محاكمة دونالد ترامب ليست المرة الأولى، لكنها مختلفة لعدة أسباب تجعلها تاريخية وذات تأثير مباشر على الأوضاع السياسية في أمريكا، فهو الآن رئيس سابق متهم بالتحريض على اقتحام الكونغرس، فما المختلف هذه المرة؟
تبدأ محاكمة الرئيس السابق في مجلس الشيوخ الثلاثاء 9 فبراير/شباط، والتهمة الموجهة له هي "التحريض على التمرد" بسبب أحداث اقتحام أنصاره لمبنى الكونغرس يوم الأربعاء 6 يناير/كانون الثاني الماضي بغرض تعطيل جلسة التصديق على فوز الرئيس الحالي جو بايدن، مما أدى لمقتل خمسة أشخاص وإصابة عشرات آخرين.
الخطوة الأولى في تلك المحاكمة تمت من خلال مجلس النواب، حيث صوت أعضاء المجلس الديمقراطيون جميعاً إضافة إلى 10 أعضاء جمهوريين بـ"نعم" لتوجيه الاتهام للرئيس الجمهوري، وتزامنت تلك الخطوة مع الذكرى الأسبوعية لاقتحام الكونغرس ووقتها كان ترامب لا يزال في منصبه.
ومع مغادرة ترامب البيت الأبيض يوم 20 يناير/كانون الثاني في أعقاب انتهاء فترته الرئاسية وتنصيب بايدن رسمياً، سعى الحزب الجمهوري المنقسم على نفسه بسبب ترامب إلى إنهاء محاكمته على أساس أن الغرض الرئيسي من المحاكمة هو عزله من منصبه، وبالتالي لم يعُد هناك مبرر بعد أن غادر منصبه بالفعل.
لكن المشرعين الديمقراطيين ومعهم عدد قليل من الجمهوريين جادلوا بأن ما حدث من اقتحام للكونغرس هو محاولة انقلاب على الديمقراطية تسببت في إحراج وإهانة للقوة العظمى المدافعة عن الديمقراطية حول العالم، وبالتالي لا يمكن أن يفلت ترامب من العقاب حتى لا تتكرر مثل تلك الأحداث مرة أخرى من ناحية وحتى يمكن منعه من الترشح مرة أخرى لأي منصب فيدرالي، خصوصاً أنه أعلن عن نيته الترشح لانتخابات الرئاسة عام 2024 بالفعل.
لكن كان هناك سبب آخر دفع الديمقراطيين للشروع سريعاً في محاكمة عزل ترامب في تلك الأيام الأخيرة من رئاسته وهو القلق الذي انتاب الجميع مما قد يقدم عليه الرئيس الصاخب في أيامه الأخيرة حيث كان لا يزال متمتعاً بصلاحياته كاملة، وهو ما حدث بالفعل حيث اتخذ قرارات جدلية بالعفو عن مدانين بجرائم حرب في العراق ومدانين بالتهرب الضريبي والاحتيال وغيرهم، مما جعل البعض يتهمه بأنه شوه سلطة العفو الرئاسي وحولها إلى "بيزنس".
وعلى الرغم من أن ترامب تعرض بالفعل لمحاكمة العزل وأدين في مجلس النواب وتمت تبرئته في مجلس الشيوخ بسبب "فضيحة أوكرانيا" (محاولة الضغط من جانبه على الرئيس الأوكراني لفتح تحقيق بشأن هانتر بايدن ابن جو بايدن في مزاعم فساد أثناء تولي بايدن الأب منصب نائب الرئيس)، إلا أن هناك اختلافات جوهرية في محاكمة ترامب هذه المرة، وهذه أبرزها:
الأغلبية في الكونغرس هذه المرة ديمقراطية
في محاكمة عزل ترامب السابقة، كان هو يشغل منصبه كرئيس للبلاد وكان الحزب الجمهوري بزعامة ميتش ماكونيل يتمتع بالأغلبية في مجلس الشيوخ، بينما يتمتع الديمقراطيون برئاسة نانسي بيلوسي بالأغلبية في مجلس النواب، وهو ما أدى لإدانته في الخطوة الأولى وتوجيه الاتهام له بالفعل في فضيحة أوكرانيا ومن ثم تولي مجلس الشيوخ محاكمته وتبرئته بشكل سريع.
أما هذه المرة فترامب رئيس سابق وهو ما يجعل رئاسة المحاكمة يتولاها العضو الأقدم في مجلس الشيوخ وليس رئيس قضاة المحكمة العليا القاضي جون روبرتس كما حدث في المرة الأولى، وبالتالي سيكون السيناتور الديمقراطي باتريك ليهي (80 عاماً) هو رئيس المحكمة. ونقطة الاختلاف الثانية هنا هي أن الحزب الجمهوري قد فقد الأغلبية في مجلس الشيوخ لصالح الديمقراطيين.
مجلس الشيوخ حالياً منقسم بالتساوي بين الحزبين بوجود 50 عضواً من كل فريق، لكن نائبة الرئيس الحالية كامالا هاريس هي الصوت المرجح وبالتالي يتمتع الديمقراطيون بالأغلبية البسيطة. وعلى الرغم من أن إدانة ترامب تتطلب موافقة أغلبية الثلثين، أي حتمية انضمام 17 سيناتوراً جمهورياً للديمقراطيين عند التصويت النهائي وهو أمر يبدو مستبعداً تماماً، إلا أن تمتع الديمقراطيين بالأغلبية البسيطة يجعلهم متحكمين في كل ما يتعلق بإجراءات المحاكمة وخصوصاً مسألة استدعاء الشهود.
في محاكمة ترامب الأولى أدى تمتع الجمهوريين بالأغلبية في مجلس الشيوخ إلى رفض استدعاء الشهود وتسريع وتيرة المحاكمة التي استغرقت 3 أسابيع استهلكت بالكامل تقريباً في مسألة استدعاء الشهود وحدها، وفي النهاية نفذ زعيم الأغلبية وقتها ماكونيل ما أراده الجمهوريون وترامب وطلب التصويت مباشرة على القرار النهائي وبالتالي تبرئة ترامب، وهو ما جعل الديمقراطيين وقتها يصفون المحاكمة "بالمهزلة الشكلية".
أما هذه المرة فيمكن للديمقراطيين أن يستدعوا شهوداً خارجيين إذا ما أرادوا ذلك، وإن كانت طبيعة التهمة الموجهة لترامب هذه المرة مختلفة تماماً عن تهمته في محاكمة العزل الأولى، وهذا هو الاختلاف الثاني.
لكن رغم ذلك قد يختار الديمقراطيون عدم استدعاء شهود خارجيين هذه المرة، عكس موقفهم في المرة الأولى، وهذا ما عبر عنه السيناتور الديمقراطي ريتشارد بلومنثال بقوله إن ترامب هذه المرة يحاكم بتهمة "ارتكاب جريمة علنية. ولم تكُن نيته مخفية أو سرية، لذلك أعتقد أنه يوجد خطر كما هو حال المحكمات إذا ما سعى محامي الاتهام المبالغة في توضيح الواضح أصلاً من خلال استدعاء شهود ليؤكدوا ما شاهدناه جميعاً"، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية.
تهمته هذه المرة مختلفة في طبيعتها
كان ترامب متهماً في المرة الأولى بتهمتين هما استغلال منصبه لتحقيق مصالح شخصية وعرقلة الكونغرس عن أداء مهامه، وأراد الديمقراطيون استدعاء الشهود وأبرزهم كان جون بولتون مستشار الأمن القومي الذي أقاله ترامب من منصبه وغيره من المسؤولين الآخرين المطلعين على مكالمات ترامب مع الرئيس الأوكراني، لكن تصدي الجمهوريين لذلك وفشلهم فيه أنقذ ترامب من الإحراج الذي كان يمكن أن تسببه أقوال الشهود حتى وإن لم يؤدِّ ذلك لإدانته، وأيضاً أنقذ المشرعين الجمهوريين أنفسهم من فقدان شعبيتهم على أساس مساندتهم لترامب.
لكن عدم مثول الشهود أمام مجلس الشيوخ أثناء المحاكمة جعل الأمور، من منظور الرأي العام، مجرد سجال سياسي يسعى خلاله الديمقراطيون لتشويه صورة ترامب، بحسب دفاعه عن نفسه ودفاع الجمهوريين عنه.
لكن هذه المرة ترامب متهم "بالتحريض على العصيان" في أحداث اقتحام أنصاره للكونغرس، والشهود هم أنفسهم المشرعون سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين، حيث كانوا هم المستهدفين بذلك الهجوم العنيف، وكانت شهادات البعض منهم أمام مجلس النواب خير دليل على مدى الرعب الذي عانوه هم أنفسهم.
"لو قدم الديمقراطيون مقاطع الفيديو من اقتحام الكونغرس (أثناء المحاكمة في مجلس الشيوخ)، سوف يكون ذلك أمراً لم تشهده أي محاكمة في مجلس الشيوخ من قبل"، بحسب ما قاله تشارلي سايكس مؤسس موقع Bulwark لصحيفة الغارديان البريطانية، مضيفاً: "سوف يكون ذلك رواية مرعبة للتحضير للهجوم وللهجوم نفسه وللعنف وحجم التهديد وكلها أمور من الصعب جداً التقليل منها، خصوصاً أن جميع أعضاء مجلس الشيوخ كانوا شهوداً وضحايا بصورة أو بأخرى لما حدث".
وهذا ما يجعل سايكس وغيره من المحللين يعتقدون أن محاكمة ترامب هذه المرة سوف تكون أقوى بكثير مما يتوقعها البعض، حتى وإن كان الحكم معروفاً سلفاً في ظل كونها محاكمة سياسية ستنتهي بتبرئة ترامب في النهاية بسبب نفوذه داخل الحزب الجمهوري وخوف المشرعين من انتقامه منهم.
ترامب "المعزول".. كيف يدافع عن نفسه؟
لكن ربما يكون الاختلاف الأبرز في محاكمة ترامب هذه المرة عن محاكمته السابقة عندما كان رئيساً يتمثل في العزلة الإعلامية التامة التي يعاني منها الرجل المحب للأضواء والشهرة والذي كان نجم تليفزيون الواقع أغلب سنوات عمره.
ففي محاكمته السابقة كان الرئيس ترامب وقتها أكثر شخص في العالم له متابعون على منصة تويتر وكان طوال وقت محاكمته يغرد إما ساخراً من الاتهامات الموجهة له وإما متوعداً من يحاكمونه وإما متغزلاً في إنجازاته كرئيس تاريخي للولايات المتحدة، وكانت تغريداته تحظى بعشرات الملايين من المتابعين والمعلقين داخل أمريكا وخارجها، وكانت تلك التغريدات تصنع الأخبار.
لكن هذه المرة تجري محاكمة الرئيس السابق وسط حظر تام له من منصات التواصل الاجتماعي وتجاهل من وسائل الإعلام التقليدية، بسبب مزاعمه بشأن تزوير الانتخابات الأمريكية التي خسرها وهي المزاعم التي فشل فريقه القانوني في إثباتها أمام أكثر من 60 محكمة أمريكية بدرجاتها المختلفة وصولاً إلى المحكمة العليا التي يتمتع المحافظون- أي التيار الداعم لترامب- فيها بأغلبية ساحقة.
وهنا يأتي اختلاف آخر هام بشأن محاكمته هذه المرة يتعلق بفريقه القانوني الذي سيتولى مهمة الدفاع عنه وهو الفريق الذي انسحب أغلبه واستعان ترامب بوجوه جديدة لم تتولَّ الدفاع عنه من قبل، وسبب هذا الارتباك في فريق الدفاع عن ترامب هو إصراره على أن تركز استراتيجية الدفاع عنه على مزاعم تزوير الانتخابات وأن ذلك هو السبب في اقتحام أنصاره لمبنى الكونغرس.
وعلق مايكل ستيل الرئيس السابق للجنة القومية للحزب الجمهوري على تلك الاستراتيجية بقوله إن ذلك سيكون بمثابة تسجيل فريق الدفاع عن ترامب "لهدف في مرماه"، لأن مزاعم تزوير الانتخابات رفضتها أكثر من 60 محكمة أمريكية، وبالتالي أن يأتي المدافعون عنه ويقولون إن لديهم أدلة تثبت ذلك التزوير سيعرضهم للسخرية ويجعل موقف المشرعين الجمهوريين صعباً للغاية في الانتخابات القادمة إذا ما رفضوا إدانة ترامب.