"سلاح سري يستخدم لبث المرض الغامض الذي يصيب الدبلوماسيين ورجال الاستخبارات الأمريكيين، والمعروف باسم متلازمة هافانا"، هذا ما ألمح إليه تقرير أمريكي جديد.
ويتناول التقرير الأسباب المحتملة للمرض الغامض أصيب به على مدى السنوات الخمس الماضية، على نحو يثير القلق عددٌ من الدبلوماسيين والجنود وضباط الاستخبارات الأمريكيين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
وتفاوتت الأعراض، لكنها تراوحت في طبيعتها ومداها بين الصداع إلى طنين الأذنين، وكذلك فقدان السمع والذاكرة والتوازن. وبلغ الأمر حدَّ معاناة بعض الضحايا تلفاً طويل الأمد في الدماغ.
غير أن الأكثر إثارة للقلق، هو ما كشفت عنه تقارير بأن مؤسسات أمنية بارزة، مثل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والبنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية)، تعتقد أن هذا المرض لم ينشأ طبيعياً، بل إنه عمل عدائي متعمد، حسبب The Independent.
وذكرت دراسة جاء إعدادها بتكليف من وزارة الخارجية الأمريكية أن المصدر الأكثر احتمالية هو دفقات من طاقة الترددات الراديوية [نوع من الموجات الكهرومغناطيسية] النبضية "الموجَّهة" إلى أهداف أمريكية.
تم اكتشاف هذه الحوادث لأول مرة في كوبا في عام 2016 عندما أبلغ المسؤولون الأمريكيون عن صداع ومشاكل أخرى دون سبب معروف. غالباً ما كان يطلق على الحالات اسم "متلازمة هافانا".
الآن، تروي التقارير عن حادثة وقعت في عام 2019 ضد مسؤول في البيت الأبيض في إحدى ضواحي ولاية فرجينيا بواشنطن العاصمة، ووقع هجوم محتمل أكثر حداثة في نوفمبر 2020 ووقع بالقرب من البيت الأبيض، وفقاً لشبكة CNN.
وقع الحادث بالقرب من العشب البيضاوي الكبير على الجانب الجنوبي من البيت الأبيض، وأصاب مسؤولاً بمجلس الأمن القومي بالغثيان.
ولكن ما الذي يحدث هنا؟ كيف تُستخدم "طاقة موجهة" لمهاجمة أفراد أمريكيين؟ من يهاجمهم؟ ولماذا؟ إليك ما نعرفه حتى الآن عن هذه الهجمات غير المرئية.
من أُصيب بهذا المرض وعددهم، وأين وقعت هذه الحوادث؟
منذ عام 2016، أُصيب ما يقرب من 50 فرداً أمريكياً بهذه الأعراض.
وقع الحادث الأول في عام 2016 في هافانا، عاصمة كوبا. وفقاً لوزارة الخارجية الأمريكية، أبلغ نحو 21 موظفاً في السفارة الأمريكية عن إصابتهم بأعراض متطابقة: صداع، وطنين في الأذنين، ومشكلات في التوازن والذاكرة. ووصل الأمر حتى إعلان بعض الموظفين تقاعدهم المبكر بسبب إصابتهم بالمرض، الذي بات يُعرف باسم "متلازمة هافانا".
وتفيد تقارير بأن الأفراد المتضررين يبدو أنهم قد عانوا من إصابة شبكات دماغية واسعة النطاق "دون وجود تاريخ مرتبط بصدمات الرأس".
تباطأ المسؤولون الأمريكيون عن التصرف تحت وقع الصدمة، واتهم بعضهم وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بعدم التعامل مع الموقف بجدية كافية. ومن ثم، قررت إدارة ترامب، التواقة إلى قطع الخطوط الدبلوماسية مع كوبا على أي حال، استدعاء أكثر من نصف موظفي السفارة الأمريكية بالعاصمة الكوبية هافانا، متهمةً الدولة بارتكاب "هجمات مقصودة"، إلا أن كوبا نفت أي مسؤولية لها عن الأمر.
لكن سرعان ما ظهرت المتلازمة في أماكن أخرى. فقد أبلغ ضباط بالاستخبارات الأمريكية عن إصابتهم بالأعراض ذاتها في أثناء وجودهم في الصين وروسيا، حسب The Independent.
أحد هؤلاء الضباط هو مارك بوليمروبولوس، وهو ضابط كبير سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، كان في موسكو في عام 2017 عندما أُصيب بالأعراض نفسها فجأة.
قال بوليمروبولوس لـصحيفة The Guardian البريطانية: "لقد استيقظت فجأة في منتصف الليل وأنا في حالة دوار لا يمكن تحملها. كان رأسي يدور، ويسيطر عليَّ شعور بالغثيان، ودفعني الأمر إلى الذهاب إلى الحمام والتقيؤ. لقد كانت لحظة مرعبة لي. كما أصبت بطنين كان يرن في أذني بلا توقف، غير أن الدوار حقاً كان منهكاً لي على نحو لا يمكن تصوره، ولم أكن أعرف ما الذي دهاني. لم أكن أستطيع الوقوف. وكنت أترنح وأكاد أسقط".
بعد أربع سنوات من هذه الليلة، يقول بوليمروبولوس إن صداعه لم يتوقف بعد. وفي عام 2019، قرر التقاعد من عمله بوكالة الاستخبارات المركزية بسبب هذه الأعراض.
وقال ضابط الاستخبارات السابق لمجلة GQ: "كان لدي كثير من الأشياء لأقدمها. كنت في الخمسين من عمري، إلا أنني اضطررت إلى التقاعد لأن هذا الصداع اللعين لم يكن يزول بأي طريقة".
واستمرت الحالات في الظهور. ففي عام 2018، أُجلي ما يقرب من 12 موظفاً من السفارة الأمريكية في مدينة غوانزو الصينية، بعد الإبلاغ عن "حالة طوارئ طبية" شبيهة بتلك التي وقعت في هافانا.
وفي خريف 2020، ظهرت على عدد من القوات الأمريكية في سوريا أعراض غامضة شبيهة بأعراض الإنفلونزا، التي تتقاطع مع أعراض متلازمة هافانا.
كما وردت أخبار عما يُشتبه أنه هجمات شبيهة على الأراضي الأمريكية.
ففي عام 2019، قالت موظفة في البيت الأبيض إنها أصيبت بأعراض متلازمة هافانا في أثناء تمشية كلبها في أرلينغتون، بولاية فرجينيا.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أخبر مسؤولون بوزارة الدفاع أعضاءً في الكونغرس، أن هجوماً مريباً من هذا النوع لحق بمسؤول في مجلس الأمن القومي بالقرب من حديقة "إليبس" التي تقع في العاصمة- على مسافة قريبة من البيت الأبيض.
بحثت دراسة أجريت عام 2019 في مجلة الجمعية الملكية للطب في احتمال أن تكون متلازمة هافانا شكلاً من أشكال "المرض النفسي المنشأ".
أسباب متلازمة هافانا
أصر الدكتور داريوس كوهان ، مدير طب الأذن / طب الأعصاب في مستشفى لينوكس هيل ومستشفى مانهاتن للعيون والأذن والحنجرة في نيويورك على أن "المرض النفسي الشامل أمر مستبعد للغاية".
فهناك عدد كبير جدًا من الحالات المؤكدة لتكون نفسية، حسبما ينقل عنه موقع Health Line.
وأشار كوهان إلى أن هذا كان يحدث منذ فترة طويلة، في أماكن متعددة في جميع أنحاء العالم ، والسبب الأكثر ترجيحًا هو أن هناك شيئًا يتم عرضه تجاه منشآت الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم ، "ولا يبدو أنه يحدث في البلدان الأكثر صداقة".
وقال "قد يتسبب الصوت الموجه في حدوث إصابة، إذ أن الجهاز الصوتي الموجه يمكن أن يكون سلاحاً قوياً".
تقرير علمي أمريكي يفجر مفاجأة
كانت دفقات من "طاقة الترددات الراديوية [نوع من الموجات الكهرومغناطيسية] النبضية الموجَّهة" هي الجاني الذي توصلت إليه تحقيقات فريق علمي من أعضاء بالأكاديميات الأمريكية للعلوم والهندسة والطب، في تقريرٍ أعدُّوه عن المتلازمة بتكليف من وزارة الخارجية الأمريكية.
وفقاً لتحليل صحيفة The New York Times، فإن هذه اللغة المستخدمة مقصودة ومهمة. فالتقرير تعمَّد استخدام كلمات مثل "نبضية" و"موجَّهة"، ليقول إن الطاقة لم تُنشر عشوائياً بواسطة هاتف محمول أو أي جهاز آخر يستخدم هذا النوع من الموجات، بل كانت دفقات من الطاقة الموجَّهة لاستهداف أناس معينين.
كيف لشخص أن يوجِّه "الطاقة" ضد أشخاص؟ ومن يحدد هؤلاء الأشخاص المستهدَفين؟ كانت التقارير التي سُرِّبت من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ووكات أخرى تقارير غامضة، تستشهد بمعلومات سرية وتبدو كمن يوجه اتهامات لا أساس لها. لكن، وبعد إحاطة مثيرة للجدل لوكالة الاستخبارات المركزية في وقت سابق من هذا الشهر، بدا بعض أعضاء الكونغرس أشد صراحةً بشأن ما يعتقدون أنه يجري في هذا الأمر.
إذ خرجت السيناتور سوزان كولينز، وهي عضوة في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأمريكي، بعد الإحاطة، وقالت لشبكة CNN: "هناك استخدام لسلاح طاقة غامض وموجَّه مباشرة" إلى أهداف معينة، و"هو يسبب، في بعض الحالات، إصابات دماغية غامضة ناتجة عن نوع من الصدمات".
المسؤولون الأمريكيون يشكون في روسيا
وفقاً لموقع Politico، أبلغ البنتاغون مؤخراً أعضاء بارزين في الكونغرس أنه يشتبه في أن تكون روسيا وراء هذه الهجمات المشتبه بها. غير أن روسيا نفت مسؤوليتها.
لكن إذا ثبتت روسيا عنها، فإن هجمات الطاقة الموجَّهة ستنضم إلى قائمة طويلة من الاعتداءات غير العسكرية التي شنَّتها روسيا ضد الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، والتي يأتي من أبرزها الهجوم الإلكتروني على أنظمة شركة "سولار ويندز" SolarWinds، والتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016.
وقد وقعت معظم هذه الهجمات حتى الآن عندما كان دونالد ترامب لا يزال رئيساً، وهو ما يقول بعض الخبراء إنه السبب في عدم القيام بشيء حيالها.
وتعليقاً على ذلك، قالت النائبة أبيغيل سبانبيرغر، وهي عضوة في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، لشبكة CNN: "إدارة ترامب لم تُبد أي درجة من العزم على مواجهة الاعتداءات والعدوان الروسي في أي مرحلة. ومن ثم، فالهجوم الروسي المزعوم على غموضه ونقص المعلومات عنه -ما إذا كان هجوماً بموجات صوتية أو بموجات ميكروية أو غيرها على أفراد أمريكيين- من الطبيعي ألا يرقى إلى أن يكون في أعلى قائمة مشاغل الإدارة الأمريكية السابقة في وقت كان فيه العدوان الروسي الصريح شيئاً لا يستدعي منهم مواجهته" أو التعامل معه.
في المقابل، اتخذ الرئيس الأمريكي جو بايدن نهجاً تصادمياً حيال روسيا أكثر من سلفه. كما تعهد مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ويليان بيرنز، بجعلِ التحقيق في حوادث الطاقة الموجَّهة "أولوية استثنائية". ومن ثم يبقى أن نرى ما الذي ستفعله الإدارة الأمريكية الجديدة إذا ثبتت مسؤولية روسيا.
قال بوليمروبولوس، الضابط السابق بالاستخبارات المركزية والذي يعالج الآن في مستشفى والتر ريد العسكري، لصحيفة The Guardian: "في ظل قيادة بيرنز للاستخبارات، يبدو أن هناك تغييراً جذرياً. لكن علينا أن نرى أفعالاً الآن، وليس مجرد تصريحات. وأنا لديَّ أمل في ذلك".