تناول تقرير لموقع Responsible Statecraft الدور الأمريكي في ليبيا الذي ساهم في صنع فوضى سياسية في البلاد التي مزقتها الحرب الداخلية، ويقول التقرير إنه حين تقاتلت الفصائل السياسية الليبية مع بعضها بعضاً، وانزلقت البلاد إلى حرب أهلية، كانت الولايات المتحدة تركز على "أهداف" مباشرة قصيرة المدى لحل هذه الخلافات السياسية وليس على أهداف طويلة المدى تؤدي لاستقرار البلاد. وربما بدا هذا منطقياً لصناع السياسة الأمريكيين من نواحٍ عدة. فتقييم أطراف النزاع يوحي بأنه مهما كانت النتيجة، وأياً كان الفائز، فهو سيتواصل حتماً مع واشنطن لكسب الشرعية والاعتراف الدولي.
وكان هذا يعني أنه بدلاً من أن تنحاز الولايات المتحدة إلى أحد طرفي الصراع، دخلت في شراكة مع مجموعات مختلفة تنتمي للطرفين لتأمين أهداف محددة في ليبيا. فعام 2016، تعاونت واشنطن مع الجماعات المسلحة في مصراتة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وعام 2019، أشار الرئيس ترامب إلى "دور حفتر المهم في مكافحة الإرهاب" رغم أن الجنرال انقلب على الحكومة المعترف بها من قبل الأمم المتحدة بتمويل دول مثل الإمارات وفرنسا وحتى روسيا.
بعد هزيمة حفتر استفاقت أمريكا "فجأة" في ليبيا
يقول الموقع الأمريكي، كانت هاتان المجموعتان قد فسرتا سياسة الولايات المتحدة على أنها إشارة إلى أنهما يمكنهما تأمين دعم واشنطن لأي محاولة منهما للسيطرة على ليبيا. لذلك واصلت الجماعات المسلحة في مصراتة تقويض حكومة الوفاق الوطني في ليبيا التي كانت خاضعة لها اسماً، فيما شرع حفتر في الاستيلاء عسكرياً على الأراضي في الشرق والتحرك غرباً، دون عقاب، على أمل أن يعترف صناع السياسة الأمريكيون في واشنطن بانتصار حاسم يحققه، وبالتالي يُعترف به دولياً.
على أن التدخل العسكري التركي في يناير/كانون الثاني عام 2020 تسبب في معضلة لواشنطن. فلم يقتصر الأمر على أن هذا التدخل ألغى خيار "الانتصار العسكري" الذي تريده واشنطن، بل وضعها في موقف محرج بعد انكسار حفتر على أبواب طرابلس، في ظل التدخل الروسي في البلاد الذي كان يهدد باحتكار العملية السياسية.
ودفع هذا الولايات المتحدة إلى الشروع في نشاط دبلوماسي على وجه السرعة. وكُلفت ستيفاني ويليامز، التي استلمت السلطة من غسان سلامة في مارس/آذار عام 2020 بعد قرار الأخير التنحي، بقيادة عملية سياسية متجددة تشرف عليها الأمم المتحدة، وتهدف إلى الاستيلاء على المبادرة الدبلوماسية من الثلاثي الروسي التركي المصري.
وبدأ هذا النشاط جدياً في أواخر أكتوبر/تشرين الأول وأوائل نوفمبر/تشرين الثاني. فأُرسل وزير الدفاع مارك إسبر إلى الجزائر في أول زيارة لوزير دفاع أمريكي منذ أكثر من 15 عاماً، كما زار تونس والرباط في الجولة نفسها لبحث "التعاون الأمني".
أهداف سياسة بايدن الجديدة تجاه ليبيا
وبعدما كانت واشنطن تبدو لا مبالية بأي نتيجة محتملة للصراع الليبي، أصبحت تسعى الآن وفجأة لمنع بعض النتائج على الأقل. وفي هذا السياق تظهر استمرارية السياسة الأمريكية في الآونة الأخيرة رغم تغير الإدارة. وهذه السياسة مبنية على تحقيق هدفين رئيسيين:
1- وقف التمدد الروسي في الفراغات التي تركتها أمريكا
الهدف الأول والأساسي هو منع توغل روسيا. لا في ليبيا وحدها، ولكن على مستوى المنطقة أيضاً. إذ نجحت روسيا في استغلال الفرص التي أتاحتها الأزمتان في سوريا وليبيا لتوسيع لا حضورها العسكري فقط، وإنما نفوذها الدبلوماسي كذلك. وتمكنت موسكو إلى حد كبير من كسب تأييد أصحاب النفوذ الرئيسيين: القاهرة وأنقرة وحتى باريس، في جهودها لرسم مسار سياسي خاص بها في ليبيا. بعبارة أخرى، نجحت روسيا في استمالة عضوين من أعضاء حلف الناتو لإضفاء شرعية حقيقية على مبادراتها الدبلوماسية التي تهدف أساساً لاستبعاد المصالح الأمريكية وتقييدها.
2- إصلاح صورة واشنطن أمام الحلفاء والخصوم
والهدف الثاني، وربما الأصعب، هو إصلاح صورة الولايات المتحدة المشوهة باعتبارها قوة مهيمنة وحليف موثوق للجهات السياسية الإقليمية الفاعلة. ولكن بدلاً من أن تعمل واشنطن مع حلفائها الإقليميين لتحقيق ذلك، سعت "لتأديبهم" لاستغلالهم الفراغ السياسي الذي نشأ في ظل إدارة ترامب. وهذا لا ينطبق فقط على تركيا التي وقعت اتفاقية بحرية مع طرابلس، وأمنت قواعد عسكرية حيوية في الوطية ومصراتة، ولكن على الإمارات أيضاً التي عاونت روسيا ومولت مرتزقة "فاغنر" في دعم مغامرات حفتر العسكرية.
لكن المشكلة هي أن الولايات المتحدة قد عزلت بالفعل العديد من حلفائها المختلفين في وقت واحد، وتجازف بزيادة عزلتهم في محاولتها إعادة إثبات نفسها. وكان الرئيس بايدن قد عبر بالفعل عن غضبه من لتركيا في مقابلة مع صحيفة The New York Times قبل انتخابه، وكذلك في إعادة تعيينه بريت ماكغورك الذي لا تحبه أنقرة لدعمه للجماعات الكردية المسلحة في شمال سوريا.
وفضلاً عن ذلك، في الوقت الذي تؤكد فيه تركيا أن وجودها العسكري في ليبيا له ما يبرره قانوناً، تستمر واشنطن في التأكيد على أن تغادر في أقرب وقت ممكن. ورغم أن العمل مع أنقرة في مواجهة موسكو قد يخدم المصالح الأمريكية بشكل أفضل، يسود اعتقاد بأن بايدن سيكون أكثر ميلاً ليحل محل الوجود التركي في ليبيا في إطار استعادة القوة الأمريكية. لكن هذا لن يؤدي إلا إلى تعميق تعاون تركيا مع روسيا الذي سيجعل واشنطن تخسر الكثير.
ورغم تعاون تركيا وروسيا مع طرفين متعارضين في ليبيا وسوريا، فقد أبدتا قدرتهما الكبيرة على التعاون لتحقيق مصالحهما المشتركة. وتحرص موسكو على ضمان استمرار هذه العلاقة في الوقت الذي تسعى فيه إلى إضعاف الناتو.
ومن المرجح أيضاً أن تواجه إدارة بايدن مشكلات في تنسيقها مع أوروبا المنقسمة هي الأخرى في نظرتها لما تشهده ليبيا. وفي الوقت الذي سيركز فيه بايدن على روسيا وتركيا، نرى تأييد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للتعاون مع موسكو. وإيطاليا تسعى للحفاظ على العلاقات مع تركيا وتجنب الانجرار غير الضروري إلى أي تصعيد. وأوروبا بشكل عام تخوض نقاشاً حول مزايا الاعتماد على القوة الأمريكية لتسهيل أهدافها.
أمريكا تبحث في ليبيا عن مصالحها فقط
ويختتم الموقع الأمريكي التقرير بالقول إنه بات من الواضح في هذا السياق أن السياسة الأمريكية في ليبيا لا تهدف في الأساس لتحقيق انتقال ديمقراطي، أو المساءلة، أو معالجة الفساد، أو إنشاء دولة ليبية بالتعاون مع أي هيئة. لكن تركيزها ينصب أولاً وأخيراً على إقناع الأطراف السياسية المحلية والدولية في ليبيا بأولوية الأهداف والمصالح الأمريكية.
السياسة الأمريكية في ليبيا إذاً لا تتعلق بليبيا. بل بمخاوف واشنطن العميقة إزاء خسارة القوة الأمريكية للنظرة المأخوذة عنها، وتداعيات ذلك على نفوذ الولايات المتحدة ككل. فهي مدفوعة بالرغبة في إقناع حلفائها والمنطقة ككل بأن الولايات المتحدة لا تزال القوة الأساسية بلا منازع والضامن الأساسي للنظام والأمن العالميين.