قبل عامين فقط، كان القيادي منصور عباس سياسياً مبتدئاً وطبيب أسنان ذا خلفية إسلامية، يلتمس سبيلاً لنفسه في غمار انتخابات الكنيست الإسرائيلي المليئة بالصراعات. أما الآن، وبعد ثلاث انتخابات لم تُسفر عن استقرار أو اختيار حاسم لرئيس الوزراء فقد بات عباس أحد المخضرمين في حالة الفوضى السياسية التي اجتاحت البلاد، وهو يسعى في خضمها إلى خلق فرصة لحزبه (الحركة الإسلامية الجنوبية)، المنضوية تحت "القائمة المشتركة" العربية التي يتزعمها عباس، لامتلاك نفوذ في الكنيست مع انهيار التحالفات التقليدية.
ويعتبر عباس أحد أبرز قيادات "الحركة الإسلامية الجنوبية"، التي انشقت عام 1995 عن الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني المحتل -المحظورة الآن- التي يقودها الشيخ رائد صلاح. وترى الحركة الإسلامية الجنوبية -التي يحظى فيها عباس بمنصب نائب الرئيس- في الكنيست "أداةً واقعيّةً وإضافيّةً لخدمة المجتمع الفلسطيني في الداخل، بعد اتفاق أوسلو ويجب الانخراط فيه"، وذلك على عكس حركة رائد صلاح "الحركة الشماليّة"، التي ترفض أن يكون الكنيست منصةَ ممارسةٍ سياسيٍّة للفلسطينيين في داخل أراضي الـ48.
والحال الآن، أنه إذا قُدِّر لمناورة عباس أن تحقق أهدافها في انتخابات مارس/آذار القادم، وهي الانتخابات الرابعة خلال عامين في إسرائيل، فإن ذلك سيكون بمثابة تحولٍ تاريخي: أن يصبح لحزب إسلامي عربي، لا يمكن تجاهله في انتخابات ومستقبل "الدولة اليهودية" التي يراها اليمين الإسرائيلي.
كيف استطاع منصور عباس الوصول إلى هذه المرحلة؟
يقول تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية، إن جولات الانتخابات المتتالية، كانت قد أعادت تشكيل المشهد السياسي الإسرائيلي، وصنعت على نحو غير متوقع مساحةً لعباس لكي يكون له نوعٌ من النفوذ. فقد انهار حزب أزرق أبيض، وهو تحالف لقوى يمين الوسط بلغت شعبيته لفترة وجيزة شعبيةَ حزب الليكود الحاكم، وتحطمت قوى اليسار، وانقسمت قوى اليمن على نفسها مع ظهور منافسين لدودين لتحدي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
من ثم، وفي خضم حالة التشويش التي تعيشها كل القوى، باستثناء نتنياهو، يمكن لعباس الذي يمتلك حزبه عدداً قليلاً من المقاعد في البرلمان المؤلف من 120 مقعداً، أن يصبح "صانع ملوك" بحسب وصف فاينانشيال تايمز، أو على الأقل طرفاً يتمتع بنفوذٍ قوي على الحسم بين أولئك الذين يريدون نتنياهو رئيساً للوزراء، وأولئك الذين تعهدوا بإخراجه من السلطة وإعادته نائباً في الكنيست لكي يواجه التهم الموجهة إليه بالفساد.
من جانبه، قال عباس البالغ من العمر 46 عاماً في مقابلةٍ أُجريت معه الشهر الماضي في مكتبه الواقع في شمال فلسطين المحتلة، وفي منطقة يهيمن عليها السكان العرب: "لا نريد البقاء على هامش الهوامش".
ودفاعاً عن وجهة نظره، قال: "هذا التحفّز الشخصي ضد نتنياهو، أو لصالحه، هو لعبة محصلتها صفر، لكني إذا انخرطت ببساطة في مسألة السياسات، يمكن لي أن أحدث تغييراً".
تظهر استطلاعات الرأي أن نسب التأييد لحزب "راعم" بالعبرية أو (القائمة العربية الموحدة) التي تتضمن مرشحين إسلاميين كعباس، من المرجح أن تمنح الحزب نحو 4 مقاعد برلمانية. وقد جاءت نتائج الانتخابات الثلاثة الأخيرة بفوارق مقاعد قليلة بين المعسكر المؤيد لنتنياهو والمناهض له.
من الجدير بالذكر أن الأحزاب العربية في إسرائيل، والتي غالباً ما عملت تحت مظلة واحدة تُعرف باسم "القائمة المشتركة"، لطالما عرّفت نفسها تقليدياً على أنها قوى معارضة أبدية. غير أن القائمة المشتركة، التي تمثل تحالفاً غير مستقر يضم شيوعيين عرباً وقوميين وإسلاميين مثل عباس، قد تفككت بعد فوزها بخمسة عشر مقعداً في انتخابات مارس/آذار 2020. ويشكّل عرب إسرائيل نحو خمس الناخبين في البلاد، لكن نسب مشاركتهم أقل من نسب مشاركة اليهود في الانتخابات.
ما الاستراتيجية التي يتبناها منصور عباس للوصول إلى أهدافه في إسرائيل؟
ويتبنى عباس وحلفاؤه استراتيجية بادرت بها الجماعات اليهودية المتشددة والمتطرفة في الثمانينيات، وهي المجموعات التي سيطرت على مدى العقد الماضي على نتنياهو خلال دعم ائتلافه والتهديد بالانسحاب إذا لم يتم تلبية مطالبهم.
ويقول أريك رودنيتسكي، وهو خبير في دراسة اتجاهات تصويت ذوي الأصول العربية في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية للصحيفة البريطانية: "الحزب يود أن يقدم نفسه بوصفه حزباً عربياً مستعداً للتعاون مع أي حكومة".
وأضاف رودنيتسكي أنه عن طريق الموافقة على دعم حكومة أقلية من خارج الائتلاف، يمكن لعباس أن يستفيد بأصوات الناخبين العرب المحافظين، وربما بمزيد من التمويل لحملاته الرامية إلى الحماية من الشرطة أو إنشاء مستشفيات جديدة في المناطق التي يغلب عليها السكان العرب.
ويقول عباس عن ذلك: "أنا حقاً لا أرى الأمر إما أبيض وإما أسود، سواء أكنت جزءاً من ائتلاف حاكم أو كنت من المعارضة. فلكي يكون لنا دور مهم، علينا أن نتبنى الطريقة الثالثة، وهي أن نصبح في مكان ما بين هذه الخيارين، لا نكون ضمن تحالف تقليدي للحكم، وليس جزءاً من المعارضة التقليدية أيضاً".
هل يعمل عباس مع نتنياهو برغم عنصريته تجاه العرب؟
ومع ذلك، فإن حملات رئيس الوزراء نتنياهو العنصرية والمناهضة للعرب تجعل من المستبعد أن يتمكن من تشكيل حكومة تتطلب دعماً من زعيم عربي، وخاصة إذا كان إسلامياً. وهو ما ذهب إليه وزير الصحة، يولي إدلشتين، أحد حلفاء نتنياهو والليكود، الذي قال إن "حكومة بقيادة الليكود بدعمٍ من حزب راعم، لن تصمد لأسبوعٍ حتى. أنا فقط لا أعتقد أن هذا ممكن. لم يسبق أن تولى الحكم في إسرائيل حكومة قادمة من الأقليات قط، وإن كان هذا الاقتراح قائماً ويتسرب إلى النقاشات الآن".
بيد أن الفوضى السائدة بين الناخبين العرب قد أغرت نتنياهو، الذي قدَّم عرضاً إعلامياً واسع النطاق لهؤلاء الناخبين. وزار نتنياهو، مصطحباً معه كاميرات التلفزيون، مراكز التطعيم في المدن المأهولة بالسكان العرب، كما وعد بتشكيل لجنة خاصة للتعامل مع معدلات الجرائم المرتفعة في المدن العربية، مثل الناصرة، وحتى تعيين وزير عربي في حكومته.
وعلى إثر ذلك، أعلن نتنياهو اليميني لأول مرة، عن انضمام أول عربي مُسلم إلى حزب الليكود، بل وسيتم تعيينه وزيراً إذا فاز بحسب نتنياهو. ورحب رئيس الوزراء الإسرائيلي في 6 فبراير/شباط، بانضمام نائل الزعبي إلى حزب الليكود، وقال: "سوف أعين نائل الزعبي وزيراً لتقدم المجتمع العربي في حكومتي.. لقد فعلنا الكثير ولكن لا يزال لدينا الكثير لنفعله، وسنفعل ذلك معاً".
وتزامن إعلان نتنياهو مع انشقاق القائمة العربية الموحدة "راعام" من القائمة المشتركة، وهو تحالف يضم أحزاباً عربية حصد 15 مقعداً في الانتخابات الأخيرة في مارس/آذار 2020.
وتشير بعض استطلاعات الرأي إلى أن "الناخبين العرب يمكن أن يوفروا مقعدين على الأقل لحزب الليكود". وأظهر استطلاع آخر أن "ربع العرب الإسرائيليين على الأقل يعتقدون أنه من المفيد التعاون مع نتنياهو".
هل توصل براغماتية منصور عباس إلى مبتغاه؟
على هذا النحو، تبنّى عباس براغماتية رئيس الوزراء السياسية واستند إليها كدليل على أنه يمكن أن يتأثر باحتياجات الأقلية العربية وطلباتها. وقال: "يريد الآخرون القضاء على نتنياهو، في حين أتحدث أنا عن تغيير سياساته إلى ما هو جيد لقومي. وفي هذا الصدد، نحن مختلفون تماماً، هم يريدون استبدال نتنياهو، فيما أريد أنا تغيير سياسته تجاه قومنا".
ومع ذلك، فإن الحذر لا يغيب عن عباس. لقد استمر نتنياهو لمدة 30 عاماً في السياسة الإسرائيلية بقدرته التي لا تضاهى على خيانة حلفائه. وقال عباس إنه بالنظر إلى عدم معرفته بمستقبل نتنياهو، الذي لا يتوقف على نتيجة الانتخابات فحسب بل ومحاكمته الجارية بتهم الفساد، فإنه قام بتأمين نفسه ولم ينسَق دون حذر. وختم عباس كلامه لفاينانشيال تايمز بالقول: "إذا كان كل ما أريد فعله هو تغيير سياسة نتنياهو، فلماذا يطعنني؟ أنا لا أريد طعنة في الظهر ولا في الرقبة ولا في الصدر"، حسب تعبيره.