هل تتخلى السعودية عن الوهابية وعن التزامها بالمذهب السلفي برمته؟ يبدو هذا السؤال هو الذي سيطرأ على ذهن أي متأمل لحوار الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، الأخير.
فلقد فجَّر الأمير محمد مفاجأة مدوية في مقابلة تلفزيونية مع الإعلامي عبدالله المديفر، بحديثه المطول عن الفقه الإسلامي وعلم الحديث، والذي قد يفهم منه أن السعودية ليست ملزمة بالسلفية والوهابية، كما بدا من كلامه أنه تمهيد للتخلي عن بعض الأحكام التي يعتبرها أغلب علماء الدين المسلمين (وليس السلفيين فقط) شرعية.
ملتزمون فقط بالقرآن والحديث المتواتر
فحديث الأمير محمد عن أن الحكومة السعودية ملتزمة بالقرآن والأحاديث المتواترة وليس أحاديث الآحاد قد يعني إلغاء أغلب الحدود، بما أن معظم الحدود المطبقة في السعودية لم تُذكر في القرآن، إذ إن أهم الحدود المذكورة في القرآن هو حد الزنا، وهو مئة جلدة، ولكن يُطبق في السعودية حد الرجم استناداً لحديث آحاد، علماً أن عقوبة الجلد في القرآن مذكورة فقط بالنسبة للزنا وقذف المحصنات، وغير مذكورة للخمر.
وكان لافتاً قول بن سلمان: "دستورنا هو القرآن، وسوف يستمر للأبد، والنظام الأساسي في الحكم ينص على ذلك بشكل واضح للغاية، نحن كحكومة، أو مجلس الشورى كمشرع، أو الملك كمرجع للسلطات الثلاث ملزمون بتطبيق القرآن، لكن في الشأن الاجتماعي والشخصي فقط ملتزمون بتطبيق النصوص المنصوص عليها في القرآن بشكل واضح، يعني لا يجب أن أطرح عقوبة شرعية بدون نص قرآني واضح أو نص صريح من السنة.
وقال بن سلمان "القرآن صالح لكل زمان ومكان، الحكومة في الجوانب الشرعية مُلزمة بتطبيق النصوص في القرآن، ونصوص الحديث المتواتر، وتنظر للحديث الآحاد حسب صحتها وضعفها ووضعها، ولا تنظر لأحاديث الخبر بتاتاً إلا إذا كانت تستند على رأي فيه مصلحة واضحة للإنسان".
والحديث المتواتر هو المروي عن عدد كبير من الرواة، بحيث يستحيل اجتماعهم على الكذب في هذا الحديث، أما حديث الآحاد فهو، ما لم يجمع شروط المتواتر، وله درجات مختلفة.
وبدا الأمير محمد بن سلمان يطرح رؤية تتضمن تغييراً جذرياً ليس فقط بالمقارنة مع المذهب السلفي، بل أغلب السائد في الفقه الإسلامي، مشيراً بشكل خاص إلى الصحيحين اللذين يحظيان بقيمة كبيرة لدى أغلب المسلمين (وبالأخص السلفيين)، ولاسيما الإمام البخاري.
إذ قال بن سلمان "عندما أتكلم عن نص صريح من السنة فإن أغلب المدونين للحديث يصنفون الحديث بناء على البخاري ومسلم وغيرهما أنه حديث صحيح أو حسن أو ضعيف".
يمثل هذا ثورة غير مسبوقة ضد المذهب السلفي، الذي يقوم بشكل أساسي على مركزية دور السنة النبوية في التشريع، وهو دور كان السلفيون رواده على مدار التاريخ الإسلامي، أكثر من أي مذهب فقهي آخر.
فإن هذا التوجه الذي دعا إليه لم يصل إليه أغلب الفقهاء والإسلاميين الذين يوصفون بالمعتدلين.
حتى إن كلاماً مشابهاً لرجل الدين المصري الشيخ محمد الغزالي، المقرب من جماعة الإخوان المسلمين بشأن أحاديث الآحاد، لقي بعض الانتقادات.
كما وُجهت انتقادات كبيرة لآراء مشابهة للشيخ المصري الشهير محمد أبوزهرة، الذي استند لأفكار مشابهة للقول، بأن حد الرجم منسوخ (أي توقف العمل به في عهد الرسول).
هل يمهد محمد بن سلمان لوقف الحدود؟
وكان لافتاً قول بن سلمان "كونك تأخذ نصاً قرآنياً وتطبقه بطريقة غير الطريقة التي طبّقها الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبحث عن الشخص وتثبت عليه التهمة بينما الرسول أتاه المتهم معترفاً وعامله بهذه الطريقة هذا ليس شرع الله".
ويشير هذا الكلام إلى إمكانية إلغاء تطبيق العديد من الحدود، خاصة حد الزنا، الذي يعتقد أنه مرتبط بحديث للرسول ورد فيه أن "ماعز" جاءه معترفاً بأنه زنا، وكذلك قد يشمل ذلك حدَّي الردة والخمر لأنهما ليسا واردين في القرآن.
ويلوح للتخلي عن الوهابية
أما النقطة الفاصلة التي تشير إلى النية للتخلي عن المذهب السلفي والوهابية، فهي قوله "لا نتبع مدرسة أو عالماً معيناً… الشيخ محمد بن عبدالوهاب لو خرج من قبره ووجدنا نؤلّهه ونطبق نصوصه دون اجتهاد لرفض الأمر".
وأضاف: "فلا توجد مدرسة ثابتة، ولا يوجد شخص ثابت، القرآن والاجتهاد مستمران، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والاجتهاد مستمران، وكل فتاوى حسب كل زمان ومكان، وكل فهم، يعني مثلاً قبل مئة عام يفتي أحد المشايخ الأجلاء بفتوى معينة وهو لا يعرف أن الكرة الأرضية مدورة أم لا، ولا يعرف قارات العالم، ولا التقنية، وإلى آخره، ففتواه بناء على معطيات ومعلومات عنده، وفهمه للقرآن والسنة، لكن هذه تتغير في وضعنا الحالي".
ومن المعروف أن أحد الأمور الأساسية التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبدالوهاب هي التخلي عن التمذهب والأخذ من المذاهب المتعددة، والدعوة للاجتهاد.
نقاش ديني ثري يعقبه تلويح بمعاقبة المخالفين
وبدا الأمير محمد بن سلمان في الحوار أقرب إلى مفكر منه إلى زعيم سياسي، وهو فعلياً يطلق أول عملية تنظير كبيرة لتغيير الأساس الديني للمملكة.
واللافت هنا أن بن سلمان لم يعلن على الإطلاق التخلي عن المرجعية الدينية للمملكة، بل وسعها بشكل كبير، لتصبح أقرب إلى أفكار أقصى طيف العلماء والمفكرين الإسلاميين الإصلاحيين، (وهو طيف كان يتعرض تقليدياً لهجوم عنيف من السلفيين ومن معظم علماء الدين، فيما كان يتعرض لانتقادات خفيفة من المفكرين والعلماء المحسوبين على الإخوان المسلمين، الذين كانوا يتبنون أفكاراً إصلاحية، ولكن ليس بهذه الراديكالية.
يمكن القول إن ما قاله الأمير محمد بن سلمان أكثر جرأة مما تلمح له على استحياء بعض التيارات الإسلامية المعتدلة، القريبة من الإخوان، والتي تقع على يسار الجماعة، وهي آراء كان يهاجمها السلفيون بشدة.
ولكن الأمير محمد بعد هذه الأفكار التحديثية التي قد تُثير صدمة أغلب المسلمين، وحماسة بعض العلمانيين والتنويريين والإسلاميين الأكثر راديكالية في المطالبة بالإصلاح الفقهي، انتقل سريعاً من خانة النقاش العلمي إلى استخدام سلطته لحسم الأمور، إذ قال "أي شخص يتبنى منهجاً متطرفاً حتى لو لم يكن إرهابياً فهو مجرم".
وقد يعني ببساطة أن أي شخص لا يوافق على الأفكار المشار إليها متطرف، وبالتالي هو مجرم.
لا يعني ما طرحه الأمير محمد بن سلمان فقط احتمالات التخلي عن المذهب السلفي كمرجعية للدولة السعودية، وتغيير العديد من الأحكام المطبقة وفقاً للفهم السلفي للشريعة، بل قد يعني ذلك أيضاً تغيير الطابع الثقافي والعلمي للمملكة، التي قامت مؤسساتها الدينية والثقافية والتعليمية على أساس أن السلفية هي النهج الديني الصحيح، وهي عملية معقدة وقد تجابَه بمقاومة صامتة.
إذ يمكن تخيل صدمة مئات الآلاف من العلماء وطلاب العلم ورواد المساجد وطلاب المدارس، المطالبين اليوم بأن يغيروا كثيراً مما ترسَّخ في ثقافة البلاد منذ عقود.
بعد عصا الإصلاح الفقهي جاء وقت جزرة الاقتصاد
وبينما كان الأمير محمد بن سلمان ثورياً وهجومياً في خطابه الديني، فإنه بدا دفاعياً في خطابه الاقتصادي، محاولاً التأكيد على أن رؤية 2030 قد حققت معظم أهدافها، كما بدا أنه يحاول تبرير حدة آثار الإصلاحات الاقتصادية على المواطن السعودي، عبر قوله "رفعنا الضريبة إلى 15% بسبب الجائحة، واخترنا اتخاذ إجراءات قاسية على المدى القصير وجيدة على المدى البعيد".
بل وصل الأمر إلى أنه لوح بتخفيض هذه الضريبة قائلاً "نستهدف إعادة الضريبة إلى 10% أو 5% في حد أقصاه 5 سنوات وأدناه سنة".
لن نفرض ضريبة على الدخل
بدا الطابع المتحفظ في الاقتصاد في تأكيد الأمير محمد على أن "ضريبة الدخل لن تُفرض في السعودية نهائياً".
وضريبة الدخل هي ضريبة أساسية في أي مجتمع طبيعي، وضرورية لتنمية موارد الدولة، ويعد غيابها أحد أوجه القصور في اقتصادات دول الخليج جميعها، لأن هذه الضريبة في حال فرضها تسهل للدولة إمكانية الاقتراض من السوقين المحلي والدولي من أجل زيادة الإنفاق، لأنها تعلم أنها تستطيع سداد هذه الديون عبر جباية الضرائب.
ولكن رسالة الأمير محمد بدت وكأنها تقول إنه في مقابل التغيير الجذري في الحياة التشريعية والدينية والثقافية للسعوديين، فإن العمود الأهم في النموذج الاقتصادي السعودي سيبقى.
وبالفعل، لم تقتصر الإيماءات الاقتصادية على الضرائب، بل ركز بن سلمان على توسع القروض السكنية ونجاح الدولة السعودية في تخفيض البطالة (وهي مشكلة كبيرة في البلاد، وجرى حلها بالأساس عبر تقليل العمالة الأجنبية).
إنه يراهن على تكرار تجربة أرامكو، ولكن هل نجحت؟
وفي مواجهة إخفاق المملكة في جذب الاستثمارات الأجنبية بالشكل الذي وعدت به رؤية 2030، ركز الأمير محمد على استخدام أموال صندوق الاستثمارات العامة (الذي يضم أموال فوائض النفط)، لتحفيز النمو الاقتصادي، في ظل استمرار تراجع أسعار النفط، وعدم القدرة على جذب استثمارات خارجية.
وركّز على أن مصادر الدخل الجديدة لزيادة رأسمال صندوق الاستثمارات العامة، ستأتي بالأساس من خلال طرح الصندوق للبيع حصصاً في شركاته ومشروعاته الناجحة.
ولم يشر الأمير محمد إلى مشكلات طرح شركة أرامكو السعودية العملاقة، والتي انتهى بها الأمر بعد الضجة التي أثيرت حولها إلى طرحها في البورصة السعودية، بدلاً من البورصات العالمية، مع إعطاء ضمانات مالية بشأن أرباحها للمكتتبين.
وتثير هذه الضمانات مخاوف من سقوط الشركة في دوامة الديون، بعدما لجأت الشركة إلى أسواق الديون، للمساعدة في تمويل التزاماتها تجاه الأفراد والجهات الذين اشتروا أسهم الشركة فيما يعد أكبر توزيع أرباح في العالم، في وقت تتراجع عوائد الشركة بشكل كبير.
وأقر الأمير محمد بأنه في أعوام "2016، 2017، 2018 كانت المنجزات ضعيفة جداً، مقارنة بـ2019، الذي حققت فيه أغلب المنجزات الاقتصادية والخدمية، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن الجائحة قد عطلت جهود الإصلاح الاقتصادي".