قد تتحول الانتخابات الفلسطينية القادمة إلى سبب لاشتغال أزمة جديدة بدلاً من أن تكون وسيلة لتجديد شرعية النظام السياسي الفلسطيني، وإنهاء الانقسام.
ومن المقرر أن تعقد الانتخابات الفلسطينية البرلمانية يوم 22 مايو/أيار. وسواء حدث التصويت أم لا، فإنّ تحديد موعدٍ للانتخابات في حدّ ذاته يُعَدُّ أمراً استثنائياً؛ إذ دخلت السياسة الفلسطينية في حالةٍ من الجمود إثر تعليق الانتخابات منذ فوز حركة حماس بأغلبيةٍ برلمانية عام 2006.
وكان فوز حماس في هذه الانتخابات بداية لحصار عربي ودولي على الحكومة التي شكلتها، كما اتهمت الحركة الإسلامية منافستها فتح بالتواطؤ مع هذا الحصار.
وأدت هذه الأوضاع إلى حدوث الانقسام الفلسطيني عام 2007، الذي سيطرت خلاله حماس على قطاع غزة بعدما اتهمت عناصر في فتح بالتحضير لانقلاب ضدها، بينما تمسكت منظمة التحرير الفلسطينية (تحت قيادة فتح) بالسلطة في الضفة الغربية. ومنذ ذلك الحين، احتدم الانقسام المرير بين الأراضي الفلسطينية.
وبينما تمثل الانتخابات الفلسطينية فرصة لتجديد النظام السياسي الفلسطيني وإنهاء الانقسام، فإن الانتخابات لن تأتي بدون ثمن؛ إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أنّ حركة حماس قد تخرج منتصرةً من جديد. كما من المحتمل أن يعقبها المزيد من الجمود، والخلل الوظيفي، والصراع، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
وقد كان لدى الفلسطينيين متسع من الوقت لحل هذه المشكلة؛ إذ مضى نحو عقدٍ ونصف منذ إجراء آخر انتخابات. لكن النظام السياسي يُسيطر عليه رجلٌ واحد في الضفة الغربية هو محمود عباس وحزبٌ واحد هو حركة فتح، بينما تُهيمن حركة حماس على غزة. وبعد فشلهم في إعداد نظامهم السياسي، يتجه الفلسطينيون الآن صوب أزمةٍ سياسيةٍ أخرى.
ولسببٍ غير مفهوم، يراقب أصحاب المصالح العودة المفاجئة للسياسة الفلسطينية من بعيد دون تدخل، حسب تعبير الصحيفة الأمريكية (في إشارة إلى عدم اتخاذ القوى الإقليمية والدولية المعنية بالقضية الفلسطينية لموقف واضح منها).
كيف اتفقت فتح وحماس على الانتخابات الفلسطينية بعد خلاف طويل؟
بدأ كل شيء في سبتمبر/أيلول عام 2020، عقب توقيع اتفاقيات إبراهيم، وهي اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين؛ حيث كانت اتفاقيات التطبيع بمثابة جرس إنذار للفلسطينيين حتى يُدركوا أنّهم يفقدون زخمهم داخل الدول العربية التي دعمت قضيتهم تاريخياً.
لذا التقت حركتا حماس وفتح في إسطنبول بتركيا من أجل حوارٍ لم يعتقد الكثيرون أنّه سيثمر أي انفراجةٍ سياسية؛ إذ التقى الجانبان من قبل في عدة مناسبات، وفشلا في التوصل إلى أي اتفاق. وحاول المصريون، والسعوديون، والأتراك، والروس، وغيرهم التوسط في اتفاقات من قبل ولكن دون جدوى.
لكن المذهل هو أنّ الجانبين خرجا متفقين في الـ24 من سبتمبر/أيلول عام 2020؛ حيث صرّح جبريل رجوب، المسؤول البارز في فتح "لقد اتفقنا على إجراء انتخابات تشريعية أولاً، ثم انتخابات لرئاسة السلطة الفلسطينية، وأخيراً انتخابات المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية".
وعند الاستدلال بالماضي، نجد أنّ احتمالية وفاء الطرفين باتفاقهما منخفضةٌ بالتأكيد؛ لكنَّ الفلسطينيين فاجأوا الجميع من جديد. ففي الـ15 من يناير/كانون الثاني، أعلن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أنّ الانتخابات التشريعية للسلطة الفلسطينية ستجري يوم 22 مايو/أيار 2021، بينما ستجري الانتخابات الرئاسية يوم 31 يوليو/تموز.
ولا شكّ أن إعلان عباس كان استثنائياً للغاية؛ إذ تمتع السياسي المسن بقبضةٍ حديدية على السلطة منذ فوزه بفترةٍ تصل إلى أربع سنوات عام 2005، قبل تمديدها لـ12 عاماً إضافياً. وقد فعل ذلك في الظاهر ليحول دون صعود حماس؛ لذا لم يكن ترحيب حماس بإعلانه أمراً مفاجئاً؛ حيث دعت الحركة إلى انتخابات نزيهة حتى يتمكّن الشعب الفلسطيني من "التعبير عن إرادته دون قيدٍ أو ضغط".
تمسك عباس بمشاركة المقدسيين، للحرص على الحقوق أم ذريعة لإلغاء الانتخابات؟
ومع تبلور خطط الانتخابات، قرّر عباس تحدي إسرائيل بشكلٍ مباشر؛ إذ أصر على عدم إجراء الانتخابات بدون السكان العرب في القدس الشرقية، التي تعتبرها إسرائيل جزءاً من عاصمتها؛ حيث قال عباس: "نحن نرغب بشدة في إقامة الانتخابات، ولكن بدون تضحيات". وأعقبت السلطة الفلسطينية ذلك بتقديم طلبٍ رسمي إلى إسرائيل.
وبدا كأنّ قضية القدس ستمهد الطريق أمام مواجهة. وفي حين أشار الإسرائيليون إلى أنّه "لم يُتخذ قرارٌ بعد" حول المسألة، انخرطت السلطة الفلسطينية في حملة تصريحات قوية قال خلالها معتصم تيم، المدير العام لوحدة القدس في السلطة الفلسطينية، إنّ السكان العرب ممن يحملون بطاقات هوية إسرائيلية يجب أن يُسمح لهم بالتصويت "رغم الإجراءات الإسرائيلية التي تهدف إلى منعهم من المشاركة".
يقولون في إسرائيل إن الرئيس الفلسطيني محمود عباس سيلجأ إلى إلغاء الانتخابات أصلاً، بسبب المشاكل والانقسامات داخل حركة فتح التي يتزعمها، والمخاوف الأمريكية والإقليمية من صعود حماس بعد الانتخابات.
لكن في رام الله يقال إن هذه مجرد اتهامات وترهات، وإنهم ماضون في الانتخابات، ولكن إسرائيل هي التي ستعطلها، لأنها لا تنوي السماح للمقدسيين بالمشاركة انتخاباً وترشيحاً، وهي مسألة لا تجيب إسرائيل عنها حتى الآن، ما يجعل المسألة أقرب إلى أحجية.
لماذا لا يريد نتنياهو الدخول في الجدل حول الانتخابات الفلسطينية؟
يقول المسؤولون الإسرائيليون إنّ حكومة نتنياهو قررت عدم الانجرار وراء جدل الانتخابات الفلسطينية. والسبب الأول هو أنّ كلا الجانبين قد توصلا إلى حلولٍ بديلة في الماضي. والأهم هو أنّ المسؤولين في القدس رأوا أنّ عباس يتحدى إسرائيل حتى تحظر مراكز الاقتراع في القدس الشرقية.
وفي حال حدوث ذلك، سوف يلغي الفلسطينيون الانتخابات بحجة تعنت إسرائيل. وهذه صورةٌ لم تعجب الإسرائيليين الذين كانوا يستعدون لانتخاباتهم في مارس/آذار، حسب المجلة الأمريكية.
ويُمكن القول على وجه التحديد إنّ نتنياهو لم يرغب أن يتحول الفلسطينيون أو انتخاباتهم إلى قضيةٍ انتخابية إسرائيلية، لأسبابٍ أهمها أنّ حملته كانت تريد الفوز بدعم الأحزاب العربية في إسرائيل.
وبالتالي لجأت إسرائيل إلى سياسة الصمت؛ حيث أرجأ الإسرائيليون مخاوفهم الخاصة إلى ما بعد انتخاباتهم في الـ23 من مارس/آذار. وعلى حد تعبير مسؤولٍ إسرائيلي بارز، تحدث شرط عدم الكشف عن هويته: "سيتعين على الفلسطينيين مواصلة البحث عن مُنقذٍ آخر لتحميله المسؤولية". وبدا أنّ المسؤول يُلمح إلى أنّ القيادة الفلسطينية لا ترغب في إجراء التصويت فعلياً.
ماذا تقول استطلاعات الرأي؟
أشارت استطلاعات الرأي في سبتمبر/أيلول عام 2020 إلى أنّ زعيم حماس، إسماعيل هنية، سوف يهزم عباس بنسبة 52% مقابل 39% في أي مواجهةٍ مباشرة. وفي حال ترشّح مروان البرغوثي المعتقل، فمن المتوقع أن يفوز بـ55% من الأصوات. بينما من المتوقع أن تحصل حركة فتح على 38% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية، مقابل 34% لصالح حماس، في سباقٍ انتخابي متقارب للغاية.
ولم تتحسّن الصورة بالنسبة لفتح في ديسمبر/كانون الأول عام 2020. إذ كان الانقسام البرلماني بين فتح وحماس شبه متطابق، لكن عباس خسر الكثير من شعبيته لصالح البرغوثي، وكان لا يزال من المقدر له الخسارة أمام هنية. والأسوأ من ذلك هو أن 66% من المشاركين في استطلاعات الرأي طالبوا باستقالة الكهل الثمانيني.
ما موقف بايدن من الانتخابات الفلسطينية؟
وفي التقارير الإخبارية، نقل منفذٌ إخباري إسرائيلي أنّ الرئيس الأمريكي جو بايدن ضغط على السلطة الفلسطينية من أجل المضي قُدُماً في الانتخابات "لتجديد شرعية السلطة الفلسطينية".
وكتبت صحيفة الشرق الأوسط السعودية، ومقرها لندن، أنّ إدارة بايدن طلبت من عباس "توضيحات بشأن الشراكة مع حماس في الانتخابات المقبلة". وفي الواقع، تُشير التقارير إلى أنّ قائمة مرشحي حماس الحاليين تضم معتقلين في السجون الإسرائيلية.
كما التزمت الأردن ومصر، وكلاهما من حلفاء فتح التقليديين الذين يُعارضون الإخوان المسلمين (وحركة حماس منبثقة عنها)، الهدوء النسبي؛ إذ أشارت شبكة الجزيرة القطرية إلى أنّ "الشكوك في جاهزية حركة فتح للانتخابات أثار قلق مصر والأردن". ونقلت الشبكة أيضاً أنّ مديرَي المخابرات المصرية والأردنية عباس كامل وأحمد حسني قد التقيا محمود عباس في رام الله، و"حثّوه على توحيد صفوف فتح قبل الانتخابات من أجل المشاركة بقائمة موحّدة تُقلّل فرص فوز حماس". ولكن من الناحية الرسمية، أصدر البلدان بيانات تدعم الانتخابات، حتى وإن كانوا "لا يزالون غير مقتنعين بأنّ الانتخابات ستحدث فعلياً".
الإمارات الدولة الأكثر حماساً للانتخابات.. البرغوثي أمام دحلان
والدولة التي ربما تكون متحمسةً لإجراء الانتخابات هي الإمارات العربية المتحدة.
إذ يعيش محمد دحلان، رئيس الأمن السابق لقطاع غزة ومنافس عباس، في المنفى بالإمارات منذ عام 2011 ويتطلع على ما يبدو إلى العودة للسياسة الفلسطينية. وليست لديه خطط للترشح في الانتخابات التشريعية، لكنّ من الواضح أنّه يضع الرئاسة نصب عينيه. وقد أشارت صحيفة Times of Israel الإسرائيلية إلى أنّه "بدعم أبوظبي، موّلت حركة دحلان بهدوء مشاريع الإغاثة في قطاع غزة والقدس الشرقية على مدار السنوات الماضية". وفي الواقع سلّم دحلان 60 ألف جرعة من لقاحات كوفيد-19، التي تبرّعت بها الإمارات إلى غزة، وسط شائعات عن نيته الترشح. ولم تكن أرقام دحلان في استطلاعات الرأي مبشرة، لكنّ ما يزال بإمكانه أن يكون مؤثراً، خاصةً في حال قضى ترشحه على الدعم الذي يحظى به عباس.
لكن البرغوثي يطغى على دحلان من عدة نواحٍ، حيث يقضي الأول حالياً عدة أحكام بالسجن مدى الحياة في إسرائيل بتهمة ارتكاب أعمال إرهابية مزعومة إبان الانتفاضة الثانية أوائل القرن الـ21. ويُشبّهه العديد من الفلسطينيين بالناشط نيلسون مانديلا، الذي خرج من عقوبة سجن في تهم مرتبطة بالإرهاب ليقود تحرير جنوب إفريقيا.
ومن هذا المنطلق، يُواصل البرغوثي الحفاظ على أرقامه القوية في استطلاعات الرأي. كما يواصل زملاؤه اتخاذ خطوات تُشير إلى نيته الترشح للرئاسة بقائمة منفصلة عن فتح، بحسب ما أوردته التقارير.
وتشمل قائمة المرشحين الآخرين العضو السابق في اللجنة المركزية لحركة فتح، ناصر القدوة، الذي أعلن على تويتر نيته "تشكيل قائمة انتخابية في إطار ملتقى ديمقراطي واسع النطاق يضم مختلف قطاعات المجتمع وليس حركة فتح فقط". وبسبب هذا التصريح، فصله عباس من حركة فتح الشهر الماضي. ولم يرتدع القدوة وأنصاره، فأسّسوا الملتقى الوطني الديمقراطي الفلسطيني، كما وجهوا دعوةً للبرغوثي من أجل الانضمام للملتقى، حتى يُشكلوا معاً قائمةً لن تُقهر على الأرجح. كذلك دعا البرغوثي الفلسطينيين لإيجاد "طريقٍ ثالث" وسطي بين "الصراع المسلح وبين المفاوضات بتنازلات لا تنتهي".
ويأتي ذكر "الطريق الثالث" في إشارةٍ واضحة إلى رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض، الذي ترشّح تحت لواء "الطريق الثالث" عام 2006. وقد أعلن فياض أيضاً، الذي يُدرّس حالياً في جامعة برينستون، أنّه يُخطّط للترشح في الانتخابات المقبلة. وأعلن أنّ كتلته ستتألّف من "شخصيات مستقلة" ستقوم حملتها على "الشفافية والشرف".
هل تُلغى الانتخابات أم فات الأوان على ذلك؟
وبدأ الميدان يتشكّل بتسجيل الفلسطينيين من أجل التصويت؛ حيث سجّل 93% منهم حتى الآن.
ويسود الإجماع القائل بأنّ الوقت ربما قد فات على إلغاء الانتخابات التشريعية الآن. لكن التكهنات تباينت حول ما إذا كان عباس سيسمح بإجراء انتخابات رئاسية لاحقاً. فقد حكم عباس 12 سنة إضافية على فترته الأولية؛ لذا فهو يُعتبر من الحكام المستبدين الحقيقيين في الشرق الأوسط.
وما يزال بإمكان عباس تأجيل تلك الانتخابات، أو العمل مع الأحزاب الأخرى للتقليل من مشاركة المتشددين في الانتخابات. وفي حال لم يسلك أي من الطريقين، فسنكون على مشارف أزمةٍ جديدة في السياسة الفلسطينية يوم 22 مايو/أيار.