الحديث عن خسائر مقدارها 400 مليون دولار كل ساعة نتيجة لجنوح السفينة في قناة السويس وتوقف الملاحة في أهم مجرى مائي في العالم يطرح سؤالاً مهماً: من سيتحمل تلك الخسائر؟ وهناك إجابات متعددة لكنها جميعاً تتركز حول "المستهلكين".
كانت السفينة إيفرغيفن، ناقلة الحاويات العملاقة التي يبلغ طولها 400 متر وعرضها 59 متراً وحمولتها 223 ألف طن، قد جنحت في قناة السويس منذ صباح الثلاثاء 23 مارس/آذار لأسباب تتعلق بالطقس السيئ وأسباب أخرى سوف يكشف عنها التحقيق في الأزمة، بحسب تصريحات رئيس هيئة قناة السويس المصرية الفريق أسامة ربيع.
وكانت جميع الأطراف تعلق الآمال على ارتفاع المد في مجرى قناة السويس مساء السبت 27 مارس/آذار بدرجة تكفي للمساعدة في إنجاح جهود تعويم السفينة، لكن يبدو أن ذلك لم يحدث، إذ كشفت التقارير وصور الأقمار الصناعية صباح اليوم الأحد 28 مارس/آذار أن السفينة لا تزال عالقة.
قائمة ضحايا أزمة قناة السويس
الإجابة عن السؤال الخاص بقائمة الضحايا عبارة عن لائحة طويلة تضم شركات شحن ومنتجين وشركات تأمين وهيئة قناة السويس نفسها بالطبع، لكن في نهاية المطاف سوف تكون الضحية الأبرز في هذه القائمة هي المستهلك نفسه حول العالم.
فقد أظهرت بيانات الشحن أن السفينة الضخمة العالقة في قناة السويس لليوم السادس تعطل وصول بضائع تقدر قيمتها بنحو 9.6 مليار دولار، وهو ما يعادل 400 مليون دولار من التبادل التجاري في الساعة على طول الممر المائي الذي يعد معبراً حيوياً بين الشرق والغرب.
وبحسب بيانات من مجلة لويدز ليست (Lloyd's List)، المختصة بالشحن، تقدر حركة المرور المتجهة غرباً عبر القناة بحوالي 5.1 مليار دولار في اليوم، وحركة المرور المتجهة شرقاً بحوالي 4.5 مليار دولار في اليوم.
قناة السويس، التي تفصل إفريقيا عن الشرق الأوسط وآسيا، تعد واحدة من أكثر طرق التجارة ازدحاماً في العالم، إذ يمر عبرها حوالي 12% من إجمالي التجارة العالمية، وبالإضافة إلى نقل النفط، يُستخدم الشحن البحري في الغالب لنقل بضائع استهلاكية مثل الملابس والأثاث ومكونات التصنيع وقطع السيارات.
إلى جانب النفط، تنقل حركة التجارة البحرية منتجات استهلاكية مثل الملابس والأثاث ومكونات التصنيع وقطع غيار السيارات.
ويتم نقل أكثر من 80% من البضائع حول العالم عبر النقل البحري، وهو ما يعني أن أزمة قناة السويس الحالية وتوقف حركة عبور البضائع عبرها قد تسببت في ارتفاع تكلفة سلاسل الإمداد بمليارات الدولارات. وبحسب بيانات شركات الشحن البحري مثل S&P Global Platts، ارتفع متوسط تكلفة نقل حاوية طولها 40 قدماً من نحو ألف دولار في يونيو/حزيران الماضي إلى أكثر من 4570 دولاراً مطلع مارس/آذار الجاري، أي قبل أزمة قناة السويس.
وتنعكس تلك الزيادة بشكل تلقائي على إجمالي تكلفة البضائع، ففي فبراير/شباط الماضي بلغ إجمالي تكلفة الشحن البحري للبضائع التي استوردتها الولايات المتحدة وحدها 5.2 مليار دولار، مقارنة بـ 2 مليار دولار فقط خلال نفس الشهر من العام الماضي (فبراير/شباط 2020)، بحسب بيانات شركة S&P Global Panjiva.
أما عن قناة السويس نفسها، التي تمثل أحد المصادر الأساسية لمصر من العملات الأجنبية، فقد أعلن رئيس الهيئة الذي يديرها أسامة ربيع أمس السبت في مؤتمر صحفي حول أزمة السفينة العالقة، أن خسائر إيرادات مصر من عبور السفن تتراوح بين 12 و14 مليون دولار يومياً بسبب توقف حركة الملاحة.
ومن المتوقع أن تتسبب أزمة السفينة العملاقة، التي تمتلكها شركة يابانية وتؤجرها شركة إيفرغرين التايوانية، في عاصفة من الدعاوى القضائية الخاصة بالتعويضات عن الخسائر الناجمة عن جنوح ناقلة الحاويات العملاقة وتعطيل الملاحة في القناة.
المستهلك "الضحية الأبرز" لأزمة القناة
لكن في نهاية المطاف، بحسب خبراء، سيكون المستهلك وميزانيته الضحية الأبرز لما يحدث حالياً من تعطل قناة السويس، وإن كان ارتفاع تكلفة الشحن البحري كان قد بدأ من قبل الأزمة بسبب تفشي وباء كورونا وتسببه في موجة من الإغلاق الاقتصادي نشأت عنها أزمة وجود كثير من الحاويات في المكان الخطأ، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
فارتفاع تكلفة الشحن من قبل الأزمة في قناة السويس وقضايا التعويضات والتأخير المرتبطة بالأزمة على الأرجح ستنعكس على ارتفاع أسعار السلع بالنسبة للمستهلك وهو ما يثير المخاوف من موجة تضخم إضافية، وهذا ما عبر عنه كريس روجرز، محلل أبحاث في S&P Global Panjiva بقوله: "حالياً تنحصر كثير من تلك التكاليف في إطار سلاسل الإمداد (شركات الشحن والناقلات والحاويات)، وأعتقد أنه في نهاية الأمر سوف يتم تحميل تلك التكاليف على المستهلك وإن كان حدوث ذلك يتطلب بعض الوقت".
وفي السياق، كانت جائحة كورونا قد تسببت في فوضى عارمة في سلاسل الإمداد العام الماضي، إذ تسببت إجراءات الإغلاق في وقف المصانع عن العمل وإرباك التدفق التجاري الطبيعي حول العالم، وهو ما أدى لتباطؤ درامي في النشاط الاقتصادي في بداية تفشي الوباء عالمياً (مارس/آذار 2020)، لكن العودة السريعة للنشاط الاقتصادي في الصين لم يكن أمراً جيداً أيضاً بالنسبة لشركات الشحن.
فقد تسببت عودة المصانع للعمل وارتفاع الطلب على البضائع، خصوصاً الأجهزة المنزلية مثل التلفزيونات والأثاث والأجهزة الرياضية المنزلية والدراجات، في إضافة ضغوط هائلة على سلاسل الإمداد التي فوجئت بأن الحاويات التي تحتاجها موجودة في موانئ وأماكن في أعالي البحار تبعد عن مناطق الشحن وهو ما يعني نقص الحاويات ومن ثم ارتفاع التكلفة.
وقال جين سيروكا، المدير التنفيذي في مرفأ لوس أنجلوس، إنه "قبل عام تباطأت التجارة العالمية عندما ضرب وباء كورونا الصين أولاً ثم باقي أنحاء العالم، واليوم (مارس/آذار الجاري) نمر بالشهر السابع من ارتفاعات قياسية في التصدير والاستيراد مدفوعاً بطلب غير مسبوق من جانب المستهلكين الأمريكيين".
وفي بريطانيا، تبدو الصورة أكثر سوءاً، إذ تشعر الشركات البريطانية بالقلق مع استمرار إغلاق قناة السويس المصرية لليوم السادس على التوالي، وقال ستيف باركس، مدير سيبورت فرايت سيرفيسيز، لبي بي سي: "إننا ننتظر سلعاً غذائية مثل حليب جوز الهند والعصائر، وبعض قطع الغيار للمحركات، ولدينا بعض الشاحنات الرافعة، وبعض سلع شركة أمازون من جميع الأنواع".
كما حذر أليكس فيتش، المدير العام للسياسات في لوجيستيكس يو كي، من أن هناك خطر وصول بعض السلع، مثل الأطعمة القابلة للتلف، بعد فوات أوان بيعها، وذلك بسبب انتظار السفن لعبور القناة أو الاضطرار إلى تغيير مسارها حول الطرف الجنوبي لإفريقيا، وبينما يعني الاتجاه الحالي لصناعة سفن كبيرة للغاية أنه يمكن نقل المزيد من البضائع دفعة واحدة لكن تأثير ذلك أكبر بكثير عندما تسوء الأمور.
من الجاني في أزمة قناة السويس؟
من الطبيعي أن تثير هذه القائمة الطويلة من ضحايا أزمة قناة السويس تساؤلات حول المتسبب في جنوح السفينة، وكان من المفترض أن تكون الإجابة معلومة، أو بمعنى أدق هي كانت معلومة بالفعل منذ الأربعاء 24 مارس/آذار الماضي عندما أصدرت هيئة قناة السويس بيانها الأول وقالت فيه إن سبب جنوح السفينة هو الطقس السيئ وعاصفة رملية أدت لانعدام الرؤية.
لكن في مؤتمره الصحفي الأول بشأن الأزمة والذي عقده أمس السبت، قال رئيس الهيئة أسامة ربيع إن جنوح السفينة لم يكن فقط بسبب نشاط الرياح والعاصفة الترابية، مضيفاً أن "هناك أسباباً فنية، وأخرى شخصية للمرشد والقبطان"، ومشيراً إلى أنه لا يمكن تحديد تلك الأسباب إلا بعد التحقيق.
ومن المتوقع ألا تبدأ التحقيقات في أسباب جنوح السفينة إلا بعد نجاح جهود تعويمها وإعادة الملاحة في القناة إلى وضعها الطبيعي، وحتى الآن لا توجد توقعات دقيقة بشأن متى يمكن أن يتم ذلك في ضوء عدم نجاح جهود تعويم الناقلة العملاقة بالاستفادة من المد في مجرى القناة مساء أمس السبت.
ويتوقع الخبراء أن عملية تخفيف حمولة السفينة بغرض تحرير مقدمتها العالقة في شاطئ القناة ربما تستغرق أسابيع وليس أياماً كما كان متوقعاً في البداية.
وقال بيتر بيردويسكي، المدير التنفيذي للشركة الهولندية التي استأجرتها هيئة قناة السويس للمساهمة في تعويم السفينة، إن مقدمة إيفرغيفن عالقة في وحل رملي بينما مؤخرتها غير عالقة وهذه إشارة إيجابية، لكن تقييم بيردويسكي بشأن الموقف كان مساء الجمعة والواضح اليوم الأحد أن الخطة الأصلية (تعويم السفينة عن طريق أوناش القطر وكراكات الحفر واستغلال المد) لم تنجح، ومن ثم سيتم اللجوء للخطة البديلة وهي تخفيف الحمولة، وهو ما يعني بحسب الخبراء، أن الأمر قد يستغرق أسابيع وليس أياماً.
وتتسق تقديرات الخبراء مع ما أعلنه رئيس الهيئة، أمس السبت، عندما قال إنه يأمل ألا يكون من الضروري اللجوء إلى إخراج الحاويات من السفينة لتخفيف حمولتها، لكن قوة الرياح تزيد من صعوبة إعادة تعويمها، مشيراً إلى أنه لا يستطيع التنبؤ بموعد إعادة تعويمها.