مرت 10 سنوات منذ إطاحة الاحتجاجات التي عمّت تونس الرئيس التونسي زين العابدين بن علي ونظامه.
وكانت دوافع هذه الاحتجاجات البطالة وتضخم أسعار الغذاء والفساد وانعدام الحرية السياسية وسوء الأحوال المعيشية في البلاد.
ولكن لم يتغير الكثير، واستمر تصاعُد الاحتجاجات بعد فرض حالة الطوارئ عام 2015، رداً على تصاعُد الإرهاب. وهذا العام قبل أيام قليلة من الذكرى العاشرة لثورة الكرامة، أعلنت الحكومة فجأة إغلاقاً وحظر تجول، لكن هذا لم يردع الناس، واستمروا في احتجاجهم.
تُظهر الدراسات المتعلقة بانتقال السلطة في تونس ومسار ما بعد الثورة في البلاد أن دوافع هذه الاحتجاجات الجديدة هي نفسها التي أدت إلى الثورة.
فحينذاك، كما هو الحال الآن، خرج الناس في احتجاجات للمطالبة بحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والعدالة الاجتماعية، فضلاً عن الحرية السياسية. وزادت الحكومات المتعاقبة من قمع الحقوق المدنية والسياسية. والفساد -الذي يستغل الناس العاديين ويفيد منه الأثرياء وأصحاب النفوذ- لا يزال متفشياً، وبدلاً من السعي لتحقيق "أهداف الثورة" عادت الحكومة لممارسة عاداتها السيئة القديمة المتمثلة في تجاهل المعارضة أو نزع شرعيتها.
ووجدت دراستنا أيضاً أن تدهور الظروف الاقتصادية، وزيادة انعدام المساواة، لم يكن نتيجة للثورة، وإنما نتيجة تدابير التقشف التي فرضتها الحكومة بناءً على طلب من الاتحاد الأوروبي ومؤسسات مالية دولية.
جذور السخط
ويريد التونسيون ديمقراطية اجتماعية توفر الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والمدنية والسياسية. ويروا أن العدالة الاجتماعية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية جزء لا يتجزأ من الديمقراطية، ولا يمكن التعامل معها على أنها مجرد نتائج، بحسب تقرير لموقع The Conversation.
وعبّر الناس في مقابلات أجراها معه موقع The Conversation عن إحباطهم إزاء عدم تلبية مطالب ثورة عام 2011. ودعوا إلى "ثورة أخرى حقيقية".
وتظهر استطلاعات الرأي العام التي تُجرى منذ عام 2011 باستمرار أن التونسيين يريدون حكومة متجاوبة. ويريدونها أن توفر خدمات عامة لائقة وأمناً اقتصادياً، ونهاية للفساد، وحكومة ديمقراطية، وحقوق اجتماعية وسياسية.
ولكن -وفقاً لشبكة الباروميتر العربي أحد المصادر المركزية للبحث الكمي عن الشرق الأوسط- يرى ثلثا التونسيين أن الساسة لا يبالون باحتياجات الناس. وكانت نسبة الثقة في الساسة أو الأحزاب السياسية أو الحكومة منخفضة للغاية. وأقل من 10% راضون عن الحكومة بشكل عام، وهم في الغالب غير راضين عن ملف الحكومة في توفير الوظائف، وأدائها في الحد من التفاوتات، ومعركتها مع التضخم.
وفضلاً عن ذلك، يعتقد حوالي 90% أن الحكومة فاسدة، وأن الواسطة ضرورية للعثور على وظيفة، وأن المسؤولين الحكوميين يوفرون الواسطة لمساعدة أقاربهم، بحسب الموقع الأمريكي.
موقّعة ومختومة ولكن دون تطبيق
أدّت المظالم الاقتصادية إلى اندلاع ثورة الكرامة، وظلّت مشكلة من حينها، إذ فشلت الحكومة في تحقيق النمو الاقتصادي أو خفض الديون أو تحسين التجارة أو التوظيف. ولا تزال نسبة البطالة مرتفعة والانتقال من الدراسة إلى سوق العمل يزداد صعوبة، وأصبحت الوظائف أقل أمناً.
وسلط البنك الدولي في أحدث تقييماته الاقتصادية الضوء على نقص الاستثمار وانخفاض إنتاجية القطاع الخاص والصادرات دون ما قبل الثورة.
على أن الحكومة ليست وحدها المسؤولة عن الفشل في تحقيق إصلاح اجتماعي واقتصادي فعلي. إذ تشير دراسة إلى أن المؤسسات المالية الدولية والحكومات الغربية متواطئة أيضاً. إذ شجعت -وأحياناً أجبرت- تونس على تبني سياسات اقتصادية ليبرالية جديدة مقابل مساعدتها والتجارة معها. ومن أمثلة هذه السياسات إدخال إصلاحات هيكلية على المؤسسات العامة والشركات المملوكة للدولة، وخفض دعم الطاقة، وخفض قيمة الدينار التونسي بما يتماشى مع سعر الصرف القائم على السوق.
وهذه السياسات تقلل من الإنفاق الحكومي، وهو ما يعني أن الحكومة لا تستطيع تحسين الخدمات الاجتماعية أو دعم الدخل.
سياسات "مجربة وفاشلة"
أياً كان ما يعتقد صناع السياسة أنهم يفعلونه فهو لم ينجح، كما أنه لم يخفف من الاستياء الشعبي، ويتعين على الحكومة التونسية والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية إعادة دراسة السياسات "المجربة والفاشلة"، ولا بد أن تتخذ إجراءات تلبي مطالب الناس بالكرامة والتوظيف ووضع حد للفساد.
بإمكان الحكومة، على سبيل المثال، الاستثمار في البنية الأساسية، لتوفير فرص العمل وجذب الاستثمار الأجنبي والمحلي على حد سواء. ومن شأن الهيكل الضريبي التصاعدي أن يساهم في إعادة توزيع الثروة، وزيادة الطلب الداخلي، وإرسال إشارة رمزية مهمة للناس. وكذلك سيفعل تأمين العاطلين عن العمل وتضافر الجهود لمكافحة الفساد.
من جانبه، بإمكان الاتحاد الأوروبي تمكين تونس من زيادة وصولها إلى سوقه الزراعي الداخلي، حيث تتمتع المنتجات التونسية بميزة تنافسية. ويمكنه أيضاً التخفيف من شروط سداد القروض أو الضغط لإجراء إصلاحات تجعل العمل أكثر -وليس أقل- أمناً ومجزياً بدرجة أكبر.
وهذا ما يفسر سبب اعتبار المرحلة الانتقالية فاشلة. والسبب الذي من أجله يطالب التونسيون، كما فعلوا قبل 10 سنوات بـ"إسقاط النظام": لا نظام مستبداً بعينه، وإنما نظام بأكمله.
وقبل عدة أسابيع اندلعت أزمة بين الحكومة التي يقودها المشيشي وبين الرئيس قيس سعيد، على خلفية التعديل الوزاري الأخير، الذي أطاح بعدد من المحسوبين على الرئيس، فيما لا تزال الأزمة مستمرة.
مستقبل الخلاف السياسي في تونس
يرى مراقبون للشأن السياسي في تونس، أن المسألة تحولت إلى ليِّ ذراع بين قرطاج والقصبة ومن يقف وراءهما، بما أن كل طرف متمسك بمواقفه. كما أن الأزمة السياسية تنذر بمخاطر تهدد البلاد في استقرارها وأمنها، هذا دون أن ننسى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي لم تحظَ بقدر من الاهتمام يعادل ذلك الذي لقيته الأزمة السياسية بين مؤسسات الحكم، رغم أنها أهم وأخطر وتؤثر على حياة التونسيين ومقدرتهم المعيشية.
أزمة الحكم ستؤثر كذلك بعمق على الوضع الداخلي، وتزعزع صورة تونس في الخارج كبلد انتقال ديمقراطي وتجربة فريدة بالمنطقة، خصوصاً في تعاملات تونس مع صندوق النقد الدولي والنظرة السلبية للمجتمع الدولي إلى ما يحدث في تونس، حسب الأكاديمي عبداللطيف الحناشي.
وأشار الحناشي إلى أن التجربة التي نجحت جزئياً على المستوى السياسي والدستوري والحريات والانتقال السلمي للسلطة، نراها الآن تتعثر بشكل كبير، بسبب النخبة السياسية التي باتت غير قادرة على التفاعل مع الواقع وتنصيب المحكمة الدستورية، التي كان بإمكانها حل جزء من الخلاف وضمان مناخ تحكيم دستوري قادر على معالجة خلافات مماثلة في المستقبل.
واعتبر أن الثغرات الموجودة بالدستور لها دور في تعميق الأزمة، لأن "هنالك فصولاً غامضة في الدستور يمكن تأويلها تأويلات متعددة، مثلاً الفصل 89 من الدستور والذي يحدد إجراءات تأدية القسم أمام رئيس الجمهورية، لم يوضحها بشكل حاسم وقاطع كفيل بسدِّ الباب أمام التأويلات من جميع الأطراف.
قانون الانتخابات كذلك يتطلب المراجعة بما أنه أنتج نخبة سياسية وبرلمانية متناقضة وسمح لأشخاص كان من المفروض ألا يدخلوا البرلمان (فاسدين ومتهربين ضريبياً وتجار مهربين..)، بالفوز بمقاعد في مجلس نواب الشعب، "ولذلك يجب مراجعة القانون الانتخابي".
الحلول المطروحة لتجاوز الأزمة التونسية
عندما بدأ الخلاف بين رئيس الحكومة ورئيس الدولة قبل ما يقارب ثلاثة أسابيع لم تكن الخيارات كثيرة أو قابلة للتفلسف والتأويل؛ فإما قبول رئيس الجمهورية بأداء الوزراء الجدد القَسم أمامه أو إسقاط رئيس الحكومة للوزراء الذين تعلقت بهم شبهات فساد مثلما اشترطت الرئاسة، أو المرور بقوة وإقالة الوزراء المحسوبين على الرئيس والمعنيين بالإقالة، وتعيين الوزراء الجدد في مكانهم دون المرور بإجراءات أداء القَسم أمام رئيس الجمهورية، وهو ما حصل بالفعل ولكن بشكل جزئي، إذ تمت إقالة وزراء الرئيس لكن لم يتم حتى الآن تعيين الوزراء الجدد.
لم يكن الحوار الوطني من أجل حل الأزمة السياسية وتعديل القانون الانتخابي والسياسي ذا أولويةٍ ساعتها، وإن كان مطروحاً كبديل لإنقاذ البلاد وتخليصها من مشاكلها، بل بقي على رفوف مكاتب رئاسة الجمهورية التي قبلت بمبادرة اتحاد الشغل، من أجل الحوار ولكن بشروطٍ، أهمها استثناء من اعتبرتهم أطرافاً فاسدة. ومع تواصل الأزمة وتعمُّقها وانسداد أفق التفاهم بين المتخاصمين، برزت دعوات جديدة إلى الحوار ولكن هذه المرة جاءت من طرف المحامين.
في هذا السياق قال عميد الهيئة الوطنية للمحامين إبراهيم بودربالة، إن الرباعي الراعي للحوار الوطني، المُمثل في الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين، إضافة إلى اتحاد الفلاحين، سيجتمع قريباً لتقديم ملامح المبادرة التي سيتم اقتراحها لصياغة رؤية مشتركة من أجل إيجاد حلول للأزمة الراهنة.
وهو ما يعني العودة للمربع الأول الذي هربت منه أغلب الأطراف منذ البداية، سواء رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو حركة النهضة، التي لم تكن مرتاحة لترؤُّس قيس سعيّد للحوار الوطني، بما أن مبادرة اتحاد الشغل نصت على إشراف رئيس الجمهورية عليه.
دعوة عميد المحامين إلى الحوار عبر الرباعي الراعي للحوار تستحضر في طياتها أجواء الحوار الوطني سنة 2013، الذي جاء عقب اغتيال الزعيمين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، حيث كان المناخ ساعتها يشي بحدوث انفجار اجتماعي وتقاتُل أهلي، لولا مبادرة الحوار التي أشرف عليها المجتمع المدني من خلال الرباعي، الذي عاد اليوم للعب الدور نفسه في ظروف مختلفة قطعت فيها تونس أشواطاً مهمة في الانتقال الديمقراطي.