جاءت زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى الرياض، في وقت يتعرض فيه الرجل لمساومات من إيران قد تطيح به، ولا يعرف بعد هل تؤدي زيارة الكاظمي للسعودية لتقوية موقفه في الداخل العراقي أم تدهوره؟
وحظيت زيارة الكاظمي للسعودية، التي التي بدأت أمس الأربعاء وتعد الأولى منذ توليه المنصب، بحفاوة لافتة في الرياض، حيث استقبلته السعودية بالطائرات الحربية، في تقليد نادراً ما يقابل به أي مسؤول يقوم بزيارة إلى المملكة.
إذ التقط مصور الكاظمي الخاص صورة لرئيس الحكومة العراقية من داخل الطائرة بينما الطائرات السعودية ترافق طائرته، حسبما ورد في موقع RT الروسي.
زيارة الكاظمي للسعودية تأتي بعد هجوم على القصر الملكي بالرياض انطلق من العراق
وتأتي زيارة الكاظمي للسعودية، التي جاءت تلبية لدعوة من الملك سلمان بن عبد العزيز، بعد هجوم وقع في يناير/كانون الثاني 2021، تحطّمت خلاله طائرات مسيّرة مفخخة في القصر الملكي الرئيسي في الرياض، ونقلت وسائل إعلام في الولايات المتحدة عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن الطائرات التي شنته أُطلقت من العراق.
ولذا استهل الكاظمي الزيارة بالتأكيد على أن بلاده لن تصبح نقطة انطلاق لأي هجوم على المملكة، في رسالة طمأنة للرياض وجهها الكاظمي أثناء تواجده بالمملكة.
وتبنت جماعة "ألوية الوعد الصادق" الهجوم، وهي جماعة مسلحة غير معروفة نسبياً في العراق، لكن خبراء أمنيين اعتبروا أنها واجهة لفصائل أخرى أكثر رسوخاً في العراق تدعمها إيران.
ورداً على سؤال بشأن تبنّي الهجوم، قال الكاظمي إن ما أعلنته الجماعة المسلحة "غير صحيح"، مشدداً على أن الهجوم لم يُشنّ من العراق.
وفي أعقاب اجتماع استمر، وفقاً لعدد من مساعدي رئيس الوزراء العراقي، ساعات عدة مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قال الكاظمي للصحفيين: "لن نسمح بأي اعتداء على المملكة"، وأضاف: "أما الحديث عن اعتداءات من العراق فلم تكن هناك أي اعتداءات"، معتبراً أن "هناك محاولات من البعض لتوجيه الاتهامات لضرب العلاقات".
حصار إيراني
وتأتي زيارة الكاظمي للسعودية مع التوقعات بإجراء الانتخابات البرلمانية العراقية في الثلث الأخير من العام الجاري، ويتعرض الكاظمي لتهديدات من إيران وحلفائها العراقيين بإسقاطه في الانتخابات إن لم يلتزم بطلباتهم.
يبدو الطلب الرئيسي لحلفاء إيران مشروعاً طرد القوات الأمريكية الأجنبية من العراق.
وقال سياسي عراقي شيعي مقرب من الفصائل المسلحة العراقية وطهران، تحدث لـ"عربي بوست" في تقرير سابق، عن هذا الأمر قائلاً: تُساوم الكتل البرلمانية الموالية لإيران، الكاظمي، إما أن يطلب طرد القوات الأمريكية، وإما أنه لن تتم الموافقة على تنصيبه مرة أخرى، كرئيس للحكومة".
ولكن هذا الطلب يعني في ظل قوة الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، تسليم العراق على طبق من فضة لطهران.
وفي هذا الإطار، تحدث مسؤول حكومي مقرب من الكاظمي لـ"عربي بوست"، عن المخاوف المتزايدة لدى رئيس الوزراء العراقي من إنهاء مهمة قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة في العراق، فيقول: "إنهاء وجود القوات الأجنبية سيكون له كثير من العواقب السيئة، التي يخشاها الكاظمي، مثل عودة ظهور داعش بقوة، وسيطرة الفصائل المسلحة الموالية لإيران على كثير من الأمور داخل العراق، وزيادة النفوذ الإيراني".
العودة للحاضنة العربية لتحجيم نفوذ طهران
في محاولة للخروج من ثنائية إيران أم أمريكا، يبدو أن الكاظمي يحاول تعزيز علاقات العراق العربية، فمؤخراً جرت خطوات في هذا الاتجاه مع مصر والأردن، وهما دولتان التقارب معهما سيكون أقل استفزازاً لإيران أو المتشددين الشيعة من التقارب مع السعودية.
واستضافت العاصمة العراقية بغداد، مؤخراً، الاجتماع التحضيري لاجتماع القادة الرابع ضمن آلية التعاون الثلاثية بين مصر والعراق والأردن.
وتم خلال اللقاء بحث سبل تحقيق التكامل والتعاون الاقتصادي في إطار مشروع المشرق الجديد الذي تعتزم الدول الثلاث تشكيله.
ولكن رئيس الوزراء العراقي لم يكتف بالانفتاح على مصر والأردن، بل تأتي زيارة الكاظمي للسعودية في إطار جهوده للتقارب مع الرياض، رغم ما في ذلك من استفزاز لإيران وأنصارها في العراق.
كيف يمكن أن تدعم السعودية الكاظمي؟
وفي ضوء إخفاق الكاظمي حتى الآن في تقليم أظافر الميليشيات الحليفة لإيران، فإنه يبدو أنه يريد الاستعانة بالسعودية على الأقل في تحقيق بعض النجاحات في الملف الاقتصادي الذي يثقل كاهل المواطن العراقي.
فخلال زيارة الكاظمي للسعودية وقّعت الرياض وبغداد عدة اتفاقيات في مجالات مختلفة، وبالإضافة إلى اتفاقيات في مجال الطاقة والطاقة المتجددة، كما اتفقت الرياض وبغداد على تأسيس صندوق مشترك يقدر رأس ماله بثلاثة مليارات دولار، بحسب بيان مشترك، أكد دفع المزيد من المشاريع الاقتصادية بين البلدين.
وذكر البيان أن الصندوق المشترك سوف "يعود بالنفع على الاقتصادين السعودي والعراقي، وبمشاركة القطاع الخاص من الجانبين".
كما تأتي زيارة الكاظمي للسعودية بعد إعادة فتح معبر عرعر الحدودي للمرة الأولى بين البلدين بشكل رسمي في تشرين الأول/نوفمبر، بعد إغلاقه في عام 1990 عقب الغزو العراقي للكويت في ظل حكم صدام حسين، ولم يجر فتحه رسمياً باستثناء مواسم الحج.
وضم الوفد العراقي محافظين لمحافظات حدودية مع السعودية لبحث زيادة المنافذ الحدودية بين البلدين، حسبما ورد في تقرير لموقع قناة "العربية".
وقال مسؤول عراقي لفرانس برس إن "الهدف من هذه الزيارة هو مناقشة التعاون المستمر وتوسيعه، إضافة إلى توسيع عمل مجلس التنسيق السعودي العراقي".
وأضاف أن زيارة الكاظمي للسعودية تسعى إلى "تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثمار"، و"استكشاف طرق تعزيز الاستقرار الإقليمي".
إيران تدفع العراقيين إلى السعودية
المفارقة أن إيران قد تكون سبباً في زيادة شعبية السعودية في العراق.
فتقليدياً لم تكن علاقة السعودية قوية مع مكونات الشعب العراقي الأساسية، كان السنة الذين يسيطر عليهم البعث تقليدياً مختلفين مع السعودية السلفية أيديولوجياً، ولكن تقاربت السعودية قليلاً مع بعض المكونات السنية بعد سقوط نظام صدام حسين.
أما الشيعة فيفرق الخلاف المذهبي بينهم وبين الرياض، خاصة في ضوء الاحتقان الطائفي، في المنطقة والذي كان العراق سبباً رئيسياً له وساحة لصراعاته، بينما كانت السعودية طرفاً أساسياً فيه مع إيران وحلفائها من شيعة العراق.
ولكن اليوم بعد مرور ما يقرب من عقدين على سقوط صدام الذي أعقبه سيطرة النخب الشيعية المتوالية على الحكم في بغداد (أغلبها موالية لإيران)، بات أغلب العراقيين بمن فيهم نسبة كبيرة من الشيعة، يريدون الانعتاق من الهيمنة الإيرانية التي تجرح كرامتهم الوطنية، وتؤذي حياتهم اليومية جراء ممارسات ميليشيات إيران وفساد أتباعها.
وبدا هذا جلياً في الاحتجاجات العراقية التي وقعت خلال السنوات الماضية، والتي كانت موجهة بشكل أساسي ضد نفوذ إيران وفساد حلفائها.
ولذا بعد أن كان جزء ليس بقليل من شيعة العراق غاضباً من المحيط العربي بعد سقوط صدام كنتيجة للعداء للفكر القومي لحزب البعث، أصبح الكثير منهم يريدون الانفتاح على المحيط العربي بما في ذلك السعودية.
ويثبت وجود العراقيين بأعداد كبيرة لأغراض السياحة والتعليم وغيرها في مصر والأردن ولبنان، صعوبة فصل العراق عن محيطه العربي.
هل يؤدي ذلك إلى تقليل هيمنة إيران؟
رغم أن الانفتاح على العالم العربي الذي يحاول الكاظمي تحقيقه أمر قد يلقى قبولاً شعبياً، فإنه يظل الواقع أنه لن يغير في معادلة القوة الداخلية العراقية كثيراً، وهي المعادلة التي أصبح العامل الأساسي فيها الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران والتي تزداد جرأة إضافة إلى توغلها داخل مؤسسات الدولة العراقية بما فيها العسكرية.
أما فيما يتعلق بوضع الانتخابات البرلمانية العراقية القادمة المقررة، في أكتوبر/تشرين الأول القادم، والتي يراهن عليها الكاظمي، فالملاحظ أن عمار الحكيم، السياسي العراقي البارز، يعمل بالتعاون مع عدد من السياسيين العراقيين على تكوين ظهير سياسي قوي لدعم مصطفى الكاظمي حتى بعد الانتخابات.
كما يعتقد أن أنصار إيران تراجعت شعبيتهم في الشارع العراقي الشيعي.
ولكن المشكلة أنه ليس لديهم منافس قوي، وأثبتت التجارب أن مهارة أحزاب إيران في الانتخابات، والتفتت الطائفي والسياسي يأتي ببرلمانات تستطيع طهران التحكم فيها حتى لو تمتلك ولاء الأغلبية، خاصة في ضوء وجود تيارات تبدو مواقفها المعلنة ضد إيران، بينما أفعالها على الأرض مفيدة لها (مثل التيار الصدري).
على غرار لبنان
وقد يُمكن الانفتاح على العالم العربي (بما في ذلك زيارة الكاظمي للسعودية)، الرجل من تقديم نفسه للعراقيين كقائد قوي، إضافة إلى أن الدعم الاقتصادي السعودي قد يرفع قليلاً من شعبيته بما يؤدي إلى إنجاح كتلة سياسية كافية لدعمه في الانتخابات القادمة.
ولكنْ رؤساء وزراء عديدون في العراق (مثل حيدر العبادي)، كانت لهم محاولات مماثلة ولكن لم تنجح أمام الأساليب الإيرانية الماكرة في التلاعب بالسياسة العراقية.
فالمفارقة أن أغلب رؤساء الحكومات العراقيين في السنوات الأخيرة كانوا يحاولون تحسين العلاقات مع الدول العربية لاسيما السعودية، وكان أغلبهم لديه علاقات وثيقة مع الغرب.
ولكن معظمهم كانوا ضعفاء أمام برلمان جاء بهم كحلول وسط، وفي مواجهة قوى موالية لإيران تواصل تعزيز هيمنتها على مفاصل البلاد، رغم أنف رؤساء الحكومات المتوالين.
والنتيجة وضع يشبه لبنان، رئيس حكومة مقبول من الغرب والعرب، يمثل أداة لتطبيع علاقة العراق مع العالمين الغربي والغربي، وأحزاب سياسية موالية لإيران لها النفوذ الأكبر في البرلمان (حتى لو ليس لديها الأغلبية) وميليشيات تابعة لها تسيطر على الوضع الأرض، وتضطر في الوقت ذاته المؤسسات الأمنية والعسكرية غير الموالية لها لمراعاة مصالحها.
كان هذا هو النموذج السائد في لبنان والذي وفر لحزب الله سيطرة نافذة على البلاد، مع إمكانية جلب المساعدات الخارجية عبر حكومة يترأسها الحريري المقبول عربياً ودولياً والمدعوم مالياً من السعودية.
رفضت الرياض الاستمرار في هذا النموذج بعدما اكتشفت أنها تمول في حقيقة الأمر دولة لبنانية تزداد سيطرة إيران عبر حزب الله وحلفائه عليها.
ولكن ما رفضته الولايات المتحدة والسعودية، يحدث في العراق حالياً، إذ يحاول الأمريكيون والسعوديون تقوية الدولة العراقية، بينما تعزز إيران سيطرتها عليها.
المشكلة أنه يصعُب على أي رئيس وزراء عراقي تحدي البرلمان الذي جاء به أو الميليشيات الشيعية المتغلغلة في كل مكان بما فيها أجهزته الأمنية.
الأخطر أنه إذا بالغ الكاظمي في التقارب مع السعودية تحديداً، فإن هذا يجعل طهران تقطع شعرة معاوية معه وتحاول إحياء العداوة القديمة ضد السعودية في الأوساط الشيعية العراقية.
وفي مواجهة الاتهامات لأنصارها بأنهم رجال إيران، يمكن أن تدعي طهران أن الكاظمي رجل السعودية.
وقد تتحول الحفاوة التي قوبلت بها زيارة الكاظمي للسعودية إلى أداة في يد الدعاية الإيرانية.