بعد أن كان الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني لا يمثل أولوية لإدارة بايدن ولا القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، قلبَ انتصارُ المقاومة على إسرائيل في حرب غزة المعادلةَ رأساً على عقب.
ومن المهم التذكير بأن الحرب التي استمرت 11 يوماً بدأها من الأصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، من خلال خطط تهجير فلسطينيين من حي الشيخ جراح في القدس المحتلة وإعطاء الضوء الأخضر للمستوطنين المتطرفين لتكثيف اعتداءاتهم على المسجد الأقصى، مما أجبر فصائل المقاومة الفلسطينية – وعلى رأسها حماس – على التدخل في وقت بدا فيه أن إجراءات حكومة نتنياهو اليمينية بحق الفلسطينيين التي تنتهك القانون الدولي ليلَ نهار قد أصبحت أمراً لا يأبه له أحد.
والآن بعد أن أجبرت صلابة فصائل المقاومة وقدرتها على توجيه ضربات موجعة للعمق الإسرائيلي جميع الأطراف على السعي بشكل يبدو جاداً لحل أسباب الصراع هذه المرة وليس فقط إدارته، نتوقف أمام المشهد الذي نتج عن تلك الحرب، وكيف تبدلت مواقف جميع الأطراف، بين مَن استفاد بصورةٍ واضحة وبين مَن أجبرته الحرب على تغيير أجندته الخارجية بشكل جذري.
إدارة بايدن.. من التجاهل إلى الاشتباك
وفي هذا السياق، وصل اليوم الثلاثاء 25 مايو/أيار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى إسرائيل، في مستهل زيارته إلى الشرق الأوسط، وهي الزيارة الأولى له إلى المنطقة منذ توليه منصبه في يناير/كانون الثاني الماضي.
وتشمل جولة بلينكن في المنطقة لقاءات في إسرائيل مع نتنياهو ووزير الخارجية غابي أشكنازي والرئيس الإسرائيلي، بينما يلتقي في الضفة الغربية مع السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، ثم يتوجه إلى مصر حيث يلتقي الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ووزير الخارجية سامح شكري، وينهي جولته في الأردن، بحسب جدول الزيارة المعلن.
وكان نيد برايس، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، قال إن بلينكن سيتوجه إلى رام الله بالضفة الغربية مساء الثلاثاء، مضيفاً: "سيلتقي في رام الله برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ورئيس الوزراء محمد إشتية، ومسؤولين كبار آخرين من السلطة الفلسطينية".
وبحسب بيان برايس، "يتوجه الوزير بلينكن بعد ذلك إلى القاهرة لإجراء لقاء مع الرئيس عبدالفتاح السيسي، ووزير الخارجية سامح شكري. يختتم الوزير رحلته بالتوقف في عمّان لإجراء لقاء مع العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني ونائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية أيمن الصفدي".
الهدف المعلن لزيارة بلينكن، بحسب برايس، هو أن "الوزير بلينكن يسافر إلى المنطقة لمناقشة جهود المتابعة الأساسية المناسبة لتعزيز وقف إطلاق النار (في قطاع غزة) وتقليل مخاطر اندلاع المزيد من الصراع خلال الأشهر المقبلة".
ولا تأتي زيارة بلينكن إلى الشرق الأوسط لرغبة منه، أو لأن ملف الصراع العربي – الإسرائيلي يمثل إحدى أولويات الإدارة الأمريكية – كما جرت العادة – بل تأتي زيارة بلينكن هذه المرة تحت عنوان "مجبرٌ أخاك لا بطل"، بمعنى أنه لولا حرب إسرائيل على غزة لما كانت تلك الزيارة ولا ما حدث من تغيير جذري على السياسة الخارجية لإدارة بايدن من الأساس، بحسب افتتاحية صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية اليوم الثلاثاء.
فقد كان الملف الوحيد من ملفات الشرق الأوسط الذي نال نصيباً من اهتمام إدارة بايدن هو إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، بعد أن كان ترامب قد انسحب منه، وعلى مدى نحو أربعة أشهر من وجود بايدن في البيت الأبيض لم تظهر قضية الشرق الأوسط الأساسية -القضية الفلسطينية- على أجندة إدارة بايدن من الأساس، فجاءت حرب إسرائيل على غزة لتقلب هذا الأمر رأساً على عقب وتجبر الإدارة الأمريكية على إعادة الملف إلى رأس أولوياتها.
مصر أبرز المستفيدين من حرب غزة
وإذا تركنا المشهد السياسي الأمريكي الذي تسببت حرب غزة في إحداث هزة زلزالية في أجندته الخارجية، نجد أن المشهد في الشرق الأوسط قد شهد أيضاً زلزالاً قلب طبيعة الاهتمامات السياسية والشعبية فيه، كما أدى إلى تداعيات لا يمكن أن تُخطئها العين المجردة.
ونبدأ من القاهرة لنجد تحولاً مدهشاً في المشهد السياسي بشكل عام، خصوصاً فيما يخص العلاقات المصرية – الأمريكية من جهة والدور الإقليمي لمصر من جهة أخرى. كان بايدن – أثناء حملته الانتخابية – واضحاً في صياغة الكيفية التي ستكون عليها علاقة إدارته مع نظام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي حينما قال: "لا مزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل"، في إشارة إلى العلاقة الخاصة التي جمعت الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالرئيس المصري الذي يواجه نظامه انتقادات دولية شرسة ومستمرة بسبب سجله الشيء في مجال حقوق الإنسان.
ومنذ تولى بايدن منصبه في 20 يناير/كانون الثاني، لم يجرِ أي اتصالات مع نظيره المصري، ولم يحدث اتصال على مستوى وزاري بين البلدين، وحتى عندما أجرى الرئيس الأمريكي اتصالاته الخجولة مع بعض الزعماء في الشرق الأوسط، مثل نتنياهو وملك السعودية، لم يكن السيسي واحداً منهم ولم يكن متوقعاً أن يكون، بحسب المراقبين ومسار الأحداث.
لكن كل شيء تغيّر بسبب حرب غزة، فأجرى بايدن اتصالين مع السيسي، كان الأول خاصاً وحصرياً بحرب غزة؛ حيث قدم الرئيس الأمريكي الشكر للسيسي على الدور المصري الفاعل في التوصل إلى وقف إطلاق النار والذي دخل حيز التنفيذ فجر الجمعة 21 مايو/أيار.
ثم جاء الاتصال الثاني بين بايدن والسيسي مساء الاثنين 24 مايو/أيار، ليبلغ الرئيس الأمريكي نظيره المصري اعتزامه "تعزيز جهود" حل أزمة سد النهضة الإثيوبي، بحسب بيان للرئاسة المصرية حول الاتصال الذي تلقاه السيسي من بايدن.
جاء ذلك في بيان للرئاسة المصرية، بالتزامن مع تعثر مفاوضات السد، منذ أشهر وتمسك أديس أبابا بالملء الثاني قريباً، كما أوضح بيان الرئاسة المصرية أن الجانبين تبادلا "الرؤى والتقديرات تجاه القضايا الإقليمية وعلاقات التعاون".
وشهد الاتصال الهاتفي "تبادل الرؤى بشأن تطورات الموقف الحالي لملف سد النهضة"، وأكد السيسي تمسك بلاده بالتوصل لاتفاق يحفظ حقوقها المائية، بينما أوضح بايدن "عزمه بذل الجهود من أجل ضمان الأمن المائي لمصر. وتم التوافق بشأن تعزيز الجهود الدبلوماسية خلال الفترة المقبلة من أجل التوصل إلى اتفاق يحفظ الحقوق المائية والتنموية لكافة الأطراف".
صحيح أن مدى قدرة أو حتى رغبة إدارة بايدن في ممارسة ضغط حقيقي على أديس أبابا في ملف سد النهضة تظل محل شكوك، لكن المؤكد أن التواصل المباشر على أعلى مستوى يمثل انفراجة هامة في علاقات واشنطن والقاهرة يصفه البعض بأنه أبرز المكتسبات التي حققتها مصر من حرب غزة.
ولا يمكن تجاهل مكتسب آخر هام للغاية حققته القاهرة من خلال ضرب صواريخ المقاومة الفلسطينية خط أنابيب إيلات-عسقلان الذي كانت الإمارات قد أحيته لنقل النفط والغاز إلى إسرائيل وأوروبا دون المرور بقناة السويس المصرية، وهو ما يمثل "هدية" لم تكن في الحسبان بالطبع.
وبشكل عام يمكن تلخيص مكتسبات مصر من عودة القضية الفلسطينية إلى قمة أجندة الأولويات السياسية في الشرق الأوسط في أن ذلك يمثل عودة دور مصر الإقليمي الهام بعد أن كان موسم التطبيع مع إسرائيل الذي دشنته الإمارات قد أضر كثيراً بهذا الدور سياسياً واقتصادياً.
قُبلة الحياة للسلطة الفلسطينية
ومن الصعب هنا تجاهل تأثيرات وتداعيات حرب إسرائيل على غزة فيما يخص وضع السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، والذي شهد ما يمكن وصفه بقمة التناقض والتأرجح في الأقدار.
ففي الوقت الذي بدأت فيه بوادر التصعيد اليميني الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في حي الشيخ جراح وباب العامود والمسجد الأقصى وعموم القدس المحتلة، وصولاً إلى اندلاع المواجهة المفتوحة بين الفصائل الفلسطينية في غزة والاحتلال الإسرائيلي، لم يكن ثمة موقف معلن للسلطة الفلسطينية التي تعاني من الضعف والانقسام بصورة واضحة.
وقد أجمع مُراقبون وقيادات من داخل السلطة الفلسطينية وحركة "فتح" نفسها على أن السلطة الآن تمر بأضعف حالاتها في خضم الأحداث الميدانية غير المسبوقة في حجمها وتزامنها، والتي شملت جميع الأراضي الفلسطينية داخل وخارج الخط الأخضر وشارك فيها جميع الفلسطينيين في الداخل والخارج.
لكن الآن يبدو وكأن الأمور قد تغيَّرت بالنسبة للسلطة ودورها، بعد أن اتصل بايدن بمحمود عباس ويتوجه بلينكن إلى الضفة للقاء رئيس السلطة ورئيس الحكومة ووزير الخارجية، كما برزت تقارير حول رغبة مصر وواشنطن وغيرهما من الدول بتسليم أموال إعادة إعمار غزة إلى السلطة.
وبغض النظر عما قد تسفر عنه تلك اللقاءات التي تتم الآن في رام الله، فإن كثيراً من المراقبين يصفون ما يحدث منذ وقف إطلاق النار في غزة بأنه بمثابة "قُبلة الحياة" للسلطة الفلسطينية التي لا تخفي واشنطن ولا تل أبيب والقاهرة وغيرها من اللاعبين على الساحة الآن رغبتها في تقوية السلطة مرة أخرى حتى لا تستأثر حماس بالمشهد الفلسطيني، في ظل الالتفاف الشعبي العارم خلف المقاومة بعد هبة القدس الأخيرة.
كما استفاد الأردن أيضاً بشكل واضح من حرب غزة، بعد أن كانت حكومة نتنياهو على مدار السنوات الماضية قد قطعت أغلب خيوط التواصل بينها وبين عمان، رغم وجود اتفاقية سلام بين البلدين، ووصلت الأمور إلى حد إجبار عَمَّان لنتنياهو على تأجيل زيارته لأبوظبي وعدم منح طائرته إذن عبور الأراضي الأردنية.
تلك الحادثة التي وقعت في مارس/آذار الماضي كشفت عن عمق الخلافات بين الأردن وإسرائيل، خصوصاً خلال رئاسة ترامب والسعي لفرض صفقة القرن وموسم التطبيع وجميعها خطوات أدت إلى تهميش واضح لدور الأردن، في ظل التضييق الكبير الذي فرضته إسرائيل على الوصاية الأردنية على المقدسات في القدس، والتي تحدثت تقارير عديدة عن نية تل أبيب التخلص منها، وربما تحويلها إلى السعودية بدلاً من الأردن، خاصة في ظل إعلان صفقة القرن أن "القدس عاصمة موحدة لإسرائيل" وبالتالي فإن كل ما فيها يقع تحت الوصاية الإسرائيلية.
الخلاصة هنا أن غزة أجبرت الإدارة الأمريكية على إعادة ترتيب أجندتها فيما يخص السياسة الخارجية لتعود قضية فلسطين إلى رأس تلك الأجندة، كما أكسبت الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية أهمية خاصة لدى تلك الإدارة برئاسة جو بايدن.