تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات كبرى في التحالفات بين دولها، وسط مؤشرات واضحة عن تقارب بين مصر وتركيا وقطر، بينما تتوجه الإمارات بسرعتها القصوى نحو التحالف مع إسرائيل ومعهما اليونان وقبرص، فهل كان رحيل ترامب السبب الوحيد لهذه التغيرات؟
القصة هنا تتعلق بمنطقة تعج بالصراعات والملفات الشائكة والمتوترة وما ينتج عن ذلك من تداخل لمصالح دولها وتناقضها في كثير من الأحيان، وكانت التحالفات في الشرق الأوسط خلال السنوات الأربع الماضية، خلال وجود الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في البيت الأبيض، تتمثل بشكل أساسي فيما كان يوصف بالمحور القطري – التركي والمحور السعودي – الإماراتي – المصري.
المصالحة مع قطر
بدأت رياح التغيير تهب على المنطقة منذ ظهرت مؤشرات خسارة ترامب الانتخابات الأمريكية وفوز الرئيس الحالي جو بايدن، لكن اختزال الانقلاب الحاصل حالياً في تحالفات المنطقة في رحيل ترامب عن البيت الأبيض فقط يعتبر تبسيطاً مخلاً للأمور، إذ إن المصالح هي التي تتحكم بالأساس في علاقات الدول، أو على الأقل في أغلب الأحوال مع وجود استثناء لافت في الشرق الأوسط.
ويمكن القول إن أول محطات التغيير الكبرى في تحالفات المنطقة تمثلت في قمة العلا في السعودية يوم 5 يناير/كانون الثاني والتي أطلق عليها قمة المصالحة الخليجية، وشهدت الزيارة الأولى لأمير قطر الشيخ تميم إلى الرياض منذ فرض الرباعي السعودية والإمارات والبحرين ومصر حصاراً على الدوحة استمر ثلاث سنوات ونصف، وكان اللقاء بين الأمير ومضيفه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إيذاناً بانتهاء القطيعة وبداية صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين الخليجيين.
ومنذ تلك القمة شهدت العلاقات بين الدوحة والقاهرة تقارباً يمكن وصفه بالبطيء والثابت في الوقت نفسه كما يقول المثل الإنجليزي (Slow But Steady)، حتى تم الاتصال الهاتفي الأول بين الأمير تميم والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بعد قمة العلا وكان ذلك يوم الاثنين 12 أبريل/نيسان.
ورغم أن الاتصال بين الأمير والرئيس جاء بروتوكولياً تبادلا خلاله التهاني بحلول شهر رمضان، فإن الاتصال في حد ذاته يعكس التطور في العلاقات بين الدولتين بعد سنوات من القطيعة والعداء، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
واليوم الاثنين 19 أبريل/نيسان أعرب أمير قطر عن تعازيه للرئيس المصري في مقتل 11 شخصاً وإصابة نحو 100 آخرين، جراء حادث انقلاب قطار في منطقة طوخ بشمال مصر أمس الأحد، وقالت وكالة الأنباء القطرية الرسمية "قنا" إن الأمير تميم بعث إلى السيسي برقية تعزية في ضحايا حادث قطار الركاب الذي وقع في محافظة القليوبية، متمنياً للمصابين الشفاء العاجل.
التقارب بين مصر وتركيا
وفي السياق نفسه تشهد العلاقات بين مصر وتركيا تقارباً ملحوظاً بدأت مؤشراته أيضاً منذ مطلع العام الجاري، وتجسدت بشكل عملي في واحد من أبرز ملفات الخلاف بين القاهرة وأنقرة وهو الملف الليبي والصراع هناك، حيث كانت تركيا تدعم حكومة الوفاق الوطني في طرابلس بينما كانت مصر تدعم خليفة حفتر زعيم ميليشيات شرق ليبيا، والآن أصبح واضحاً أن مصر وتركيا يدعمان المسار السياسي الحالي هناك.
وتكررت زيارات رئيس حكومة الوحدة الليبية عبدالحميد الدبيبة إلى القاهرة وأنقرة، في ظل دعم واضح من البلدين للمسار السياسي هناك وهو ما كان بعيداً عن التصور قبل أشهر قليلة، لكن هذا ليس المؤشر الوحيد على التقارب بين مصر وتركيا، فهناك التصريحات المتبادلة والتواصل بين وزيري الخارجية والآن يتم الترتيب لزيارة وفد تركي رفيع المستوى للقاهرة، بحسب التصريحات الصادرة عن الجانبين.
وتتحدث كثير من التقارير الإعلامية والتحليلات عن دور قطري فاعل في التقريب بين القاهرة وأنقرة، وهذا أيضاً تحوّل لافت في التحالفات تشهده المنطقة منذ مطلع العام الجاري وكان يبدو بعيداً عن التصور حتى قبل ستة أشهر مضت، في ظل العداء المعلن والقطيعة بين الدول الثلاث.
تقارب إماراتي – إسرائيلي
ربما يكون الانقلاب الأكثر وضوحاً في تحالفات المنطقة متعلقاً بدولة الإمارات العربية المتحدة، التي تمثل عنصراً فاعلاً في جميع الملفات المتوترة من ليبيا إلى اليمن وصولاً إلى كارثة سد النهضة الإثيوبي التي تواجهها مصر وتهدد شريان الحياة الرئيسي فيها.
فقد كانت العلاقات بين الإمارات ومصر طوال السنوات الماضية تتسم بالتحالف المطلق ويحركها رغبة أبوظبي المعلنة في أن تتولى دوراً قيادياً في المنطقة على حساب القوى التقليدية تاريخياً كمصر والسعودية عربياً وتركيا وإيران كدول إسلامية، وبدا واضحاً أن مواقف القاهرة تشوبها التبعية لأبوظبي، بحسب كثير من المحللين المستقلين، وبخاصة في الملف الليبي.
ويمكن القول إن التباعد التدريجي في المواقف بين مصر والإمارات بدأ يظهر في ليبيا، حينما تخلت القاهرة عن الدعم المطلق لحفتر والعداء الصريح لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً بعد هزيمة ميليشيات حفتر وفشله في السيطرة على طرابلس وتراجعه إلى بني غازي مقابل تقدم القوات الليبية المدعومة من تركيا، وهو ما أدى إلى قناعة جميع أطراف الصراع بعدم وجود حل عسكري وبالتالي حتمية العودة إلى المسار السياسي، وهنا بات واضحاً أن القاهرة تؤيد هذا التوجه وتدعمه بشكل حقيقي في مقابل موقف إماراتي "غامض" كالعادة.
والواضح أن التقارب بين مصر وتركيا وقطر قد أغضب أبوظبي التي وجدت في إسرائيل حليفاً جديداً، أو بمعنى أدق حليفاً علنياً بعد الإعلان عن التطبيع بين الجانبين منتصف أغسطس/آب الماضي، لتصل الأمور الآن إلى ما يمكن وصفه بتحركات إماراتية واضحة تضر بمصالح "الحليف السابق" مصر، وفي هذا الصدد يمكن التوقف عند ملف سد النهضة ومنتدى غاز شرق المتوسط كنموذجين واضحين للتباعد الإماراتي المصري.
حليف الأمس عدو اليوم
يمكن القول إن الانقلاب الأبرز في تحالفات المنطقة، أو بمعنى أدق الانقلاب الصادم، يتمثل في موقف أبوظبي من ملف سد النهضة الذي يمثل بالنسبة لمصر مسألة حياة أو موت، وهو الموقف الذي تكشف بشكل لا يمكن إنكاره منذ 30 مارس/آذار عندما أصدر السيسي تهديده الأول لإثيوبيا بشأن الملء الثاني للسد (المقرر في يوليو/تموز المقبل) دون التوصل لاتفاق مع مصر والسودان، وما تلا تلك التصريحات شديدة اللهجة من بيانات دعم للموقف المصري صدرت عن السعودية والبحرين وعمان مباشرة، بينما صدر عن أبوظبي بيان في اليوم التالي وصفه مراقبون بأنه غريب وينمّ عن موقف "غامض" لا تحتمله طبيعة القضية التي يواجهها "حليف مفترض".
لكن ما رشح من معلومات تخص سد النهضة والتحول الجذري الذي شهدته مفاوضاته الماراثونية التي وصلت لطريق مسدود كشف ما هو أخطر من إحجام أبوظبي عن إظهار الدعم المتوقع من حليف تجاه حليفه، فالدور الإماراتي يرجع إلى توريط الرئيس المصري في توقيع إعلان المبادئ عام 2015 -عن طريق وساطة محمد دحلان- وهو الإعلان الذي أعطى أديس أبابا ورقة قانونية لم تكن لتتمكن من الحصول على التمويل اللازم للسد من دونها.
هذه المواقف الإماراتية في ملف سد النهضة ليست الإشارات الوحيدة على أن الدعم الذي قدمته أبوظبي للسيسي كانت له أهدافه الخاصة المتمثلة في عداء ولي عهد أبوظبي للديمقراطية والإسلام السياسي في جميع دول المنطقة، وليس سعياً لتحقيق مصالح مشتركة تفيد البلدين مصر والإمارات، إذ كشف الإعلان عن منتدى جديد لدول شرق المتوسط عما يمكن وصفه بتحول الإمارات إلى الإضرار المعلن بالمصالح المصرية.
فقد أطلقت إسرائيل واليونان وقبرص والإمارات مؤخراً منتدى رباعياً جديداً في شرق المتوسط، وكان لافتاً غياب مصر وفلسطين عنه، كما كان واضحاً أنه لا يقتصر على التعاون في الغاز بل هو تمهيد لشراكة استراتيجية متعددة المجالات ضد الخصوم المحتملين للدول الأربع، وهي الخطوة الأحدث في التحالف بين أبوظبي وتل أبيب منذ التطبيع.
ويهدف المنتدى الرباعي الذي اجتمع في قبرص لعقد اجتماعات منتظمة على مستوى وزراء خارجية البلدان الأربعة، إضافة إلى مستويات وزارية أخرى، وناقش الدبلوماسيون الأربعة قضايا تتعلق بتركيا وليبيا وسوريا. هذا إلى جانب إيران والقضية والفلسطينية، بحسب صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية.
واستمرت الاجتماعات على مدى يومين (الجمعة والسبت 16 و17 أبريل/نيسان 2021) حيث جرى البحث في القضايا الإقليمية والتعاون المحتمل بين الدول، مع التركيز على القضايا الاقتصادية والسياحية والأمني والتعاون في مواجهة فيروس كورونا، ومخطط "الممر الأخضر" لتشجيع السياحة بين مختلف الدول.
كانت الإمارات قد طلبت أواخر العام الماضي رسمياً الانضمام لمنتدى غاز شرق المتوسط بصفة مراقب، لكن تم رفض طلبها بعد استخدام السلطة الفلسطينية "حق الفيتو" الذي يتمتع به الأعضاء المؤسسون (مصر واليونان وقبرص والأردن وإسرائيل والسلطة الفلسطينية)، وبالتالي ليس من المستبعد أن يكون هدف المنتدى الجديد هو سحب البساط من المنتدى الأصلي (مقره القاهرة)، وفي ظل كون الدول الأربع في المنتدى الجديد خصوماً لتركيا بشكل أو بآخر، يصعب الوقوف عند تفسير مقنع لاستبعاد القاهرة، إلا إذا كانت مصر هي التي رفضت الانضمام له، وهو منطقي لتعارض المنتدى الجديد مع المنتدى القديم.
لكن في جميع الأحوال تظل التحركات الإماراتية تمثل علامة استفهام ضخمة، فأبوظبي ليست دولة شرق متوسطية من الأساس، وتحالفها مع تل أبيب يأتي على حساب القاهرة سياسياً واقتصادياً بصورة لا تحتاج للتفسير، فمصر كانت دائماً حاضرة في ملف الصراع العربي-الإسرائيلي وخاضت ثلاثة حروب انطلاقاً من هذا الصراع وصولاً إلى اتفاقية السلام مع إسرائيل التي استعادت مصر بموجبها باقي أراضيها المحتلة، بينما أقدمت أبوظبي على التطبيع مع إسرائيل وتحالفت معها في أقل من ستة أشهر، فيما اعتبره الفلسطينيون خيانة لقضيتهم.
الخلاصة هنا هي أن الإمارات التي كانت بالأمس تقول إنها حليفة لمصر أصبحت الآن تتصرف وكأنها عدو يسعى للإضرار بالمصالح المصرية، بينما أعداء الأمس تركيا ومصر قربتهما اليوم المصالح المشتركة، ومن الصعب تبسيط ما يجري واختزاله فقط في رحيل ترامب عن البيت الأبيض، مع الإقرار بأن رحيله ومجيء بايدن يمثل زلزالاً أدى في أحد تجلياته إلى التغييرات الحاصلة في تحالفات المنطقة ككل.