من الصعب استمرار الجمود الحالي الذي يبدو مسيطراً على جهود إحياء الاتفاق النووي بين إيران وأمريكا للأبد، فما قصة الاقتراح الذي تدرس إدارة جو بايدن التقدم به لطهران لإحداث انفراجة في الموقف قبل الانتخابات الرئاسية هناك؟
ومنذ انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي السابق من اتفاقية العمل الشاملة المشتركة أو الاتفاق النووي الإيراني، في مايو/أيار 2018، أصبح هذا الملف مصدراً للتصعيد بين واشنطن وطهران وبينهما منطقة الخليج والشرق الأوسط، ووصلت الأمور لنقطة الانفجار في أكثر من مناسبة، في ظل فرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية خانقة، وإقدام إيران على التخلي عن التزاماتها النووية بموجب الاتفاق.
أما الرئيس الحالي جو بايدن، فقد أعلن أثناء حملته الانتخابية صراحة عن نيته العودة للاتفاق النووي مع إيران، لكن منذ تنصيبه في 20 يناير/كانون الثاني الماضي أصيب الملف النووي بالجمود، في ظل إصرار الطرفين على أن يعود الطرف الآخر للالتزام ببنود الاتفاق الموقع عام 2015 أولاً: إيران تصر على أن ترفع أمريكا العقوبات أولاً، بينما تصر واشنطن على أن تلتزم طهران أولاً بالتزاماتها النووية.
مخاطر الجمود النووي
إيران مقبلة على انتخابات رئاسية في يونيو/حزيران المقبل، وهو ما يعني أن الأسابيع القليلة القادمة تعتبر حاسمة في تحريك الموقف المتجمد، وإلا فإن الجمود الحالي على الأرجح سيستمر حتى سبتمبر/أيلول المقبل على أقل تقدير، بحسب محللين، ولهذا السبب وللمخاطر الكامنة في حالة الجمود الحالية تسعى إدارة بايدن لتقديم مقترح محدد للإيرانيين في غضون الأيام القليلة المقبلة، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية.
وتتمثل خطورة استمرار حالة الجمود إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في إيران، في أن عملية إعادة إحياء الاتفاق النووي -التي تبدو شبه مستحيلة الآن في ظل تمسك كل طرف بموقفه- قد تصبح مستحيلة تماماً مع مرور الوقت، وهذا ما عبّر عنه داري كيمبول، المدير التنفيذي لهيئة مراقبة الأسلحة، بقوله للمجلة الأمريكية: "من المتوقع أن تتخلى إيران عن مزيد من التقييدات النووية في الأسابيع القليلة المقبلة، وهذا هو الوقت الحاسم لتفادي تصعيد الموقف".
والصورة الأكبر هنا تتعلق بحالة الجمود المتوتر القائمة حالياً، إذ إن هذه الحالة لا تعني استمرار حالة اللاسلم واللاحرب للأبد دون تصعيد. وفي هذا السياق لا يمكن استبعاد الهجمات الصاروخية التي تستهدف قواعد أمريكية في العراق، وأدت إحداها لسقوط قتيل وجرحى بالفعل في أربيل، وردّت أمريكا باستهداف تلك الميليشيات التي تدعمها إيران داخل سوريا، ولا التصعيد الحوثي داخل وخارج اليمن مؤخراً، واستهداف منشآت نفطية وأهداف مدنية أخرى داخل السعودية، وهي الحوادث التي قد تخرج إحداها عن السيطرة وتشعل حرباً لا يريدها أحد لا في واشنطن ولا طهران ولا منطقة الشرق الأوسط ككل، نظراً لتداعياتها الكارثية على الجميع.
ماذا يقول المقترح الأمريكي إذن؟
وفي ظل هذه الصورة للموقف، وإدراك مسؤولي إدارة بايدن لعامل الوقت، تخطط الإدارة لتقديم مقترح جديد يهدف إلى إطلاق المحادثات خلال الأسبوع الجاري، بحسب مصدرين مطلعين تحدّثا لمجلة Politico، ويطالب المقترح إيران بالتوقف عن بعض أنشطتها النووية مثل عمل أجهزة الطرد المركزية المتقدمة وتخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، في مقابل رفع جزئي للعقوبات الأمريكية المفروضة عليها.
المصادر أكدت للمجلة أن تفاصيل المقترح لا تزال تخضع للمراجعة والتدقيق من جانب الإدارة الأمريكية، بمعنى أن ما تم الكشف عنه قد لا يكون كل شيء، ورغم ذلك جاء الرد الإيراني المبدئي متوقعاً، وهو رفض المقترح الأمريكي، في تكرار لموقف مشابه قبل أسابيع عندما رفضت إيران مقترحاً أمريكياً، وتقدمت بمقترح مضاد رفضه الأمريكيون.
ومن النقاط الأخرى المرتبطة بعامل الوقت الاتفاق المؤقت الذي عقدته إيران مع وكالة الطاقة الذرية الدولية، يسمح باستمرار عمليات التفتيش كما هي بموجب الاتفاق النووي، وهذا الاتفاق المؤقت ينتهي آخر مايو/أيار، وهو ما تريد واشنطن تفادي حدوثه.
وفي ظل هذه الأمور المتداخلة، قال مصدر مطلع للمجلة الأمريكية إن مقترح إدارة بايدن المفترض تقديمه لإيران هذا الأسبوع "ليس إلا مجرد محاولة لإطلاق المحادثات الثنائية المباشرة بين واشنطن وطهران"، ورفض المسؤولون في البيت الأبيض والخارجية الأمريكية التعليق رسمياً على المقترح، في إشارة على أن ما تم تسريبه منه ربما لا يكون كاملاً، وهو ما يعني أن ما يدور خلف الكواليس ربما يكون مختلفاً عن التصريحات الرسمية من الجانبين، بما في ذلك الرفض المعلن من طهران للمقترح.
انقسام إيراني قبل الانتخابات
وفي السياق نفسه، أشار تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية إلى وجود حالة من الانقسام بين قادة إيران السياسيين حول كيفية الاستجابة لمبادرة بايدن، لبدء مفاوضات تستهدف إعادة إحياء الاتفاق الدولي الذي يضع سقفاً لطموحات طهران النووية في مقابل رفع العقوبات.
ويعكس هذا الانقسام الخلافات حول المدة التي يمكن أن تصمد فيها إيران تحت وطأة الضرر الاقتصادي الناجم عن العقوبات والمناورات السياسية قبل الانتخابات الرئاسية، في يونيو/حزيران، حول من سيكون قادراً على نسب الفضل لنفسه في حال رفع العقوبات.
ووفقاً لدبلوماسيين تحدثوا لوول ستريت جورنال، أدى الانقسام إلى صعوبة التنبؤ بالوقت وتحت أية ظروف ستكون إيران على استعداد للقاء الولايات المتحدة. وقال الرئيس حسن روحاني، في تصريح علني، إنَّ طهران يجب أن تكون على استعداد للعودة إلى قيود الاتفاق النووي، إما دفعة واحدة أو على مراحل، ما دامت الولايات المتحدة تبادر أولاً برفع -على الأقل- بعض العقوبات الاقتصادية المُدَمِّرَة التي فرضتها.
بينما يجادل السياسيون المعارضون الأكثر تحفظاً، الذين يسيطرون على البرلمان (مجلس الشورى الإسلامي)، بأنَّ واشنطن يجب أن ترفع جميع العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب قبل استئناف إيران التزامها بالاتفاق متعدد الأطراف لعام 2015، والذي يضم بخلاف إيران والولايات المتحدة كلاً من ألمانيا وبريطانيا وروسيا والصين وفرنسا.
وقال أبو الفضل عموئي، النائب المحافظ الإيراني البارز، في مقابلة مع الصحيفة الأمريكية: "لم يُجرِ الأمريكيون أية محادثات معنا قبل مغادرة خطة العمل الشاملة المشتركة؛ لذلك لا حاجة لإجراء محادثات من أجل عودتهم"، بينما قال دبلوماسي أوروبي كبير في طهران: "إيران بحاجة إلى الحصول على شيء لكن ليس من الواضح ما هو هذا الشيء".
وبالرغم من أنَّ النظام السياسي الإيراني يُقصي أي شخص لا يدعم المبادئ الرئيسية للجمهورية الإسلامية، أو لا يعلن الولاء لقائدها الأعلى، فإنَّ الطيف السياسي والنقاش العام واسع نسبياً، بدءاً من الإصلاحيين إلى الأصوليين المتشددين.
الاقتصاد عامل حاسم في قرار إيران
وقال المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، الذي له الكلمة الأخيرة في مسائل الأمن القومي، إنه لم ينحَز إلى أي طرف في النزاع الداخلي، لكنه قال في خطاب ألقاه في نهاية الأسبوع الماضي إنَّ إيران ليست في عجلة من أمرها للعودة إلى المحادثات مع الولايات المتحدة، وأضاف أنَّ إيران ستعود إلى جميع التزاماتها في الاتفاق بمجرد رفع الولايات المتحدة جميع العقوبات.
وقال روحاني إنه بينما إيران مستعدة للعودة إلى الامتثال للاتفاق -ما دامت واشنطن تتخذ الخطوة الأولى- أشار أيضاً إلى أنَّ خصومه سيرغبون في تأجيل أي اتفاق مع الولايات المتحدة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في يونيو/حزيران، حين يمكن لتحقيق فوز دبلوماسي سريع وتخفيف العقوبات تعزيز حظوظ حلفائه.
النائب عاموئي قال إن تأثير العقوبات الأمريكية خفتت وطأته مع تعافي الاقتصاد الإيراني، ويتوقع صندوق النقد الدولي عودة الاقتصاد الإيراني إلى نمو قدره 3.2% في عام 2021، بعد انكماش بنسبة 5% في عام 2020، على خلفية مبيعات النفط الموسعة وصناعة محلية أقوى.
وأوضح عاموئي أنَّ إيران تبحث عن تخفيف للعقوبات في ثلاثة مجالات رئيسية: صادرات النفط، والوصول إلى الأموال لمبيعات النفط، والمعاملات المصرفية الدولية. وقال إنه من دون مثل هذه التحركات لا يرى أي جدوى للاجتماع. وأضاف: "لم تكن هناك أية علامة على حدوث تغيير في الضغط الأقصى".
وفي ديسمبر/كانون الأول، دفعت مجموعة من المُشرِّعين الإيرانيين المحافظين بمشروع قانون يُلزِم إيران باستئناف تخصيب اليورانيوم بنسبة نقاء 20% أقرب إلى درجة تصنيع الأسلحة مما تسمح به الصفقة، كما استأنفت إيران إنتاج معدن اليورانيوم وأوقفت عمليات التفتيش النووية التي تنفذها الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من هذه التحركات أشارت الإدارة الأمريكية الجديدة إلى أنها تريد العودة للتعامل مع إيران. وقال الرئيس بايدن إنه يعتزم العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 إذا تراجعت إيران عن انتهاكاتها وعادت للقيود المنصوص عليها في الاتفاق.
وقال مسؤول كبير في إدارة بايدن إنَّ الولايات المتحدة منفتحة على اتخاذ خطوة من شأنها تخفيف العقوبات حتى قبل لقاء المسؤولين الإيرانيين، وصرّح المسؤول لوول ستريت جورنال: "لقد أوضحنا أنَّ الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة كان خاطئاً، وأنَّ الضغط الأقصى كان فاشلاً. لكن هذا يجب أن يكون جزءاً من عملية تتخذ فيها إيران أيضاً خطوات لعكس قراراتها النووية".
وبينما يُظهِر الاقتصاد الإيراني علامات على التعافي، لا تزال العقوبات الأمريكية تضغط على إيران ويظل احتمال حدوث اضطرابات اجتماعية يلوح في الأفق في البلاد، إذ أدت العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب منذ 2018 إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، حيث ساهمت في انخفاض قيمة العملة الإيرانية بنسبة 85% ودفع التضخم إلى ما فوق 30%، وأدى ارتفاع أسعار الوقود في أواخر عام 2019 إلى احتجاجات على مستوى البلاد قوبلت بقمع من قوات الأمن أسفر عن مقتل المئات.
والخلاصة هنا هي أن الأيام القليلة المقبلة قد تشهد خروجاً من حالة الجمود النووي الحالية في ظل الظروف الداخلية الضاغطة في كل من واشنطن وطهران، ويظل السؤال بشأن مدى التراجع الذي قد يقدم عليه كل طرف هو العامل الحاسم في اتجاه تطورات الموقف.