاً في وزارة الخارجية حول أصول "كوفيد-19": "لقد درست إدارة بايدن الآن أكوام الأدلة المقلقة التي واجهتنا في الأشهر القليلة الماضية من إدارة ترامب. وكما لاحظوا، هناك الكثير مما لا يزال علينا تقييمه".
باحثون صينيون أصيبوا بأعراض الفيروس
وقبل أيام من أداء بايدن اليمين، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية وثيقة وقائع عن معهد ووهان قالت فيها إنَّ العديد من الباحثين أصابتهم أعراض تشبه أعراض "كوفيد" قبل أول حالة معروفة علناً. وقالت أيضاً إنَّ المعهد عمل سراً مع الجيش الصيني.
وقال التقرير الاستخباراتي الأمريكي سري إن ثلاثة باحثين في مختبر ووهان، قد تلقوا العلاج في المستشفى في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 قبل أن يبدأ الفيروس في إصابة البشر في المدينة، حسب ما نشرته وسائل الإعلام الأمريكية مؤخراً.
ولم يأخذ النقاد هذا الادعاء على محمل الجد بسبب الرأي القائل بأنَّ وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو يميل إلى تسييس المعلومات الاستخباراتية، بجانب تركيز الناس أيضاً على تداعيات أعمال الشغب في الكونغرس في السادس من يناير/كانون الثاني ومراسم تنصيب بايدن.
والخارجية الأمريكية قررت توثيق هذه المعلومة دون ضجة
وقال ديفيد فيث، المسؤول السابق بوزارة الخارجية الأمريكية الذي شارك في الكشف عن هذه المعلومات: "لقد افترضنا أنَّ صحيفة الوقائع لن تتصدر عناوين الأخبار على الفور. أردنا تسجيل المعلومات حتى يتمكن الناس من إدراك هذه الحقائق عندما تهدأ التوترات والمناخ المحموم".
وفي مارس/آذار، قال ديفيد آشر علناً إنَّ بعض موظفي معمل "ووهان" كانوا مرضى للغاية لدرجة أنهم نُقِلوا إلى المستشفى، وفقاً لما ورد في تقرير The Financial Times.
وساعد هذا التصريح، بالإضافة إلى قصة حديثة في صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية عن دخول ثلاثة موظفين إلى المستشفى، في تركيز الانتباه على نظرية التسرب من المختبر الصيني.
العلماء صمتوا حتى لا يستفيد ترامب
لكن أحد الأشخاص المُطلعِين على النقاش قال إنَّ العامل الدافع هو التحول بين العلماء الذين كانوا قلقين من مساعدة ترامب قبل الانتخابات أو إغضاب العلماء المؤثرين الذين رفضوا النظرية، حسبما ورد في تقرير صحيفة The Financial Times.
وأضاف أنَّ هذا ساعد في جعل الديمقراطيين أكثر استعداداً لإعادة التفكير في النظرية. وقال: "أهم شيء حدث هو أنَّ علماء الفيروسات البارزين بدأوا يتحدثون صراحةً منذ ذلك الحين".
وفي رسالة إلى دورية Science، قالت مجموعة من 18 عالماً بارزاً إنَّ كلتا النظريتين "قابلة للتطبيق" ويجب أخذهما "على محمل الجد" حتى نحصل على بيانات كافية. وأضافوا أنَّ التحقيق الأخير الذي أجرته منظمة الصحة العالمية مع الصين لم يكن متوازناً في مراجعته لكلا السيناريوهين.
تجدر الإشارة إلى أنه يعتقد أن المجتمع العلمي يميل لليبرالية، ويناصب اليمين المحافظ الذي يمثله ترامب العداء.
وكان ترامب قد اتهم هيئة الغذاء والدواء الأمريكية وشركة فايزر بتأخير الإعلان عن التوصل للقاح بعد الانتخابات لضمان خسارته وفوز بايدن، حسبما نقلت عنه شبكة "سي إن إن" الأمريكية.
وقال ترامب، الشهر الماضي في خطاب ألقاه أمام رعاة "الحزب الجمهوري"، في مار ألاغو بولاية فلوريدا، إن لقاح كورونا يجب أن يُسمى "ترامبسين" تيمُّناً باسمه؛ لأنه هو من ساهم في تطوير العديد منها.
منظمة الصحة العالمية تغير رأيها تدريجياً
وكان خبراء منظمة الصحة العالمية قد قاموا بمهمة بين 14 يناير/كانون الثاني و9 فبراير/شباط في الصين التي ظهرت فيها أولى حالات المرض في ديسمبر/كانون الأول 2019، لكنهم اعتبروا أن فرضية تسرب الفيروس من مختبر هي الأقل ترجيحاً.
ثم قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبرييسوس بعد ذلك إنه رغم أن الخبراء الذين أجروا في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط تحقيقات في الصين حول منشأ الفيروس، خلصوا إلى أن فرضية تسرّب الفيروس من مختبر هي الأقل ترجيحاً، إلا أن الأمر "يتطلّب تحقيقاً أوسع، على الأرجح عبر بعثات جديدة مع خبراء متخصصين" أبدى استعداده لإرسالهم.
وذكر مدير المنظمة أن الخبراء الدوليين "عبروا عن صعوبات في الوصول الى البيانات الأولية" أثناء إقامتهم في الصين، لإجراء التحقيق، مضيفاً: "آمل أن تستند الدراسات الجديدة المشتركة على تقاسم بيانات بشكل أوسع وأسرع".
وأعربت 14 دولة عن "قلقها المشترك" حيال تقرير خبراء منظمة الصحة العالمية حول منشأ كوفيد-19 وحثت الصين على السماح للخبراء "بوصول كامل" إلى كل البيانات.
وعقب ذلك، دعا المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، بدوره إلى إجراء تحقيق جديد.
وحتى فاوتشي يغير موقفه
قال ديفيد فيث من وزارة الخارجية الأمريكية: "حتى أولئك الذين يعملون في هذه القضية داخل الحكومة الأمريكية لم يكونوا على دراية جيدة إلى أي مدى كان الرأي العلمي في صالحنا لأنَّ العلماء لم يتحدثوا عن رأيهم علناً، لكن كسرنا بعض الحواجز خلال الأشهر القليلة الماضية"، مشيراً إلى التطورات التي تشمل رسالة العلماء الـ18 وتحقيق منظمة الصحة العالمية.
كما بدا أنَّ أنتوني فاوتشي، رئيس المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، قد غيَّر موقفه. ففي العام الماضي، قال إنَّ العلم "يشير بقوة" إلى أنَّ الفيروس ظهر بشكل طبيعي، لكنه قال مؤخراً إنه "غير مقتنع" بذلك وأيَّد إجراء تحقيق.
وبالرغم من أنَّ بايدن لم يحدد إلا الخطوط العريضة لوجهة نظر مجتمع الاستخبارات في بيانه الاستثنائي للغاية، فإنَّ رغبته في إعلان استنتاجاتهم الأولية سلطت مزيداً من الاهتمام على نظرية تسرب الفيروس من مختبر ووهان.
وقال مايك غالاغر، عضو الكونجرس الجمهوري الذي قدم مشروع قانون لرفع السرية عن جميع المعلومات الاستخبارية المتعلقة بالتحقيق، إنَّ بايدن بدا وكأنه يستجيب للضغوط السياسية، لا سيما بعدما دعا أعضاء من فريقه الرئاسي الصين إلى السماح بإجراء تحقيق شفاف؛ وهو شيء لا يعتقد إلا قليل من الخبراء أنَّ بكين ستسمح به.
لا أحد يعلم الحقيقة
وأدت هذه الجهود، إلى جانب عملية "تطهير" ثالثة لمجتمع الاستخبارات هذا العام، إلى قول بايدن الأسبوع الماضي إنَّ فرعين من 18 فرعاً لمجتمع الاستخبارات يميلون نحو سيناريو الأصل الطبيعي للفيروس، بينما كان فرع ثالث أكثر ميلاً نحو نظرية التسريب المخبري.
وقال بول بيلار، مسؤول كبير سابق في وكالة المخابرات المركزية: "مجتمع الاستخبارات ككل بعيد كل البعد عن الوصول إلى أي شيء يمكن أن نسميه حتى نتيجة نصف مؤكدة. فحقيقة أنَّ العديد من الوكالات المعنية لم تتوصل إلى توافق في الآراء حتى بالنسبة لحكم واثقين فيه (ثقة منخفضة) تخبرك بأنهم بعيدون جداً عن أية نتيجة حاسمة".
المختبر قريب من السوق الذي ظهر فيه الفيروس
ويشير أنصار نظرية تسرب الفيروس من مختبر في مدينة ووهان بوسط الصين، إلى وجود منشأة أبحاث بيولوجية رئيسية في المدينة، ألا وهي معهد ووهان لعلم الفيروسات، حيث كان المعهد يدرس فيروسات كورونا في الخفافيش منذ أكثر من عقد، حسبما ورد في تقرير موقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
ويقع المختبر على بعد كيلومترات قليلة من سوق ووهان للحوم، حيث ظهرت أولى الإصابات بالمرض في المدينة.
ويقول أنصار النظرية إن الفيروس ربما تسرب من هذه المنشأة وانتقل إلى السوق، ويجادلون أنه ربما يكون الفيروس غير معدل وجُمع من الطبيعة، ولم يخضع لتعديل وراثي.
وألمح بعضهم إلى احتمال أن يكون الفيروس قد أنتج لاستخدامه كسلاح بيولوجي محتمل.
ترامب ينسب الفضل لنفسه
المفارقة أن هذه التغييرات في الموقف من قبل إدارة ترامب والعلماء ومجتمع الاستخبارات الأمريكي، قد تعني أن ترامب كان على حق، وبالفعل يسعى الرئيس الأمريكي السابق، إلى أن ينسب الفضل في تجدد الاهتمام بهذه النظرية إلى نفسه، وقال في بيان أرسله عبر البريد الإلكتروني إلى صحيفة نيويورك بوست "بالنسبة لي كان الأمر واضحاً منذ البداية لكنني تعرضت لانتقادات شديدة كالعادة".
وفي مقابلة مع قناة Fox Nation، قال ترامب إنه "ليس لديه شك" في أن الفيروس تسرب من المختبر، معتبراً أنه لم يعد بحاجة إلى استخدام كلمة "محتملة" عند الحديث عن هذه النظرية، حسبما نقل عنه موقع "روسيا اليوم".
كان من المفترض أن يصل تحقيق منظمة الصحة العالمية إلى حقيقة ما جرى والإجابة عن كل التساؤلات، لكن العديد من الخبراء يعتقدون أن تقرير المنظمة قد أثار أسئلة أكثر من الإجابات.
وانتقدت مجموعة بارزة من العلماء تقرير المنظمة لعدم أخذه نظرية التسرب من المختبر على محمل الجد بما فيه الكفاية. فقد تم استبعادها في بضع صفحات ضمن تقرير من عدة مئات من الصفحات.
وكتب هؤلاء العلماء في مجلة "ساينس" أنه "يجب أن نأخذ فرضيات انتقال الفيروس من الطبيعة إلى البشر ومن المختبر إلى البشر على محمل الجد حتى نتوصل إلى معطيات كافية".
كيف ترد الصين؟
وصفت الصين نظرية التسرب بأنها تشويه لسمعتها، وألمحت إلى أن الفيروس ربما يكون قد دخل البلاد عبر شحنات غذائية أتت إليها من الخارج.
وتشير الحكومة الصينية إلى بحث جديد نشره أحد علماء الفيروسات الرائدين في الصين حول عينات تم جمعها من الخفافيش في منجم مهجور بعيد، حسب "بي بي سي".
ونشرت البروفيسورة شي جينجلي، التي يشار إليها غالباً باسم "المرأة الخفاش الصينية" والباحثة في معهد ووهان، تقريراً مؤخراً كشفت فيه أن فريقها قد حدد ثماني سلالات من فيروس كورونا عُثر عليها في الخفافيش في منجم في الصين عام 2015.
وجاء في البحث أن فيروسات كورونا التي مصدرها حيوان البانغولين تشكل تهديداً مباشراً على صحة الإنسان، أكثر من تلك التي وجدها فريقها في المنجم.
وقد يؤثر تأكيد فرضية التسرب من المختبر على موقف العالم من الصين والنظرة إليها، فيما تتهم بإخفاء معلومات مهمة في المرحلة الأولى من تفشي الوباء، كما سيزيد ذلك من توتر العلاقات الأمريكية الصينية، وفقاً لـ"بي بي سي".
وقال جيمي ميتزل، الزميل في مركز أبحاث المجلس الأطلنطي ومقره واشنطن والذي كان يضغط من أجل التدقيق في نظرية التسرب من المختبر، لـ"بي بي سي" "منذ اليوم الأول مارست الصين عملية تستر واسعة النطاق"
وأضاف قائلاً "مع تزايد الأدلة على فرضية التسرب من المختبر، المطلوب هو المطالبة بتحقيق كامل في جميع فرضيات أصل الفيروس.