نشرت صحيفة The Times البريطانية تقريراً عن خطط وطموحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليصبح "شارل ديغول" القادم، وذلك "باستغلال الأوقات المضطربة وفرض طابع فرنسي على الأحداث".
وتقول الصحيفة إنه "إذا طلب من رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أن يشرح سياسته الخارجية، فسوف تسمع بعض العبارات البليغة حول تعزيز المصالح البريطانية بطريقةٍ براغماتية صرفة. وإذا طلب ذلك من أنجيلا ميركل، فستجدها تضع نهجاً واقعياً وعملياً. في المقابل، سيحلِّل الرئيس الفرنسي بالتفصيل الديكارتي عالم 2021 في سياق التاريخ، ثم يخبرك كيف ستشكِّل دولته المستقبل".
مشيرة إلى أن ماكرون البالغ من العمر 43 عاماً، "شرع في أجرأ محاولة منذ سلفه الجنرال شارل ديغول في الستينيات وفرانسوا ميتران في الثمانينيات لاستغلال الأوقات المضطربة وفرض طابع فرنسي على الأحداث". ولمنع التباس فهم الأمر، فقد قدَّم مؤخَّراً تفسيراتٍ شاملة -في المؤتمرات والمقابلات والمحاضرات- لرؤيته لعالمٍ متعدِّد الأطراف ومنظَّم للغاية مع أوروبا بقيادة فرنسا كقوةٍ لـ"الاعتدال الحميد".
ماكرون يطمح لقيادة أوروبا وإعادة أطلال فرنسا القديمة
يؤمن ماكرون بالقوة النووية الفرنسية المستقلة تماماً، كما يشير إليها، على عكس النسخة البريطانية التي تشرف عليها الولايات المتحدة. لقد طلب للتو حاملة طائرات جديدة تعمل بالطاقة النووية. ومن وجهة نظره، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد جعل فرنسا القوة العسكرية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي ذات النفوذ الخارجي، والدولة الوحيدة في الكتلة التي تتمتَّع بمقعدٍ له حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وتقول صحيفة "التايمز" إن "ماكرون يستخدم القوة الفرنسية بطريقةٍ تجعل القادة الأوروبيين الآخرين يشعرون بالحساسية". وفي الأشهر الأخيرة، خاض ماكرون مواجهة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأرسل سفناً حربيةً وطائراتٍ فرنسية إلى بحر إيجه وأسلحةً إلى اليونان لتحدي تركيا بشأن الاستكشافات البحرية، وهي قوة كبيرة وحليف في "الناتو". ونظَّمَ ماكرون قمةً لزعماء البحر المتوسط لتشكيل جبهة مناهضة لأنقرة دون دعوة ألمانيا. وفي هذا الشهر، فبراير/شباط، قال ماكرون إنه متمسِّكٌ بملاحظاته لعام 2019 بأن الناتو "ميت دماغياً"، وقال إن "فشل الناتو في الوقوف في وجه تركيا دليلٌ على ذلك"، بحسب تعبيره.
وتدخَّل ماكرون في الصراع على السلطة في ليبيا، وأعاد إدخال باريس في بلاد سوريا المستعمرة القديمة، وانطلق إلى لبنان الصيف الماضي لإلقاء محاضرةٍ على القيادة السياسية المنقسمة هناك. وفي الأسبوع الماضي، تحدَّى التوقُّعات بالانسحاب من الساحل الإفريقي، ووعد بإبقاء الكتيبة العسكرية الفرنسية، البالغ قوامها 5 آلاف فرد، تقاتل في حملةٍ مُكلِّفةٍ ضد الجماعات الإسلامية في غرب إفريقيا، وهي منطقة استعمرتها فرنسا قديماً أيضاً.
بل إن ماكرون يرى طريقةً من أجل إعادة تأكيد النفوذ الفرنسي في إفريقيا بالتزامن مع حملة الصين للاستثمار هناك في مبادرة الحزام والطريق. وفي الوقت نفسه، يقول إنه "من الواضح تماماً" أن بكين تمثِّل نظاماً غير ديمقراطي يشكِّل ما يسميه تهديداً "منهجياً" على العالم. وهذا جزءٌ من مخطَّط ماكرون للعلاقات الدقيقة و"المعقَّدة".
دول الاتحاد الأوروبي تشعر بالضيق من "طغيان" ماكرون
وبحسب الصحيفة البريطانية، تشعر دول وسط وشرق الاتحاد الأوروبي بالضيق من تعامله مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويبرِّر ماكرون هذه السياسة، التي لم يكن لها تأثيرٌ على سلوك بوتين، باعتبارها ضروريةً لتجنُّب دفع روسيا إلى فلك الصين.
كرهت ميركل وقادةٌ آخرون محاولة ماكرون الفاشلة لجذب دونالد ترامب للحفاظ على علاقاتٍ مفتوحة مع أوروبا والبقاء في اتفاقية باريس الدولية للمناخ.
أما هولندا، والدول الشمالية الأخرى في الاتحاد الأوروبي، فهي غاضبةٌ من الضغط الفرنسي الطليق، غير المُقيَّد بالثقل البريطاني الموازن، من أجل إنفاقٍ أكثر مركزية للاتحاد الأوروبي.
ولا ترضى ألمانيا عن معارضة ماكرون لعودة الاعتماد الأوروبي على الناتو بقيادة الولايات المتحدة في ظلِّ إدارة بايدن. وبالنسبة لماكرون، فإن حتمية الاستقلال الاستراتيجية لأوروبا، بقواتها المسلَّحة وأنظمتها الأمنية، أمرٌ بالغ الأهمية.
وبينما أشاد جونسون بعودة أمريكا بصفتها "زعيمة العالم الحر" في قمةٍ افتراضية الأسبوع الماضي، اتَّخَذَ ماكرون الاتجاه المعاكس وأصرَّ على الابتعاد عن هذه الإشادة بمسافة.
وقال: "أنا أدافع عن السيادة الأوروبية، والاستقلالية الاستراتيجية، ليس لأنني ضد الناتو أو لأنني أشكِّك في أصدقائنا الأمريكيين، ولكن لأنني واضحٌ بشأن حالة العالم". وأضاف: "لا يمكن لأوروبا أن تفوِّض الولايات المتحدة في حمايتها وحماية جيرانها".
ماكرون يحاول ملء فراغ بريطانيا في أوروبا
ويحاول ماكرون جاهداً ملء الفراغ الذي تركته بريطانيا، بسبب تراجع الولايات المتحدة في ظلِّ إدارة ترامب، وفي غفوةٍ من القيادة الألمانية لميركل. وفي مايو/أيَّار الماضي، طغى ماكرون على ميركل، بعد عقودٍ من المقاومة الألمانية لمثل هذه السياسات، وتبنَّى مقترحاتٍ فرنسية مع أزمة فيروس كورونا المُستجَد بإصدار مئات المليارات من اليوروهات من ديون الاتحاد الأوروبي، وهو تغييرٌ أشاد به الزعيم الفرنسي باعتباره تاريخياً.
ويكتسب الضغط المستوحى من فرنسا لفرض ضرائب على عمالقة التكنولوجيا وتنظيم منصاتهم زخماً. وفي النسخة الخاصة بالقرن الحادي والعشرين من معركة ديغول في ستينيات القرن الماضي مع "الإمبريالية الثقافية" الأمريكية، جَعَلَ ماكرون نفسه نصيراً لـ"مقاومة شرور وسائل التواصل الاجتماعي التي تديرها الاحتكارات الرأسمالية الأمريكية". وفي جلسةٍ مطوَّلة مع الأكاديميين في المجلس الأطلسي هذا الشهر، ألقى باللوم على هذه الوسائل في إثارة "العنف والكراهية وكراهية الأجانب التي عادت إلى مجتمعاتنا".
وأضاف: "من الصعب للغاية أن يشعر الكثير من الناس أن هذا العنف أمرٌ مشروع، قناعتي العميقة هي أن الشبكات الاجتماعية تمثِّل بالتأكيد جزءاً من جذور هذا التغيُّر، والذي يُعَدُّ مرةً أخرى تغييراً أنثروبولوجياً".
وتابع قائلاً إنه من غير المقبول أن تمتلك الشركات الخاصة التي "ساعدت الرئيس ترامب" على نشر خطابه سلطةً غير مُقيَّدة لمنعه من الإدلاء بما يريد. ويقف مصير الديمقراطية في نظره على المحك، ويجب أن يخضع عمالقة الإنترنت للتنظيم. وقال: "هذا الحكم الجديد يجب أن يكون ديمقراطياً ويُناقَش بين قادتنا"، بحسب تعبيره.
لكن عراقيل عديدة لا تزال تواجه خطة ماكرون وطموحاته
لا يزال ماكرون يسعى إلى فوز نادر بفترة رئاسية ثانية العام المقبل، في الوقت الذي يواجه فيه حالة من الغضب الداخلي بسبب سياساته الاقتصادية واتهامه بالفشل في التعامل مع جائحة كورونا. وتقول صحيفة "التايمز" في تقرير لها الشهر الماضي، إن البداية السيئة لعام 2021 تمثل مزيداً من العقبات للتحدي الضخم الذي يواجهه ماكرون. إذ بدأت فرنسا حملة التطعيم ضد وباء كورونا في نفس اليوم الذي بدأت فيه ألمانيا، وبعد مرور 10 أيام كانت ألمانيا قد أعطت اللقاح لـ239 ألفاً من مواطنيها، بينما تلقى 500 مواطن فرنسي فقط اللقاح في نفس الفترة، وهو ما تسبب في حالة من الغضب الشديد تجاه الحكومة الفرنسية، أضيف إلى عوامل الغضب الأخرى الكثيرة والمتنوعة خلال السنوات القليلة الماضية.
وإضافة إلى تلك البداية السيئة وما سبقها من محطات أخرى للفشل، من المُحتَمَل أن تتعرض طموحات ماكرون للفوز للعرقلة من جانب مراوغتين ميَّزتا الانتخابات منذ تصميم النظام الرئاسي للجنرال ديغول عام 1958. إذ كانت إعادة انتخاب ديغول عام 1956، وهي المرة الأولى التي صوَّتَت فيها فرنسا مباشرةً لقائدها، آخر مرة أُعيدَ فيها انتخاب رئيس في منصبه أثناء إدارة البلاد.
ومنذ ذلك الحين، طَرَدَ الفرنسيون حكَّامهم جميعاً باستثناء مرتين كان فيهما الحاكم في المقعد الخلفي، بينما كان رؤساء الوزراء من المعارضة يديرون البلاد بعد أن حازوا السلطة في البرلمان في منتصف المدة.
وفاز ماكرون بالرئاسة الفرنسية في عام 2017، وهو موظَّف حكومي شاب ومصرفي لديه خبرة في السياسة الانتخابية. ومع بداية العام الأخير من فترته الرئاسية، يهدف إلى خوض الصعاب مرةً أخرى طامحاً لأن يكون أحد الرؤساء الفرنسيين النادر فوزهم بفترةٍ رئاسيةٍ ثانية، ورغم التآكل الشديد لشعبيته الآن.
وتبدو العقبات أما ماكرون هائلة. وظهرت خيبة الأمل سريعاً في أعقاب حملة ماكرون المستقلة بعد أن قضى عامين في منصب وزير الاقتصاد في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند. إذ جاءت إضرابات شلَّت القطاع العام ضد إصلاحاته في عام 2019 بعد شتاءٍ طويل من احتجاجات السترات الصفراء. وبعد عام، أوقف فيروس كورونا المُستجَد مساعيه للتحديث وأثار غضباً شعبياً بشأن تعامل حكومته مع الجائحة.
وفي الوقت الحالي، توقَّفَت حملة الإصلاح بينما ركَّزَ الرئيس على تخفيف الضربات الاقتصادية بنحو 200 مليار يورو من الإنفاق العام على الشركات المُتعثِّرة ودعم الدخل.
وأثناء الحملة على ما يصفه ماكرون "بالإسلام المُتطرِّف" في أعقاب الهجمات الدامية في الخريف الماضي، كان يحاول الحفاظ على قدمه في المعسكر اليساري المعتدل، لكنه يعاني من فشلٍ في تحويل "الجمهورية إلى الأمام" من نادٍ للمعجَبين إلى حزبٍ حقيقي. ولقد انشقَّ العديد من النواب بعد أن جاء الحزب من العدم ليفوز بأغلبيةٍ مُطلَقة في الجمعية الوطنية ويُمحَى تماماً على المستوى المحلي المهم للغاية.
ويرى بعض المراقبين أن ماكرون ربما لا يكون قادراً على استمالة اليمين رغم انحيازه لذلك التيار بشكل واضح بعد وصوله للرئاسة، وبذلك يكون قد فقد التيارين الرئيسيين معاً. ومع ذلك، تظل لدى ماكرون فرصة للفوز بفترة ثانية في ظل غياب خصومٍ معقولين، باستثناء لوبان. ولا تزال زعيمة اليمين المتطرِّف تحظى بفرصٍ ضئيلة لأن أغلبيةً قوية ترفض شعبويتها المتطرِّفة.