انطلقت محاكمة الرئيس السابق دونالد ترامب في مجلس الشيوخ بعد فشل الجمهوريين في إنهائها قبل أن تبدأ بدعوى عدم دستوريتها، وجاءت البداية غير متوقعة، مما أصاب ترامب بالتوتر الشديد، فهل توتره مبرر رغم أن إدانته غير مرجحة؟
الرئيس السابق يحاكَم بتهمة "التحريض على العصيان"، بسبب اقتحام أنصاره للكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني الماضي، تلبية لدعوته وكان لا يزال في منصبه، مما أدى إلى سقوط 5 قتلى وتعطيل جلسة التصديق على فوز الرئيس الحالي جو بايدن في الانتخابات التي زعم ترامب وأنصاره تزويرها، دون دليل.
وكان مجلس النواب قد صوَّت بالفعل على لائحة الاتهام الموجه إلى ترامب، بأغلبية ضمَّت جميع النواب الديمقراطيين إضافة إلى 10 نواب جمهوريين، وبالتالي جاء دور الخطوة الثانية المتمثلة في إجراء المحاكمة بالفعل في مجلس الشيوخ، وهي المحاكمة التي بدأت بالفعل الثلاثاء 9 فبراير/شباط، وهو اليوم الذي شهد أحداثاً مثيرة أصابت ترامب بالقلق، بحسب مصادر مقربة منه.
وقبل التطرق إلى أسباب توتر ترامب، من المهم التوقف عند الحقائق الثابتة في محاكمة ترامب. أولى هذه الحقائق أن المحاكمة تسمى "محاكمة العزل"، بمعنى أن الإدانة فيها عقوبتها العزل من المنصب، فإذا كان ترامب قد غادر منصبه بالفعل وأصبح رئيساً سابقاً، فالمحاكمة في مجلس الشيوخ لا تعتبر ذات معنى أو يراها البعض غير دستورية من الأساس.
تصويت مُشرّعين جمهوريين ضد ترامب
حاول الجمهوريون في مجلس الشيوخ، المكون من 100 عضو يمثلون هيئة المحلفين في محاكمة الرئيس السابق (نصفهم جمهوري والنصف الآخر ديمقراطي)، أن يُنهوا محاكمة ترامب قبل أن تبدأ، عن طريق تقديم مشروع قرار بعدم دستورية المحاكمة، على أساس أن ترامب الآن أصبح مواطناً أمريكياً لا يحمل منصب رسمي.
لكن مجلس الشيوخ، وهو الغرفة العليا في الكونغرس، أيد إجراء المحاكمة بأغلبية 56 مقابل رفض 44 آخرين، بعد أن صوَّت 6 أعضاء جمهوريين لصالح دستورية محاكمة ترامب، إضافة إلى جميع الأعضاء الديمقراطيين.
والمؤكد أن ترامب شعر بالغضب الشديد من الأعضاء الستة وعلى الأرجح أصبحوا في خانة الأعداء بالنسبة له، لكن لا يُفترض أن يصيبه ذلك بالقلق من نتيجة المحاكمة النهائية، لسبب بسيط وهو أن قرار الإدانة يحتاج أغلبية الثلثين، أي حتمية تصويت 17 عضواً جمهورياً زائد الأعضاء الخمسين الديمقراطيين، وهو ما يبدو أمراً مستبعداً إن لم يكن شبه مستحيل، فلماذا شعر ترامب بالتوتر لدرجة الصراخ، أثناء سير اليوم الأول من المحاكمة؟
أداء متميز للادعاء وكارثي لمحامي ترامب
وكما كان متوقعاً، شهد اليوم الأول للمحاكمة تقديم ممثلي الادعاء الذين هم أعضاء ديمقراطيون في مجلس النواب، يتزعمهم جيمي راسكين، المرافعة الافتتاحية للقضية. وجاءت تلك المرافعة "ممتازة" من الناحية القانونية وملهبة للمشاعر من الناحية الإنسانية.
فقد تناول راسكين التهمة الموجهة إلى ترامب وهي "التحريض على العصيان" بالأدلة، وما أكثرها في اقتحام الكونغرس! فترامب دعا أنصار إلى التجمع في ذلك اليوم بالتحديد، لأنه يشهد اجتماع أعضاء الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ وبرئاسة نائبه مايك بنس للتصديق على نتيجة الانتخابات، وكانت دعوة ترامب لأنصاره من خلال حسابه على تويتر يوم 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي قبل الواقعة بأكثر من أسبوعين.
ثم تطرق ممثل الادعاء إلى خطاب ترامب أمام أنصاره في ذلك اليوم، مركزاً على دعوته إياهم إلى التوجه لمبنى الكونغرس و"المحاربة من أجل استرداد بلدهم"، على أساس مزاعمه بأنه الفائز في الانتخابات وأنه قد تم تزويرها وسرقة انتصاره لصالح بايدن، ثم أصبحت اللهجة التي استخدمها راسكين وزملاؤه عاطفية للغاية عند وصف ساعات الرعب التي عاشوها بعد اقتحام أنصار ترامب مبنى الكابيتول وسعيهم للفتك بأعضاء الكونغرس.
وعلى النقيض تماماً، جاءت المرافعة الافتتاحية لفريق الدفاع عن ترامب، إذ قدَّم المحامي بروس كاستور مرافعة مفككة وركيكة وبدت بلا معنى أو هدف واضح أو نقطة ارتكاز قانونية محددة، لدرجة أن البعض وصفوا محامي ترامب بأنه بدا "كشخص مجنون" لا يفقه ما يقوله، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي.
ويبدو أن كاستور نفسه، في مرحلة ما من مرافعته الغريبة، قد أدرك أنه غير مُقنع لهيئة المحلفين ولا حتى نصفها الجمهوري، إذ قال: "سوف أكون صريحاً تماماً معكم. لقد غيَّرنا ما كنا قد اتفقنا على أن نفعله، بعد أن رأينا مرافعة أعضاء مجلس النواب (مديري الادعاء) وكيف أنها جيدة جداً".
وقد أثار ذلك الأداء المُخيب من فريق الدفاع عن ترامب انتقادات عنيفة حتى من جانب أقرب المقربين من ترامب نفسه، ومنهم ألان ديرشويتز الذي كان أحد أعضاء فريق الدفاع عن ترامب في محاكمته الأولى، إذ قال لقناة فوكس نيوز على الهواء أثناء مرافعة كاستور: "لا توجد مرافعة ولا فكرة لديّ عما يفعله أصلاً (كاستور)".
والموقف نفسه عبَّر عنه بايرون يورك المحلل السياسي الرئيسي في صحيفة واشنطن إكزامنر والكاتب اليميني المساند لترامب، إذ وصف مرافعة كاستور بأنها "مضيعة للوقت"، وهو نفس رأي فرانك لونتز، وهو يميني آخر يجري استطلاعات رأي، انتقد مرافعة كاستور شكلاً ومضموناً.
ترامب "يصرخ" من التوتر
الأداء الكارثي لكاستور أغضب ترامب وهو يشاهد محاكمته عبر التلفزيون، بحسب ما نقلته شبكة CNN الأمريكية، ووصل الأمر لدرجة الصراخ من جانب الرئيس السابق وهو يتساءل عما يفعله كاستور، وتغيّر المزاج العام قليلاً إلى الأفضل بعد أن أعطى كاستور الكلمة لزميله دافيد شوين، إذ ركز شوين على عدم دستورية المحاكمة في مجلس الشيوخ بعد أن انتهت رئاسة ترامب وغادر منصبه بالفعل، كما عبَّرت السيناتورة الجمهورية ليزا موركوفسكي عن "صدمتها" من أداء المحامي، وقالت: "لم أفهم إلى أين يريد الوصول".
لكن في النهاية لا يواجه ترامب خطراً حقيقياً من أن تتم إدانته، فالمحاكمة في مجلس الشيوخ سياسية وتخضع نتيجتها أو الحُكم فيها لتصويت الأعضاء بغض النظر عن مدى توافر الأدلة الداعمة للاتهام أو مدى ضعف فريق الدفاع عن ترامب، والذي يراه البعض أمراً طبيعياً في ظل الفوضى التي شهدها تشكيل الفريق والانسحابات المتكررة منه وانضمام كاستور وشوين في آخر لحظة.
وفي ظل انقسام مجلس الشيوخ بالتساوي بين الديمقراطيين الساعين لإدانة ترامب وحرمانه من الترشح للرئاسة مرة أخرى، والجمهوريين الذين لا يزال أغلبهم يدعم ترامب سواء اقتناعاً بأهميته للحزب أو خوفاً من انتقامه منهم، تعتبر إدانة ترامب أمراً مستبعداً تماماً، بحسب مجريات الأمور.
لكن ترامب يشعر بالقلق من احتمال تعرُّضه لمحاكمة جنائية وألا يجد فريق دفاع قوياً يقبل الترافع عنه أو تولي القضية، بحسب ما قاله أحد مستشاريه لشبكة CNN: "ترامب مَقضيُّ عليه لو توجَّه أي شخص باتهام جنائي ضده. لا أحد (من المحامين) يريد أن يعمل معه".
والخلاصة هنا أن ترامب، الذي أصبح الرئيس الوحيد الذي يتعرض لمحاكمة العزل مرتين خلال فترة رئاسته الوحيدة، سيظل عرضة للاتهامات والمحاكمات على الأرجح، حتى بعد أن تنتهي محاكمته الثانية التي من المتوقع ألا تستمر طويلاً، إذ يتوقع البعض أن تنتهي خلال أيام أو أسبوع على الأكثر.