تغريدة واحدة أدت إلى تدخل عسكري متعدد الجنسيات غير مسبوق، وكان الهدف إنقاذ مئات الفتيات من الاختطاف على يد جماعة بوكو حرام، ولكن من الواضح الآن أن الأمر جاء بنتيجة عكسية تماماً، وأن هذا الاهتمام الإعلامي قد يكون سبباً لاستمرار مأساة هؤلاء الفتيات حتى الآن.
ففي أبريل/نيسان 2014، كان قطب موسيقى الهيب هوب راسيل سيمونز على متن يخت يبحر في البجر الكاريبي حين غرَّد عن 276 فتاة اختطفتهن جماعة بوكو حرام الإرهابية من داخل مدرسة ثانوية بمدينة تشيبوك شمال شرقي نيجيريا. أشعل الهاشتاغ الذي نسخه عود ثقاب ألهب العالم، إذ حذا ساسة ومشاهير حذوه وشاركوا في نشر الحملة سريعة الانتشار #BringBackOurGirls (أعيدوا فتياتنا).
لربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يؤدي فيها هاشتاغ واحد إلى تدخل عسكري متعدد الجنسيات، غير أنَّ القدرات الاستخباراتية لسبع دول مجتمعة –الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وكندا وفرنسا واليابان وإسرائيل- فشلت في إنقاذ أي من فتيات المدرسة المختطفات، ولم تتمكن من هزيمة المجموعة الإرهابية التي تختبئ في إحدى الغابات، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
بوكو حرام بايعت داعش وقوتها تراجعت ولكنها مازلت تحتجز الفتيات
وكان أبو بكر شيكو زعيم الجماعة قد أعلن في رسالة مصورة بعد عملية الاختطاف أنه سيقوم ببيع الفتيات في سوق العبيد.
وفي السابع من مارس/آذار 2015، أعلن شيكو، أمير بوكو حرام، الولاء والطاعة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، وتحول اسم بوكو حرام إلى "ولاية غرب إفريقيا".
ومنذ ذلك التاريخ وحتى بدايات العام الحالي ارتكبت بوكو عدداً كبيراً من جرائم القتل والخطف، واستخدم الجيش النيجيري وسائل وصفتها بعض التقارير الدولية بالوحشية والتي لا تقل فظاعة عن "جرائم بوكو حرام"، والآن تراجع تأثير بوكو حرام على الأرض عسكرياً، ولكن لا تزال موجودة، كما أن بعض الفتيات اللائي تم خطفهن عام 2014 لا يزال مصيرهن مجهولاً.
كيف أدى تسليط الضوء على هذه القضية إلى إبقاء الفتيات في الأسر؟
تقرير Foreign Policy ألقى الضوء على رواية وتفسيرين مختلفين للأحداث، قدمها مراسلا صحيفة The Wall Street Journal جو باركنسون ودرو هينشو، في كتابهما الجديد "Bring Back Our Girls" (أعيدوا فتياتنا).
يرى الكاتبان أنَّ إخفاق هذا التدخل الدولي قد أدى إلى عدد من أوجه سوء التقدير القاتلة. علاوة على ذلك أدت الشهرة التي جلبتها حملة منصات التواصل الاجتماعي إلى بقاء الفتيات في الأسر لفترة أطول، وتسببت حالة عدم الثقة بين الحكومتين الأمريكية والنيجيرية في تأجيل التحرك نحو تشارك المعلومات الاستخباراتية بالغة الأهمية.
فعلى سبيل المثال، وجد المؤلفان أنَّ غارة جوية للجيش النيجيري بمساعدة من طائرات أمريكية بدون طيار قد قصفت عن طريق الخطأ بعضاً من الفتيات المختطفات، ما أسفر عن مقتل 10 منهن على الأقل. لم يجرِ إبلاغ كبار المسؤولين في واشنطن بهذا رغم تداول جماعة بوكو حرام مقطع فيديو مروعاً لجثث الموتى على الإنترنت.
استمع ضباط استخبارات أمريكيون إلى مكالمات مُعتَرَضة بلغاتٍ لم يمكنهم ترجمتها لكنَّهم لم يشاركوها، لأنَّهم لم يثقوا تماماً بمنح حكومة الرئيس النيجيري غودلاك جوناثان المعلومات التي وجدوها. وبدلاً من ذلك نشرت وكالة الأمن القومي الأمريكية إعلاناً غير معتاد للغاية يبحث عن أمريكيين يتحدثون لغة الكانوري، وهي لهجة مُستخدَمة في نيجيريا وفي أنحاء المنطقة.
وكتب المؤلفان أنَّه في مرحلة ما، حين نجحت فتاتان في الفرار "جعلت الشهرة التي كانت تهدف لتحريرهما فرارهما مهمة أكثر صعوبة". إذ تعرَّف عليهما المتعاطفون مع جماعة بوكو حرام في أول قرية تصادفها فتاتا المدرسة، وأعادوا على الفور تسليمهما، بسبب حس الولاء تجاه الإرهابيين، الذين وفروا الاحتياجات الأساسية لأهل القرية بعدما فشلت السلطات الحكومية في ذلك تاريخياً.
وبحلول الوقت الذي اندفع فيه الجنود النيجيريون لدخول غابة سامبيسا الشاسعة شمال شرقي نيجيريا، كانت فتيات تشيوبك يعشن علناً بالفعل في البلدات الخاضعة لسيطرة بوكو حرام.
وبحلول عام 2017، وجدت واشنطن نفسها ملتزمة بحرب على الإرهاب بالمنطقة، ولم تكن تحرز النصر فيها، فكانت حركات التمرد بقيادة بوكو حرام قد تنامت، وجلبت معها مشاهد مروعة لتفجير الكنائس والمساجد واستخدام الأطفال كانتحاريين ضد مناطقهم، وباتت تحظى بتغطية من وسائل الإعلام العالمية.
الأمر بدأ مع تغريدة زوجة أوباما
ما الذي أخطأت فيه إذاً الحكومات الأجنبية في محاولتها لإسقاط بوكو حرام وإعادة فتيات المدرسة إلى ديارهن؟ تبدأ رواية باركنسون وهينشو للأحداث في البيت الأبيض مع تلك التغريدة التي نشرتها السيدة الأولى آنذاك ميشيل أوباما، ضمن هاشتاغ #BringBackOurGirls، والتفسيرات الجوفاء للتطرف التي أعقبت ذلك في إفريقيا.
وكما يقول المؤلفان، كان الكثير ممن شاركوا في حملة "أعيدوا فتياتنا" على منصات التواصل الاجتماعي يعرفون أنَّ الولايات المتحدة كان لها 800 جندي منتشرين في النيجر و300 آخرين منتشرين في الكاميرون لتدريب العملاء الأمنيين المحليين وتوفير المراقبة وجمع المعلومات في المنطقة.
لكنَّ الكثيرين منهم لم يكونوا يدركون أنَّ الحكومة النيجيرية كانت بالفعل قد تركت جماعة بوكو حرام تتمدد بلا رادع منذ 2009.
كيف توسعت بوكو حرام بهذا الشكل؟
زجَّت معدلات البطالة المرتفعة والفقر والشرطة الباطشة بالرجال في سجون نيجيريا المقيتة، وأولئك الذين نجوا من الموت منهم خرجوا مجرمين عتاة جراء حلقة من التعذيب والانتهاك من جانب مسؤولي القضاء والشرطة والسجون.
وعلى غرار طالبان، تشكلت الجماعة من طلاب الشريعة والعلوم الدينية من أتباع رجل دين اسمه محمد يوسف، وكان ذلك أيضاً في تسعينيات القرن الماضي، وكان مركزهم في مدينة ميدوجوري، عاصمة ولاية بورنو في شمال شرق نيجيريا.
وأثناء تلك الفترة، كانت الجماعة تحرم التعليم في المدارس الحكومية وترفض العمل في الوظائف الحكومية أو الاشتراك في أي نشاط سياسي أو اجتماعي تفرضه الحكومة بدعوى أنه غير قائم على الشريعة.
وأدى التطور الطبيعي لتلك الأفكار إلى قيام أعضائها بتشكيل مجموعات مسلحة لفرض أفكارها على محيطها، وكان العدد وقتها لا يتعدى 200 مقاتل، وكان أول هجوم مسلح للجماعة في ديسمبر/تشرين الأول عام 2003، حين هاجموا عدداً من أقسام الشرطة في ولاية يوبي قرب حدود النيجر.
التحول نحو العنف
على مدى 6 سنوات تقريباً، لم يتم رصد عمليات عنف كبيرة قامت بها "بوكو حرام"، وبدا كما لو أن الجماعة ستواصل وجودها كطلاب علم فقط، ولكن في يوليو/تموز 2009، انطلقت عمليات بوكو حرام المسلحة من بوتشي، وسرعان ما انتشرت في ولايات بورنو وكانو ويوبي، وقتلت الجماعة عشرات من رجال.
جاء رد القوات الأمنية النيجيرية حاسماً، حيث تشكلت قوة عسكرية مشتركة مع رجال الشرطة، وقامت القوة بهجمات عنيفة ضد معسكرات وأماكن تجمع بوكو حرام، وتم هدم المسجد الذي تخطط منه الجماعة لعملياتها، وقتل في المواجهات أكثر من 700 من أعضاء الجماعة، وتم القبض على مؤسس الجماعة محمد يوسف، وأعلنت الشرطة قتل نائبه أبوبكر شيكو.
أعلنت الشرطة النيجيرية بعدها مقتل يوسف في الحجز، عندما حاول بعض أتباعه تهريبه، لكن أعضاء جماعته اتهموا الشرطة بتصفيته دون محاكمة.
الغريب أنه بعد مرور عام على إعلان مقتل شيكو نائب محمد يوسف، نشرت بوكو حرام شريط فيديو أعلن فيه شيكو نفسه توليه إمارة الجماعة.
وفي السابع من سبتمبر/أيلول 2010، قامت مجموعة مكونة من 50 مسلحاً من بوكو حرام بمهاجمة أحد السجون في ولاية بوتشي، وقتلوا خمسة أشخاص وأطلقوا سراح أكثر من 700 نزيل، وفي عام 2011، هاجمت الجماعة مقراً للولايات المتحدة في أبوجا بسيارة مفخخة، ما أدى إلى مقتل 23 شخصاً وإصابة أكثر من 75 آخرين.
وشهدت الفترة التالية من 2011 وحتى 2015، اتساع رقعة عمليات بوكو حرام وشراسة هجماتها بصورة مخيفة، ما أدى لارتفاع عدد الضحايا بصورة لافتة، وأيضاً تسليط الضوء عالمياً على الجماعة، وبدء التعامل معها على أنها جماعة إرهابية تمثل تهديداً.
الأمريكيون جاؤوا بعد فوات الأوان
وبحلول الوقت الذي بدأت فيه إدارة أوباما بإرسال القوات إلى البلدان المحيطة بنيجيريا في 2014 لجمع المعلومات الاستخباراتية، كانت بوكو حرام تسيطر بالفعل على شبكات بنية تحتية مهمة.
وأوضح باركنسون وهينشو بجلاء كيف أنَّ جهود واشنطن الفاشلة، إلى جانب انتشار عمليات الاختطاف، قد أدَّت بالفعل إلى تجرؤ بوكو حرام. وفي حين كان النيجيريون يحتجون في الشوارع كي تفعل الحكومة شيئاً حيال الفتيات المفقودات، نشر زعيم بوكو حرام، أبوبكر شيكاو، مقاطع فيديو على موقع يوتيوب يهدد فيها بتزويج الفتيات.
الإعلام ساعد على بناء شهرة الجماعة
وبينما كان العالم يغرد عن فتيات تشيبوك، استولت بوكو حرام على 6 قرى أخرى دون أي تغطية خارج الإعلام النيجيري تقريباً. في الواقع، يرى المؤلفان أنَّ التراكيب الإعلامية التبسيطية زوَّدت بوكو حرام بالمواد اللازمة لبناء علامتها الإرهابية. فكانت فيديوهات الفتيات التي تنشرها الجماعة تُبَث ويجري الحديث عنها في المحطات التلفزيونية على مستوى العالم. وأصبح "بوكو حرام" اسماً مألوفاً، وكان من المجزي أكثر للجماعة إبقاء الفتيات في الأسر.
كانت الحكومة الفرنسية قبل أشهر من عمليات الاختطاف في تشيبوك قد دفعت نحو 3.6 مليون دولار لتحرير أسرة من 7 سائحين اختطفتها جماعة بوكو حرام. وبسبب شهرة فتيات تشيبوك أراد الإرهابيون المزيد. فوفقاً للمؤلفين كان منطق الإرهابيين هو "ألا تستحق هؤلاء النساء نفس القدر الذي يستحقه الأمريكيون أو الأوروبيون؟ كانت هذه هي القيمة التي منحها الإنترنت لهن".
كان ما أدى في نهاية المطاف إلى تحرير 103 فتيات، على مرحلتين في سبتمبر/أيلول 2017 ومايو/أيار 2017، هو الدبلوماسية الحساسة من جانب الوسطاء السويسريين وأبطال نيجيريين مجهولين يُعرَفون بـ"عملاء السلام". فوفقاً لوزراء حكوميين مجهولين، تفاوض هؤلاء على عملية لتبادل السجناء و3 ملايين يورو (3.6 مليون دولار تقريباً) في صورة فدية، لكنَّ الموقف الرسمي للحكومة النيجيرية هو أنَّه لم تُدفَع فدية قط، وقد هربت 4 فتيات لاحقاً بأنفسهن، وفرَّت 57 فتاة في غضون ساعات من عملية الاختطاف، لكن تظل 112 فتاة في الأسر حتى يومنا هذا. ويُقدِّر المؤلفان أنَّ 40 فتاة على الأقل قد توفين، اثنتان منهن نتيجة الولادة الناتجة عن الزواج القسري.
وكتب المؤلفان: "هناك أيضاً وضع افتراضي مغاير مقلق، كان يمكن أن تتمكن فيه المزيد من الفتيات من الفرار، مثلما فعل آلاف من ضحايا بوكو حرام، لو أنَّ منصات التواصل الاجتماعي لم ترفع قدرهن وتحولهن إلى بطاقة مقايضة لا تُقدَّر بثمن بالنسبة للجماعة".
من ناحية أخرى، هناك شكوك بأنَّ المسؤولين النيجيريين كانوا سيبذلون هذه الجهود الجدية أو سيلتزمون بهذه الموارد دون وجود الضغط الجماهيري الذي أوجده الهاشتاغ.
ويعلق تقرير مجلة Foreign Policy على تلميح المؤلفين إلى تفسير ما يحدث في المنطقة بأنه راجع لأزمة دينية في المنطقة، بالقول إن الشمال النيجيري يخضع لحكم الشريعة بالفعل، وهناك رئيس مسلم في السلطة، لذا لا يمكن أن يكون الاختلاف الديني هو المحرك الوحيد للصراع في نيجيريا. في الحقيقة لقد أصبح التطرف والعنف السياسي رويداً رويداً أمراً طبيعياً في أنحاء البلاد.
تأتي الروايات الأكثر إثارة للدهشة من فتيات تشيبوك أنفسهن، ربما لأنَّ هذا الكتاب واحد من الأعمال القليلة المنشورة التي نستوعب فيها محنتهن تماماً. فقد تحدث المؤلفان لعشرين من الفتيات المحررات، ويتضمَّن الكتاب مقتطفات من مذكرات كُتِبَت خلال الأسر وظلت إحدى الفتيات، وهي نعومي أدامو، تخفيها لثلاث سنوات.
وهذه المقتطفات تعيد صياغة قصة تشيبوك، على نحو يحولها من قصة ضحية إلى قصة تحدٍّ شجاع. تقول الفتاة "لقد كنتُ أشجعهم في محاولاتهم المختلفة للفرار، على الرغم من معرفتي بالنتيجة المأساوية".
مواقع التواصل شجعت على تفاقم تجارة اختطاف الفتيات
كان نشاط منصات التواصل الاجتماعي حسن النية، لكنَّه أدى إلى بعض النتائج غير المقصودة: تدخل عسكري تحت مظلة ما يُسمَّى بالحرب على الإرهاب، وتجارة اختطاف مقابل فدية قامت بها عصابات إجرامية تستنسخ أسوأ عمليات اختطاف بوكو حرام.
وقد اختُطِفَ أكثر من 800 من أطفال المدارس شمال غربي نيجيريا، منذ ديسمبر/كانون الأول 2020 باعتبارهم رهائن ذوي قيمة عالية.
ويقدم الكتاب حجة مقنعة بأنَّ الحوار أكثر فاعلية من الحشيد العسكري في الصراعات التي تتضمَّن الجماعات الأصولية، خصوصاً أنَّ التطرف يواصل الانتشار في منطقة الساحل على الرغم من مبيعات الأسلحة الأمريكية والتدخل العسكري في المنطقة.
لم تؤدِ التدخلات العسكرية وجمع المعلومات الاستخباراتية في الواقع إلى معالجة المشكلات المعقدة التي أدت إلى نشوء التطرف.
بل يجادل المؤلفان بأنَّ تحرير الفتيات تطلَّب عمل النيجيريين بصبر في الظل، بعد فترة طويلة من اختفاء الاهتمام الجماهيري. وبعد مرور أكثر من عقد، أسفرت حرب بوكو حرام عن قتل أكثر من 40 ألف شخص وتشريد أكثر من مليوني شخص في شمال شرقي نيجيريا. والتحدي الماثل أمامنا جميعاً هو أن نفهم القصة بعيداً عن التغريدات الجوفاء.