إذا كان الهدف من زيارة ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد لمصر هو التأكيد على عدم وجود خلافات بين البلدين في ملفات أساسية، أبرزها سد النهضة، فيمكن القول إن ذلك الهدف لم يتحقق.
كان الشيخ محمد بن زايد قد وصل القاهرة، السبت 24 أبريل/نيسان 2021، في زيارة قصيرة، استقبله خلالها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، حيث تناولت المباحثات بينهما عدداً من أبرز الملفات المطروحة على الساحة الإقليمية، من بينها "سد النهضة"، بحسب بيان للرئاسة المصرية.
البيان المقتضب قال إنه "تم الإعراب خلال اللقاء عن الارتياح لمستوى التعاون والتنسيق القائم بين الدولتين، مع تأكيد أهمية دعمه وتعزيزه"، مضيفاً: "فيما يتعلق بقضايا المنطقة تناولت المباحثات عدداً من أبرز الملفات المطروحة على الساحة الإقليمية، وكذلك سد النهضة"، دون ذكر تفاصيل عما توصل إليه السيسي وبن زايد في الملف الأخير بالتحديد، والذي يمثل القضية الوطنية الأبرز على الساحة المصرية.
تغطية إعلامية مختلفة
قراءة تلك الزيارة القصيرة لولي عهد أبوظبي إلى القاهرة -وهي الثانية له خلال عدة أشهر إذ سبقتها زيارة مماثلة استغرقت ساعات أيضاً، في ديسمبر/كانون الأول الماضي- تشير إلى عدة ملامح، أبرزها التغطية الإعلامية "الخجولة" في الإعلام المصري، على عكس ما كان يحدث في الزيارات السابقة، فقد اقتصرت التغطية على البيان الصادر عن الرئاسة المصرية، وتصريحات المتحدث باسم الرئاسة، والتي نشرتها الصحف المصرية في صورة بيان آخر.
فلم تتصدر صورة السيسي وضيفه الصفحات الأولى للصحف المصرية -قومية ومستقلة- كما جرت العادة، ولم يتناول رؤساء التحرير تلك الزيارة في مقالاتهم كالمعتاد، وهو ما يعكس بوضوح مدى الشرخ الذي تعاني منه العلاقات بين القاهرة وأبوظبي، بسبب تصرفات الأخيرة التي أوقعت ضرراً لم يعد بالإمكان تجاهله في ملفات خطيرة، أبرزها بالطبع ملف سد النهضة، بحسب مراقبين في المنطقة وخارجها.
وبالتوقف عند تصريحات المتحدث باسم الرئاسة المصرية حول الزيارة، يمكن رسم ملامح ما جرى خلف الأبواب المغلقة، إذ "ذكر المتحدث الرسمى أن اللقاء شهد التباحث حول أطر وآفاق التعاون المشترك بين مصر والإمارات، حيث تم الإعراب عن الارتياح لمستوى التعاون والتنسيق القائم بين الدولتين، مع تأكيد أهمية دعمه وتعزيزه لصالح البلدين والشعبين الشقيقين، خاصة في المجالات الاقتصادية والاستثمارية، بالاستغلال الأمثل لجميع الفرص المتاحة لتعزيز التكامل بينهما"، بحسب صحيفة الأهرام المصرية.
لكن اللافت أنه "فيما يتعلق بقضايا المنطقة تناولت المباحثات عدداً من أبرز الملفات المطروحة على الساحة الإقليمية، وكذلك سد النهضة، حيث عكست المناقشات تفاهماً متبادلاً بين الجانبين، إزاء سبل التعامل مع تلك الملفات"، إذ إن اعتبار "سد النهضة" أحد قضايا المنطقة يعد أمراً غريباً على أقل تقدير، فأزمة السد بالنسبة لمصر تمثل قضية "حياة أو موت"، بحسب الرئيس المصري نفسه، وليست مجرد ملف مطروح على الساحة الإقليمية يستدعي "بذل الجهود المشتركة لتسويته".
ماذا حققت الزيارة السابقة لولي عهد أبوظبي؟
يمكن القول إن البرود في العلاقات بين القاهرة وأبوظبي قد بدأ يطفو على السطح منذ الصيف الماضي، مع الإعلان عن التطبيع بين أبوظبي وتل أبيب، وما تبعه من قفزات إماراتية نحو التحالف مع إسرائيل، خصوصاً في الجانب الاقتصادي، وتزامن ذلك التطور مع هزيمة قوات شرق ليبيا بزعامة خليفة حفتر (المدعوم من القاهرة وأبوظبي)، وهو ما جعل مصر تعيد التفكير في استراتيجيتها في الصراع الليبي، ومن ثم بداية التقارب مع تركيا التي تدعم الحكومة الليبية في طرابلس.
فالمتابع للاتفاقيات المعلنة بين الإمارات وإسرائيل، خصوصاً تلك المتعلقة بتطوير ميناء حيفا ليصبح أكبر موانئ شرق المتوسط، إضافة إلى التقارير حول خط أنابيب نقل النفط والغاز من الخليج إلى أوروبا عبر إسرائيل، دون المرور بقناة السويس المصرية، يرى دون عناء ما يمكن أن تمثله تلك التحركات الإماراتية من قلق بالنسبة للقاهرة، التي تعتمد بشكل كبير على دخل القناة من العملات الأجنبية، خصوصاً في ظل انهيار السياحة بفعل وباء كورونا.
وبالتالي جاءت زيارة ولي عهد أبوظبي للقاهرة، في ديسمبر/كانون الأول الماضي -وكانت أيضاً زيارة قصيرة استغرقت ساعات- في خضم تنامي التقارير والمؤشرات على تسلل البرودة للعلاقات بين الجانبين، والتي كانت تتسم بالدفء والحميمية، وشهدت تلك الزيارة السابقة حدثاً يستدعي التوقف طويلاً أمامه، وهو طلب بن زايد من السيسي انضمام الإمارات لمنتدى غاز شرق المتوسط، بصفة مراقب، وموافقة السيسي على ذلك الطلب، لكن هذا لم يحدث بعد أن اعترضت السلطة الفلسطينية كأحد الأعضاء المؤسسين للمنتدى، والذين يتمتعون بحق الفيتو على انضمام أعضاء جدد.
صحيح أن موقف السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس من أبوظبي جاء كانتقام من مواقف الإمارات المعادية للسلطة -سواء من خلال التطبيع مع تل أبيب أو من خلال دعم محمد دحلان المفصول من حركة فتح والمنافس لعباس والذي تحتضنه الإمارات- إلا أنه من الصعب تخيل أن مصر لم يكن بإمكانها الضغط على عباس وإقناعه بالموافقة على انضمام الإمارات كمراقب، وذلك ما كان متوقعاً بالتأكيد في حال كانت العلاقات بين القاهرة وأبوظبي لا تشوبها الشوائب.
ومن المؤشرات على مدى عمق الشرخ الذي تشهده العلاقات بين القاهرة وأبوظبي ذلك المنتدى الجديد الذي تم الإعلان عنه مؤخراً، وضم "الإمارات وإسرائيل واليونان وقبرص"، في صورة تحالف بين الدول الأربع التي يجمع بينها عامل مشترك هو العداء لتركيا، وهذا المنتدى الذي يوصف بأنه "منتدى شرق المتوسط الثاني" أثار علامة استفهام ضخمة بشأن ما يجري في الكواليس، خصوصاً أن التصريحات الصادرة عن وزراء خارجية الدول الأربع وجهت الدعوة للسلطة الفلسطينية للانضمام لهم، بينما غابت القاهرة تماماً، دون أن نعرف إذا ما كانت مصر قد رفضت الانضمام أو أن الدعوة لم توجه إليها من الأساس.
التقارب بين مصر وتركيا
وليس من الصعب استبعاد التهدئة الحاصلة بين القاهرة وأنقرة مما يجري في نهر العلاقات بين القاهرة وأبوظبي، فموقف الإمارات العدائي من تركيا ليس سراً، وبالتالي فإن فتح قنوات الاتصال العلنية بين مصر وتركيا مؤخراً، وتقارب وجهات النظر في الملف الليبي، من المؤكد أنه ليس على هوى أبوظبي، وهو ما يجعل المحللين يرون في توقيت زيارة الحاكم الفعلي للإمارات للرئيس المصري الآن محاولة لإظهار أن العلاقات بين البلدين لا تزال تتمتع بنفس متانتها، منذ وصل السيسي إلى رئاسة مصر عام 2014.
لكن الواضح أن الشرخ في تلك العلاقات صار أكثر عمقاً مما قد تصلحه زيارة أو زيارات قصيرة تلتقط خلالها الصور التذكارية، للإيحاء بأن كل شيء على ما يرام، وهو ما حدث في زيارة ديسمبر/كانون الأول الماضي، دون أن يؤدي ذلك إلى إصلاح ما أفسدته المواقف الإماراتية، التي أصبحت تتناقض بوضوح مع المصالح المصرية الأساسية.
ففي حين ينطلق الموقف الإماراتي في الملف الليبي، على سبيل المثال، من السعي لتنصيب خليفة حفتر حاكماً عسكرياً في ليبيا، نكاية في حكومة الوفاق السابقة، والتي كانت تتمتع بالاعتراف الدولي بسبب رأته أبوظبي فيها من سيطرة للإسلاميين، فإن الموقف المصري، الذي لم يكن يختلف عن الموقف الإماراتي في البداية، قد تغير الآن بعد خسارة الرهان على مشروع حفتر، ولكون ليبيا تمثل امتداداً للعمق المصري والأمن القومي على طول حدودها الغربية، وهو أمر مختلف تماماً عن الموقف الإماراتي البعيد عن المنطقة، وبالتالي عن شظاياها الملتهبة.
لكن يظل موقف الإمارات من قضية سد النهضة، بحسب كثير من المراقبين، هو أبرز أسباب الشرخ العميق في علاقات البلدين نظراً لدعم أبوظبي لإثيوبيا -الذي لم يعد خافياً- واستثماراتها المتنامية بشدة هناك، وهو ما ظهر بوضوح بعد أن وصلت الأمور إلى نقطة الصدام، وهدد الرئيس المصري أكثر من مرة من خطورة مواصلة أديس أبابا الملء الثاني للسد، دون التوصل لاتفاق على استقرار المنطقة بأسرها.
ومقارنة بسيطة وسريعة بين موقف بعض الدول العربية مثل السعودية والبحرين والأردن الداعم لمصر والسودان وبين موقف أبوظبي "الغامض" -على أقل تقدير- تكشف لنا مدى الغضب المكتوم -حتى الآن- لدى القاهرة، خصوصاً أن أبوظبي لعبت دوراً رئيسياً في توقيع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي اتفاق المبادئ مع إثيوبيا في الخرطوم عام 2015، وهو ما أدى لإعطاء أديس أبابا مسوغاً قانونياً تمسكت به وشيدت السد، ونفذت الملء الأول، وفي طريقها للملء الثاني، دون أي اعتبار للمخاوف المصرية من التداعيات الكارثية للسد.
الخلاصة هنا هي أن زيارة محمد بن زايد القصيرة للسيسي، أمس السبت، تشبه إلى حد كبير تلك الزيارة التي قام بها ولي عهد أبوظبي للقاهرة، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ولم ينتج عنها تغيير يذكر في علاقة الطرفين تعكسه المواقف الفعلية، وليست التصريحات الدبلوماسية، فعلى الأرض أعلنت الإمارات عن منتدى شرق متوسط جديد مع حليفتها إسرائيل واليونان وقبرص، ثم أصدرت بياناً "باهتاً" بشأن سد النهضة يوم الأربعاء، 31 مارس/آذار، رداً على تهديد السيسي في اليوم السابق بشأن سد النهضة، وبالتالي فإن التوقعات بأن تلك الزيارة الأخيرة قد تصلح ما فسد بالفعل تُعد على الأرجح أمنياتٍ لا أكثر.