ما زالت الكيفية التي انتقل بها فيروس كورونا إلى البشر تمثل لغزاً يبحث عن إجابة علمية دقيقة، فهل خرج من معمل ووهان في الصين؟ وما أهمية حسم تلك النقطة من الأساس؟
يبدو السؤال مثيراً للدهشة للكثيرين بلا شك، فقد تحول الفيروس إلى وباء أصاب أكثر من 168.5 مليون شخص حول العالم منذ تفشيه في مدينة ووهان الصينية في وقت ما من أواخر عام 2019، وأودى بحياة أكثر من 3.5 مليون شخص، بحسب موقع وورلد ميترز كورونا اليوم الأربعاء 26 مايو/أيار.
وسبب الدهشة فيما يتعلق بالسؤال عن أصل فيروس كورونا لا يرجع فقط إلى مرور نحو عام ونصف العام على تفشيه وتحوله إلى جائحة عالمية، ولا إلى التوصل لعدد كبير من لقاحات كورونا واقتراب بعض الدول من تطعيم أغلب سكانها ضد الوباء، لكن يرجع سبب الدهشة إلى أن لجنة تحقيق تابعة لمنظمة الصحة العالمية كانت قد توصلت إلى تقرير بشأن أصل الفيروس مطلع العام الجاري.
الولايات المتحدة تعيد طرح السؤال عن أصل الفيروس
خلال الاجتماع السنوي الرئيسي للدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية الثلاثاء 25 مايو/أيار، طالبت الولايات المتحدة ودول أخرى من بينها اليابان والبرتغال وأستراليا بضرورة إجراء "تحقيق عميق وجاد للكشف عن أصل الوباء"، على أساس أن النتائج التي توصل إليها فريق التحقيق الأول لم تكن حاسمة.
وقال ممثل الولايات المتحدة في منظمة الصحة العالمية خلال الاجتماع: "نحن نؤكد على أهمية إجراء تحقيق شامل وشفاف يقوده خبراء للوقوف على أصل مرض كوفيد-19″، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
جاءت تلك المطالبات على الرغم من أن فريقاً تابعاً لمنظمة الصحة العالمية كان قد أنهى مطلع العام الجاري تحقيقاً يهدف إلى البحث عن تفسير للغز ذاته المتعلق بأصل فيروس كورونا، وزار فريق التحقيق الصين ومدينة ووهان بالفعل، وأصدر تقريره النهائي.
لم يقدم تقرير فريق التحقيق إجابة حاسمة بشأن أصل الفيروس، لكنه قدم ثلاثة احتمالات، كان أقلها ترجيحاً هو أن يكون أصل الفيروس "تسريب من داخل معمل ووهان"، وهي النظرية التي روج لها أولاً الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على أساس تقرير استخباراتي أمريكي.
لكن الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي تطالب بإجراء تحقيق جديد للتوصل إلى حقيقة أصل فيروس كورونا، فقد طالب أيضاً مندوب بريطانيا في منظمة الصحة العالمية بأن يتسم أي تحقيق جديد "بمهلة زمنية محددة وأن يكون فريق التحقيق من الخبراء ويكون الهدف من التحقيق علمياً بحتاً".
ويرجع السبب الرئيسي وراء هذا الإصرار على كشف غموض أصل فيروس كورونا، بحسب واشنطن وحلفائها، إلى أن تلك النقطة بالتحديد تمثل عنصراً أساسيا في قدرة البشرية على تجنب تفشي وباء آخر قد يكون أكثر فتكاً من كورونا، أو على أقل تقدير تجهيز استجابة أفضل لمثل هذه الأوبئة في المستقبل.
لماذا يدعم علماء أكثر نظرية "المعمل الصيني"؟
أحد مستشاري منظمة الصحة العالمية جيمي ميتزيل قال لشبكة CNN الأمريكية إن نظرية "التسرب من المعمل لا تزال احتمالاً قائماً، ولا يعني هذا بالضرورة وجود تعمد من جانب علماء الفيروسات في معمل ووهان محط الاهتمام، حيث الأقرب أن يكون التسرب قد تم بينما يقوم العلماء "بأبحاثهم على الفيروسات ودراستها بنية حسنة"، وأضاف ميتزل: "أعتقد أن ما حدث يمكن أن يكون تسرباً عارضاً غير مقصود من داخل المعمل في ووهان تبعه عملية تغطية إجرامية في بداية تفشي الفيروس".
وفي نفس السياق، كان خبير الأوبئة الأول في الولايات المتحدة الدكتور أنتوني فاوتشي، قال خلال الأسبوع الماضي إنه "ليس مقتنعاً أن الوباء قد بدأ لأسباب طبيعية"، مطالباً بمزيد من التحقيقات في أصل الفيروس، وهو المطلب الذي يقف خلفه عدد متزايد من خبراء الفيروسات.
هذه المطالبات بالطبع تجد رفضاً قاطعاً من جانب الصين، التي تروج من جانبها لرواية أخرى خاصة بأصل الفيروس تتعلق بنشأته بالأساس خارج الصين وانتقاله إلى أراضيها من خلال اللحوم المجمدة، وهو أحد الاحتمالات التي كان فريق التحقيق الأول قد وضعها في تقريره.
ومؤخرا نشر 18 عالما من الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وسويسرا خطابا مفتوحا قالوا فيه إنهم يعتقدون أن نظرية تسرب الفيروس من معهد ووهان للفيروسات (معمل ووهان في الصين) لا تزال قائمة ولا يوجد سبب لاستبعادها، بحسب تقرير لمجلة بيزنس إنسايدر الأمريكية.
وفي ظل التحذيرات المرعبة التي كانت منظمة الصحة العالمية قد أطلقتها في نهاية عام 2020 بشأن كون فيروس كورونا على الأرجح "صرخة تحذير" وأن العالم معرض لخطر تفشي وبائي قد يكون أكثر خطورة من الفيروس المتسبب في الجائحة الحالية، يصبح لغز أصل الفيروس الحالي أمراً خطيراً بالفعل ويحتاج لإجابة حاسمة.
أصل كورونا ونظريات المؤامرة
تجدد الجدل بشأن أصل فيروس كورونا وما إذا كان قد انتقل بشكل طبيعي من الخفاش أو حيوان بري آخر إلى الإنسان عبر وسيط حيواني بشكل طبيعي يعيد فتح الباب أمام نظريات المؤامرة التي أصبحت جزءاً أساسياً من النقاش بشأن الوباء في جميع مراحله حتى الآن.
ففي البداية كانت النظرية السائدة بشأن فيروس كورونا المستجد هي أنه انتقل من أحد الحيوانات البرية في إحدى أسواق مدينة ووهان بالصين، وكان ذلك في وقت ما من أواخر عام 2019، ثم انتقل الفيروس إلى باقي دول العالم عبر أشخاص كانوا في المدينة الصينية وغادروها قبل أن تطبق بكين إجراءات الإغلاق التام على ووهان ومقاطعة هوبي بأكملها.
وفي يوم 10 مارس/آذار 2020، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ من مدينة ووهان انتصار بلاده على فيروس كورونا بشكل كامل، بينما أعلنت منظمة الصحة العالمية في اليوم التالي مباشرة تحول الفيروس إلى جائحة عالمية، وسط اتهامات متزايدة لبكين بالتعتيم على الفيروس في بداية تفشيه هناك وأيضاً لمنظمة الصحة العالمية ومديرها الإثيوبي تيدروس أدهانوم بالتواطؤ مع الصين.
ومع تفشي الوباء على الأراضي الأمريكية، بدأ الرئيس الأمريكي السابق ترامب في الحديث عن "تسريب الفيروس من معمل الفيروسات في ووهان" استناداً على تقرير استخباراتي أمريكي، وأطلق ترامب عليه "الفيروس الصيني"، وهو ما أثار رد فعل عدواني من جانب بكين التي اتهمت بدورها واشنطن بأنها سبب تسريب الفيروس من أحد معاملها في فيرجينيا، مما أجج نظريات المؤامرة أكثر وأكثر.
وفي ظل السجال السياسي المستعر بين بكين وواشنطن، وظهور عشرات التقارير الخاصة بالفيروس وطبيعته وجميعها تقريباً لا تحظى بإجماع علمي، وسط تشكيك متزايد في دور منظمة الصحة العالمية، ازدادت الأمور سوءاً بينما يواصل كورونا تحوره وتفشيه في مناطق متفرقة حول العالم، وأحدثها الآن ما تعانيه الهند والبرازيل.
ثم جاءت مرحلة لقاحات كورونا، منذ أواخر العام الماضي، لتضيف فصلاً جديداً من فصول الغموض والجدل حول الوباء، بعد أن تحولت اللقاحات إلى سلاح سياسي ودبلوماسي، مع تشكيك بعض الدول في اللقاحات التي تنتجها دول أخرى وتسابق الدول الغنية على توفير الجرعات لمواطنيها بينما تعاني الدول الفقيرة غير المجهزة لمثل هذا السباق غير العادل.
والخلاصة هنا هي أن مطالبات التحقيق في نظرية "تسرب الفيروس من ذلك المعمل الصيني في ووهان" تجد معارضة شرسة من الصين، ولا يمكن توقع في أي اتجاه قد تتطور الأمور، بينما ينتظر العالم إجابة شافية عن السؤال: هل كورونا فيروس انتقل بشكل طبيعي من طائر بري للإنسان عبر وسيط حيواني أم أنه فيروس تسرب من أحد المعامل وهو ما يفسر غياب الإجماع العلمي على طبيعته وكيفية احتوائه والانتصار عليه، بحسب بعض خبراء الفيروسات؟