أصبح واضحاً للجميع أن هناك تغييراً في الموقف الأمريكي من إسرائيل رغم الدعم العلني المطلق من إدارة جو بايدن لقصف حكومة نتنياهو قطاع غزة، لكن ما لا يقال علناً قصة أخرى.
وتمثل الموقف الأمريكي التقليدي الداعم لإسرائيل في هذه الأزمة في صمت إدارة بايدن – المدافع عن حقوق الإنسان – على قرار حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية تهجير عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح والاعتداءات المتصاعدة في القدس الشرقية والمسجد الأقصى، وجميعها تمثل انتهاكاً صارخاً لحقوق الفلسطينيين الذين يعانون من الاحتلال الإسرائيلي.
واشتعل الموقف وأطلقت الفصائل الفلسطينية الصواريخ من قطاع غزة بعد تجاهل حكومة نتنياهو نداءات حركة حماس المتكررة لوقف العدوان على المسجد الأقصى وإطلاق جيش الاحتلال عدواناً شاملاً على القطاع يدخل اليوم الخميس 20 مايو/أيار يومه الحادي عشر، وبلغت الحصيلة البشرية حتى الساعة 227 شهيداً، بينهم 64 طفلاً و38 سيدة، بجانب أكثر من 1620 جريحاً، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية بالقطاع.
كما استشهد 28 فلسطينياً، بينهم 4 أطفال، وأصيب نحو 7 آلاف بالضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس، خلال مواجهات مع الجيش الإسرائيلي يستخدم خلالها الرصاص الحي والمعدني وقنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق الفلسطينيين، بينما قُتل 12 إسرائيلياً وأصيب أكثر من 600 آخرين، خلال رد الفصائل الفلسطينية بإطلاق صواريخ من غزة.
4 مكالمات بين بايدن ونتنياهو
بدأ اشتباك إدارة بايدن مع الأزمة بإصدار بيانات تصف إطلاق الصواريخ من غزة بأنه "غير مقبول ويجب أن يتوقف فوراً"، جنباً إلى جنب مع التأكيد على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".
وخلال الأيام العشرة السابقة، أجرى بايدن 4 مكالمات مع نتنياهو جاءت فحواها، بحسب ما هو معلن، تأكيد ساكن البيت الأبيض على "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" مع بعض التغيير في اللغة المستخدمة، لكن الاتصال الثالث (مساء الاثنين 17 مايو/أيار) والرابع (صباح الأربعاء) حملا رسالة متدرجة الحدة تطالب إسرائيل بوقف قصف غزة.
واللافت أن البيانات الرسمية الصادرة من البيت الأبيض بشأن تلك المكالمات تأتي مختصرة بشكل لافت ولا تتطرق لرد فعل نتنياهو من الأساس، وفي المقابل تأتي بيانات مكتب نتنياهو بنفس الطريقة، إذ تركز على ما قاله نتنياهو.
لكن الصورة العامة للأجواء بدأت تتضح أكثر منذ صباح الأربعاء، وقبل حتى أن ينشر موقع Axios الأمريكي تفاصيل أكثر عن اتصال بايدن الرابع بنتنياهو والذي كشف عن طلب الرئيس الأمريكي من رئيس الوزراء الإسرائيلي بشكل مباشر "وقف إطلاق النار"، لكن نتنياهو رفض الطلب.
وفي هذا السياق جاء الإيجاز الذي عقده نتنياهو مع نحو 70 سفيراً ودبلوماسياً أجنبياً لدى إسرائيل، ردد خلاله مزاعمه الخاصة بشأن الحرب على قطاع غزة وسعى لتحميل مسؤولية التصعيد لحركة حماس، فيما وصفه مراقبون بمحاولة تظهر مدى الضغوط التي تتعرض لها تل أبيب بسبب عدوانها المستمر على القطاع المحاصر.
وبالعودة إلى واشنطن، نجد أن الصورة العامة – العلنية – لما يصدر عن البيت الأبيض خلال العدوان الإسرائيلي الحالي تبدو مختلفة إلى حد كبير عن الموقف الأمريكي خلال الحروب السابقة على قطاع غزة، في ظل التغير الواضح في المشهد السياسي الأمريكي تجاه إسرائيل بشكل عام.
ويواجه بايدن مأزقاً حقيقياً في ظل الإجماع الدولي على ضرورة وقف إسرائيل عدوانها على غزة، وتصاعد الضغوط الداخلية من جانب التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي على الإدارة لإفساح المجال أمام قرار أممي بوقف الحرب فوراً.
رسالة إلى إسرائيل: لن نستطيع حمايتكم أكثر من هذا
وربما يكون الدليل الأوضح حتى الآن على الشرخ في العلاقات بين الحليفين التقليديين هو الرسالة التي وجهها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لنظيره الإسرائيلي غابي أشكنازي بشأن الموقف الأمريكي.
بلينكن أخبر أشكنازي، بحسب موقع Axios، أن واشنطن تمنع الآن مشروع قرار فرنسي مقدم إلى مجلس الأمن بشأن وقف الحرب في غزة، لكن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تواصل الدعم العلني والدبلوماسي لإسرائيل أطول من هذا، وخصوصاً في الأمم المتحدة.
كانت فرنسا قد تقدمت بمشروع قرار إلى الأمم المتحدة أمس الأربعاء لإنهاء الحرب على غزة ووقف العدوان على القطاع، لا يتضمن إدانة واضحة وصريحة "لإطلاق الصواريخ من القطاع تجاه إسرائيل"، وهو ما أغضب إسرائيل، وفق ما نقلته قناة "كان" الإسرائيلية الرسمية.
وهذه هي المرة الرابعة التي تدخلت فيها الولايات المتحدة لمنع صدور بيان أو قرار من مجلس الأمن الدولي بشأن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والواضح أن إصرار نتنياهو على مواصلة قصف غزة بحثاً عن انتصار ليس ممكناً إلا من خلال اجتياح بري للقطاع أو مواصلة القصف العشوائي وهدم المنازل على رؤوس ساكنيها المدنيين، يسبب توتراً كبيراً الآن في العلاقة بين واشنطن وتل أبيب.
وفي هذا السياق أجرى أيضاً وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن اتصالاً أمس الأربعاء بنظيره الإسرائيلي بيني غانتس حمل نفس الرسالة وهي ضرورة وقف إسرائيل حربها على غزة.
دعم علني وتوبيخ بعيداً عن الكاميرات
الصورة الأكبر فيما يتعلق بالعدوان على غزة هي أن هناك خلافاً واضحاً في الموقف بين واشنطن وتل أبيب حالياً وما ظهر منه للعلن يمكن وصفه بقمة جبل الجليد فقط، وهذا ما عبر عنه تقرير نشرته وكالة أسوشيتد برس الأمريكية بعنوان "نمط بايدن مع إسرائيل: دعم علني وتوبيخ سري".
ويعود التقرير إلى المرة الأولى التي زار فيها بايدن إسرائيل وكان ذلك عام 1973 – كان وقتها الرئيس الحالي شاباً في الثلاثين وعضواً في مجلس الشيوخ – ورصد التقرير ما تم نشره عن لقاء بايدن مع رئيسة وزراء إسرائيل وقتها غولدا مائير وغيرها من مسؤولي إسرائيل وبين ما لم يتم نشره واعتبرت وثائق سرية تم الإفراج عنها العام الماضي فقط.
وكانت المشاهد أمام الكاميرات تظهر وداً واحتفاء ودعماً مطلقاً من بايدن لإسرائيل، بينما كشف ما لم يتم نشره وقتها عن حديث السيناتور الشاب وقتها عن "الأراضي المحتلة منذ حرب 1967″، وهو ما وصفته مائير والمسؤولون الآخرون بأنه "رؤية شاب عديم الخبرة السياسية".
هذه الصورة التي عكستها زيارة بايدن الأولى لإسرائيل هي نفسها لم تتغير حتى اليوم، بحسب تقرير أسوشيتد برس، حيث يدعم بايدن إسرائيل علناً دون أي تردد أو تحفظ، بينما يحتفظ بانتقاداته لتل أبيب ليعبر عنها بعيداً عن الكاميرات.
والسؤال الآن هل يؤثر التوتر الحالي بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو على العلاقات بين الدولتين الحليفتين؟ ورغم أن الإجابة لن تكون قاطعة بأي حال من الأحول بسبب طبيعة العلاقات بين الدول وتغيرها بشكل عام حسب تغير المصالح، لكن الطبيعة الخاصة لعلاقة واشنطن وتل أبيب وتحديداً الدعم التام من الأولى للثانية يبدو وكأنها تواجه تحديات لا يمكن تجاهلها، طفت على السطح منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض وأصبحت أكثر وضوحاً خلال الحرب على غزة.
ومن المهم أن نتذكر أن بايدن قد أخر اتصاله الأول بنتنياهو – في سابقة تاريخية حيث جرى العرف أن يتصل الرئيس الأمريكي بزعيم إسرائيل بمجرد توليه منصبه كدلالة على وضع إسرائيل الخاص لدى واشنطن – وهو ما مثل إشارة واضحة على أن العلاقات بين البلدين خلال إدارة بايدن قد تشهد توترات كبيرة.
ومن المؤكد أن رفض نتنياهو وقف العدوان على غزة يسبب ليس فقط "إحراجاً" لبايدن وإدارته أمام العالم، بل يهدد مكانة الولايات المتحدة على المسرح الدولي، خصوصاً أن بايدن كان قد قال إن "أمريكا قد عادت"، في إشارة إلى انتهاء سنوات التراجع دولياً أثناء رئاسة سلفه دونالد ترامب، لكن يبدو أن تلك العودة تواجه تحديات ضخمة من المنافسين – الصين وروسيا – وها هي تواجه التحدي من حليف تقليدي وهو إسرائيل، وهو مؤشر على أن هذا الموقف الذي يتبناه نتنياهو في تعامله مع بايدن على الأرجح ستكون له انعكاسات سلبية على علاقة البلدين.