"شرطي إفريقيا"، هكذا يمكن وصف الرئيس التشادي إدريس ديبي الذي قتل أمس تاركاً وراءه ليس فقط تاريخاً مثيراً للجدل في بلاده، بل قلقاً حول مصير منطقة الصحراء الكبرى وشمال إفريقيا في ظل الدور الذي كان يلعبه في المنطقة.
وكان ديبي قد قتل في 20 أبريل/نيسان 2021 خلال اشتباكات مع المعارضة الشمالية، حسبما قال الجيش التشادي الذي نصّب نجل الرئيس الراحل محمد إدريس ديبي البالغ من العمر 37 عاماُ، وشكّل مجلساً عسكرياً فرض حالة الطوارئ لمدة 18 شهراً، وسط انتقادات من المعارضة.
ويهدف تحرك الجيش الذي وصفته المعارضة بغير الدستوري إلى الحفاظ على سلطة العسكريين، كما كانت في إدارة ديبي، حسبما ورد في تقرير لموقع Critical Threats.
وإدريس ديبي ليس مجرد رئيس دولة إفريقية فقيرة وشبه صحراوية قليلة السكان، ولكنه يعد رقماً مهماً في الحرب ضد الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية، بل أصبح لاعباً في توازن الصراعات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وكان ديبي بمثابة رجل فرنسا والغرب في المنطقة، حيث لعب الجيش التشادي في عهده دوراً كبيراً في الحرب على الإرهاب خاصة في مالي ونيجيريا موفراً الدعم العسكري لدول أغنى وأكبر كثيراً من بلاده، مانحاً تشاد دوراً أكبر من حجمها الطبيعي في المنطقة.
كما أنه صديق للإمارات وأحد المهرولين لقطار التطبيع الإماراتي مع إسرائيل.
إدريس ديبي المحب للسلاح
وُلد إدريس ديبي عام 1952 في بردوبا شمال شرقي تشاد، وهو ينتمي لقبيلة الزغاوة الموجودة على جانبي الحدود التشادية السودانية.
ومنذ سن مبكرة، أظهر رغبة في حمل السلاح، حيث حصل على شهادة البكالوريا والتحق بمدرسة الضباط بالعاصمة نجامينا، ثم حصل على رخصة طيار في فرنسا، وبعد عودته لبلاده تقلد عدة مناصب عسكرية رفيعة، ثم اتهم بالتآمر في عام 1989 وهرب إلى ليبيا ومنها إلى السودان حيث أسس حركة "الخلاص الوطني".
وفي ديسمبر/كانون الأول 1990، استولت قواته على نجامينا، وبتوليه السلطة فتح البلاد لنظام متعدد الأحزاب من الناحية الشكلية.
انتخب إدريس ديبي في عام 1996 وأعيد انتخابه منذ ذلك الحين، وتعرض لانتقادات من قبل المعارضة التي تتهمه بتزوير الانتخابات وانتهاكات حقوق الإنسان.
وعلى مر السنين، أحبط ديبي مؤامرات وهجمات للمتمردين الذين وصلوا إلى بوابات قصره، وأغضب كذلك المعارضة السياسية عبر إقصاء المنافسين الحقيقيين من الانتخابات.
ظروف مقتله تثير المخاوف من سقوط النظام
كان المتمردون قد عبروا الحدود إلى تشاد من ليبيا وتقدموا نحو نجامينا في 18 أبريل/نيسان 2021 بعد أن أظهرت نتائج الانتخابات فوز الرئيس ديبي بولاية أخرى بعد 30 عاماً في المنصب.
وانتشرت القوات التشادية داخلياً للرد وقتلت ما لا يقل عن 300 متمرد بحلول 19 أبريل/نيسان، وقيل إن ديبي سافر إلى الخطوط الأمامية بعد إعلان نتائج الانتخابات، حيث قتل.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، أمس الثلاثاء، إن واشنطن تريد أن ترى انتقالاً في تشاد يتفق مع دستورها بعد وفاة الرئيس إدريس ديبي يوم الاثنين.
وبصرف النظر عن الغموض حول طريقة مقتله التي يقول الجيش إنها حدثت خلال تصديه للمعارضة، فإن من الواضح أن نظام ديبي الذي ورثه ابنه يتعرض لخطر كبير.
وتأتي هذه المخاطر جهات عدة أبرزها من جبهة التغيير والوفاق المتمردة المتمركزة على الحدود الشمالية مع ليبيا، والتي نجحت مؤخراً في شق طريقها جنوباً بعد مهاجمة نقطة حدودية يوم الانتخابات، داعيةً إلى إنهاء رئاسة ديبي (والتي يعتقد أنه قتل في القتال معها).
وهذه الجبهة هي جماعة سياسية عسكرية مقرها أساساً في الجزء الشمالي من البلاد أسسها ضباط منشقون في الجيش في عام 2016، واتهمت الجماعة، مثل سياسيين معارضين وجماعات حقوقية في تشاد، ديبي بالقمع في الفترة التي سبقت الانتخابات.
في الأسبوع الماضي هاجمت نقطة حدودية شمال البلاد في يوم الانتخابات وأعلنت استقلال منطقة التبتسي الشمالية في تشاد، القريبة من الحدود الليبية.
ويقع مقر جبهة التغيير والوفاق في ليبيا، حيث أبرمت اتفاقية عدم اعتداء مع أمير الحرب خليفة حفتر، الذي يسيطر على جزء كبير من شرق البلاد، حسبما ورد في تقرير لموقع TRT World.
وتتألف الجماعة بشكل أساسي من إثنية القرعان الصحراوية (فصيلة من شعب التو) وتدخل في اشتباكات منتظمة مع الجيش التشادي.
وقال المتمردون يوم الأحد إنهم استولوا على حاميات بالقرب من الحدود الشمالية لتشاد مع النيجر وليبيا.
وتقدمت المجموعة مئات الكيلومترات جنوباً عبر الدولة الشاسعة في غضون أيام قليلة، لكن يبدو أن الجيش التشادي أبطأ تقدمهم بنحو 300 كيلومتر (185 ميلاً) من نجامينا.
وأصدرت السفارتان الأمريكية والبريطانية تحذيرات من هجوم محتمل على العاصمة خلال عطلة نهاية الأسبوع.
فرنسا لم تنقذه هذه المرة
وتتمتع الدولة الواقعة وسط إفريقيا بتاريخ طويل من التمردات خلال فترة حكم ديبي التي استمرت 30 عاماً.
وتشاد، المستعمرة الفرنسية السابقة، موطن لعملية برخان العسكرية الفرنسية، التي تنشر قوات في جميع أنحاء القارة لمحاربة الجماعات المتطرفة.
سبق أن قامت القوات الفرنسية بحماية الرئيس ديبي من المنافسين المسلحين، لا سيما شن غارات جوية ضد المتمردين التشاديين الذين كانوا يخططون للإطاحة بديبي بالقرب من الحدود الليبية في فبراير/شباط 2019.
وفي عام 2008، وصلت الاشتباكات إلى بوابة القصر الرئاسي قبل أن يتصدى الجيش التشادي لقوات المتمردين ويلاحقهم شرقاً باتجاه الحدود السودانية.
ولكن اللافت أن فرنسا لم تعلن عزمها التدخل لدعم نظام ديبي حتى الآن، وهو ما قد البعض إلى الحديث عن أن باريس تخلت عنه.
ماذا سيحدث في الحرب ضد الإرهاب؟
قد يؤثر عدم الاستقرار في تشاد على عمليات برخان في منطقة الساحل، بما في ذلك جهود مكافحة الإرهاب التي أضعفت مؤقتاً الجماعات السلفية الجهادية.
ومن المرجح أن يؤدي عدم الاستقرار الداخلي إلى تعطيل المشاركة التشادية في جهود مكافحة الإرهاب الإقليمية، ما يفيد الجماعات السلفية الجهادية التي هي بالفعل في حالة هجوم في منطقة الساحل وحوض بحيرة تشاد، حسبما ورد في تقرير موقع Critical Threats.
لم يتضح بعد ما إذا كان الجيش التشادي سيقمع التمرد ويحتفظ بالسيطرة على البلاد. ومن المرجح أن يحتاج الجيش التشادي إلى سحب القوات المنتشرة في جميع أنحاء منطقتي الساحل وبحيرة تشاد في كلتا الحالتين.
والجيش التشادي هو القوة الأكثر فاعلية في منطقة الساحل التي تشارك في جهود مكافحة الإرهاب الإقليمية، وسيؤدي انسحاب القوات التشادية إلى رفع الضغط عن الجماعات السلفية الجهادية في منطقة بحيرة تشاد ومنطقة الساحل.
وسيؤدي عدم الاستقرار في تشاد إلى تعطيل مهمة الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في شمال مالي لصالح فرع القاعدة في الساحل. ورد أن الرئيس ديبي دعا إلى عودة بعض القوات التشادية العاملة في منطقة الساحل للدفاع عن نجامينا في 18 أبريل/نيسان 2021.
وتشاد هي واحدة من أكبر 10 مساهمين في بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما)، مع قوة تزيد على 1400 جندي. وأعلنت تشاد في 16 فبراير أنها ستسهم بـ1200 جندي إضافي. نشط جنود التشاديون المشاركون في مينوسما مؤخراً ضد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بالقاعدة، بما في ذلك صد هجوم كبير من قبل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين على قاعدة مينوسما في شمال مالي في 2 أبريل/نيسان الجاري.
قد يشن مسلحو حركة نصرة الإسلام والمسلمين هجمات في تشاد أو ضد الجنود التشاديين المتبقين إذا عادت القوات التشادية إلى ديارهم. حدد زعيم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إياد أغ غالي تشاد كهدف في أبريل/نيسان 2017 بسبب العلاقات الوثيقة بين تشاد وفرنسا.
وأعلن التنظيم مسؤوليته عن هجوم أسفر عن مقتل 10 تشاديين من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في شمال مالي في يناير/كانون الثاني 2019 رداً على تجديد تشاد العلاقات مع إسرائيل.
حتى نيجيريا قد تتأثر
ولطالما حارب الجنود التشاديون مسلحين من جماعة بوكو حرام المتطرفة.
ونزح حوالي 330 ألف تشادي داخلياً، معظمهم في منطقة بحيرة تشاد المضطربة حيث ينشط مقاتلو بوكو حرام.
الاضطرابات الداخلية في تشاد قد تفيد تنظيم الدولة الإسلامية الناشط على حدود البلاد مع نيجيريا.
تنشط ولاية غرب إفريقيا التابعة لتنظيم داعش وبوكو حرام حول بحيرة تشاد. قتل مسلحو بوكو حرام 92 جندياً تشادياً في الهجوم الأكثر دموية في البلاد في مارس/آذار 2020، ما دفع قوات الأمن التشادية إلى تكثيف جهود مكافحة الإرهاب في الأشهر التالية. قامت ولاية داعش بغرب إفريقيا مؤخراً بتسريع هجماتها في تشاد طوال مارس وأبريل 2021. ومنع الوجود التشادي على طول حدود بحيرة تشاد منذ عام 2015 عمليات التوغل المستمرة من قبل بوكو حرام أو داعش.
وليبيا قد تكون في خطر
قد تكون للأزمة التشادية تأثيرات كبيرة على الوضع في ليبيا، التي تعد محطة انطلاق المسلحين المعارضين للرئيس الراحل ديبي، ولعب المرتزقة التشاديون دوراً كبيراً في الحرب الليبية، كما أن أبناء قومية التبو ينتشرون في ليبيا وتشاد.
وإثنية القرعان فرع من هذه القومية (وإن كانت الفرع الجنوبي الذي يتركز في تشاد)، وهي المكون الرئيسي لجبهة التغيير والوفاق، التي تزحف نحو العاصمة التشادية.
وبالتالي، فإن صعود التبو في المنطقة قد يعني تزايد دورهم في ليبيا.
ومع ضعف الأطراف الليبية المتصارعة وقلة عدد سكان البلاد لا يمكن استبعاد محاولة التبو سواء الليبيين أو التشادييين تعزيز نفوذهم في البلاد، والاستيلاء على ثرواتها.
وأمر رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، الأربعاء 21 أبريل/نيسان 2021، الجيش باتخاذ إجراءات فورية لتأمين حدود البلاد الجنوبية مع تشاد، غداة إعلان مقتل إدريس ديبي.
كما أن الوضع التشادي كان له تأثير كبير على أزمة دارفور، نتيجة الحدود الشاسعة بين البلدين التي لا يمكن السيطرة عليها، إضافة إلى التداخل السكاني.