تايوان ومنطقة الهيمالايا على الحدود مع الهند وبحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي تمثل نقاطاً ساخنة قد تشعل المواجهة بين الصين وأمريكا، فماذا يقول كل منهما بشأن حديث الحرب؟
وحتى يتضح مدى خطورة الموقف بين بكين وواشنطن الآن على الرغم من تغيير الإدارة الأمريكية وتولي جو بايدن الرئاسة ورحيل دونالد ترامب الذي شهدت معظم رئاسته -خصوصاً في نهايتها- وصول العلاقات بين الصين والولايات المتحدة إلى أدنى مستوياتها، نجد أن وزير خارجية بايدن قد لخص الموقف دون مواربة.
أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، قال في أثناء جلسة تصديق مجلس الشيوخ على ترشيحه للمنصب قبل أقل من أسبوعين: "الرئيس ترامب كان على حق في موقفه الأكثر صرامة من الصين". وهذه تقريباً هي النقطة الوحيدة التي شهدت اتفاقاً في الرؤى بين إدارة ترامب وإدارة بايدن.
رئاسة ترامب والحرب التجارية
وصلت العلاقات بين بكين وواشنطن لأدنى مستوياتها بين البلدين قبل عقود، خلال رئاسة دونالد ترامب، لكن ذلك التدهور في العلاقات لم يحمل الطابع العسكري في أغلب الأحيان؛ بل تركَّز على الجوانب الاقتصادية والتجارية ووصل إلى "الحرب التجارية" التي تمثلت في فرض الإدارة الأمريكية رسوماً جمركية على البضائع الصينية وردّ بكين بالمثل.
وتدهورت العلاقات أكثر خلال العام الماضي، بسبب جائحة فيروس كورونا وإصرار ترامب على تسميته "الفيروس الصيني"، ومع ظهور المؤشرات على هزيمة ترامب بالانتخابات الأمريكية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بدا أن ذلك التدهور في العلاقات بين بكين وواشنطن في طريقه للتوقف وأن الأمور في طريقها إلى أن تشهد تحسناً تدريجياً بتلك العلاقات، خصوصاً مع النهج التعاوني على مستوى السياسة الخارجية الذي أعلنت إدارة بايدن أنها ستتبناه.
لكن سرعان ما اتضح أن العلاقات بين الصين وأمريكا قد دخلت منعطف الحرب الباردة بالفعل وأنه لا مجال الآن لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ومن المهم هنا تشريح طبيعة تلك العلاقات للتوقف عند أسباب وصولها الآن إلى هذا المنعطف الساخن، الذي يرى كثير من المراقبين أنه قد يكون أشد خطورة على السلام العالمي من فترة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
تاريخ معقد بين الصين وأمريكا
عندما أعلن ماو تسي تونغ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في الأول من أكتوبر/تشرين الأول عام 1949، بعد هزيمته لقوات الحكومة القومية في بكين وفرار القوات المهزومة وزعيمها تشانغ كاي تشيك إلى تايوان، لم تعترف واشنطن بجمهورية الصين الشعبية ودعمت حكومة تايوان وهو ما جعل العلاقات بين الصين الشعبية والولايات المتحدة شبه مقطوعة وتتسم بالعداء التام. ومع اندلاع الحرب في شبه الجزيرة الكورية بين الشمال المدعوم سوفييتياً والجنوب المدعوم أمريكياً، اتخذت الصين موقفاً داعماً للشمال.
وفي أغسطس/آب 1954، وقعت أزمة مضيق تايون الأولى عندما سمحت واشنطن لقوات تايوان بأن تنتشر في بعض الجزر بالمضيق وقصفت الصين تلك القوات، فهددت واشنطن برئاسة دوايت أيزنهاور، وقتها، بضرب الصين بالقنبلة النووية، وجلس الجانبان إلى طاولة المفاوضات وتم الاتفاق على انسحاب قوات تايوان من الجزر، وهو ما اعتبرته بكين انتصاراً لها.
وبعد ذلك بعقد من الزمان، أي عام 1964، أجرت الصين تفجيرها النووي الأول وانضمت بذلك إلى نادي الدول النووية، ثم وقعت مناوشات حدودية بين الصين والاتحاد السوفييتي وظهر العداء الأيديولوجي بين موسكو وبكين، ومنذ ذلك الوقت بدأت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين تأخذ منحنى مختلفاً وأقل عدائية بعد أن أصبح الاتحاد السوفييتي يمثل العدو الأول للمعسكر الغربي بقيادة واشنطن.
وفي أبريل/نيسان 1971، تلقى فريق تنس الطاولة (بنغ بونغ) الأمريكي دعوة من نظيره الصيني لإقامة مباريات استعراضية ودية، وكانت تلك أول مرة يُسمح فيها للأمريكيين بزيارة بكين منذ عام 1949، وهو ما عُرف وقتها باسم دبلوماسية البنغ بونغ. وبعدها بثلاثة أشهر قام وزير خارجية أمريكا وقتها، هنري كيسنجر، بزيارة سرية لبكين، كانت تمهيداً لاعتراف الأمم المتحدة بالصين الشعبية ومنحها مقعداً دائماً في مجلس الأمن الدولي.
ومنذ ذلك الوقت تقريباً حتى جاء ترامب إلى البيت الأبيض، كانت الصين كدولة تعمل في إطار سياسة خارجية تتسم بالهدوء التام وعدم التدخل في أي شأن دولي أو مشكلة، إذ ركزت القيادة الصينية على بناء الداخل، خصوصاً من الناحية الاقتصادية، وكان يتم التعامل معها على أنها إحدى الدول النامية، وكانت بكين بدورها تتمتع بامتيازات هذا الوضع ولا تبدي أي بادرة على التنافس أو الصراع مع أمريكا أو غيرها.
ومع انطلاق أفكار العولمة وتأسيس اتفاقية التجارة الحرة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي أواخر ثمانينيات القرن الماضي وانفراد واشنطن بزعامة العالم كقطب أوحد، واصلت الصين سياستها الخارجية الصامتة مع مواصلة بناء قوتها الاقتصادية والعسكرية داخلياً دون أن تثير جدلاً أو قلقاً كبيراً حول وضعها كقوة عظمى على المسرح السياسي الدولي.
جائحة كورونا نقطة فارقة في تاريخ الصين
لكن العقد الأخير من القرن الحالي شهد تغيراً لافتاً في وضع الصين على خريطة القوى العالمية، إذ لم تعد حصانَ الجرِّ الهادئ للاقتصاد العالمي فقط، بل بات الغرب يعترف بأن الصين الآن هي المنافس العالمي الرئيسي للولايات المتحدة وحلفائها.
وهذا ما عبَّر عنه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبيرغ، العام الماضي، عندما قال إن الصين "تقترب (منا) في الفضاء السيبراني، ونراهم بالقطب الشمالي، وفي إفريقيا، ونراهم يستثمرون في بنيتنا التحتية الأساسية". وكانت تلك هي نهاية ذلك الزمن الذي كانت فيه عبارة "صُنِع في الصين" تُطلَق باعتبارها مزحة.
وقد شهد العام الماضي حدثاً فارقاً في تاريخ البشرية وهو تفشي جائحة كورونا التي لا تزال تمثل الحرب الأشرس التي يواجهها البشر في العصر الحديث، واللافت هنا هو أنه على الرغم من أن فيروس كورونا نشأ في مدينة ووهان الصينية، فإن الصين كانت من أنجح دول العالم في محاصرة التفشي والأسرع في استعادة نشاطها الاقتصادي، ويرى غالبية المحللين أن هذا العام كان عام الوباء للجميع لكنه كان عام استيقاظ التنين الصيني رسمياً كقوة عظمى رئيسية على المسرح الدولي.
وكان بعض المراقبين قد لاحظوا أن القومية الصينية منذ تولي الرئيس الحالي شي جين بينغ قد أصبحت عدائيةً بصورةٍ متزايدة، إذ تبنَّت خصائص ما يُطلَق عليه القومية "الحازمة" أو "العدوانية"، ويشير المصطلح الأول إلى الجهود الصينية المتواصلة من أجل إثبات نفوذها ومكانتها على الساحة العالمية، والأخير إلى التصعيد العسكري والخطابي للصين تجاه الغرب.
وفي هذا السياق، يرى كثير من المراقبين أن جائحة فيروس كورونا تمثل حدثاً فارقاً في التاريخ السياسي الحديث للصين، فنشأة الفيروس في مدينة ووهان نهاية عام 2019 أثارت موجة غربية من التنمر تجاه الصينيين بشكل خاص والآسيويين بشكل عام، وهو ما استفز رد فعل صينياً تمثل في التبني الضمني لقومية "الذئب المحارب" على المستوى الشعبي داخلياً.
والمقصود بذلك التغيير هو أن القيادة الصينية قد ارتأت أن الوقت أصبح مناسباً لتبوُّء موقع القوة العظمى على الساحة الدولية؛ ومن ثم تبنّي خطاب قومي على المستوى الداخلي لشحن مواطني البلاد ضد الإمبريالية والإذلال الغربي، وتزامن ذلك مع النمو الاقتصادي الصاروخي للتنين الذي أصبح يتبوأ المركز الأول عالمياً هذا العام، للمرة الأولى، على حساب الولايات المتحدة.
المواجهة لم تعد اقتصادية وحسب
الآن أصبح كون الصين قوة عظمى حقيقة لا يبدو أن هناك من يجادل بشأنها، وهناك ثلاث نقاط ساخنة توجد فيها قوات أمريكية وأخرى صينية لا يفصل بينها سوى خطوط وهمية في أغلب الأحيان، وعلى الرغم من أنَّ وضع تلك القوات ليس جديداً أو مفاجئاً، فإن الأحداث الحالية تمثل وضعاً غير مسبوق.
وهذا الأسبوع تحدَّث الرئيس الصيني أمام المنتدى الاقتصادي العالمي من خلال الإنترنت بسبب الجائحة، وقال نصاً إن "هذا وقت التعاون وليس وقت المواجهة. إن لغة الخطاب العدائية والمستفزة سواء كانت حديثاً عن الحرب الباردة أو الحرب الساخنة أو الحرب التجارية أو الحرب التقنية، سوف تضر في النهاية بجميع دول العالم وتضحي برفاهية الشعوب".
لكن خطاب الزعيم الصيني سبقته تصرفات على الأرض وصفها مراقبون غربيون وآسيويون بأنها "استعراض للقوة" يدعو إلى القلق. ففي يوم 25 يناير/كانون الثاني الماضي أرسلت بكين سربين كبيرين من الطائرات الحربية إلى أجواء تايوان فيما وُصف بأنه "رسالة إلى إدارة بايدن الجديدة". فعلى الرغم من أن تايوان دولة مستقلة منذ سبعة عقود، فإن الصين ترفض ذلك وتصر على ضمها إلى بر الصين الرئيسي، وقد أقسم شي نفسه العام الماضي، بأن بكين ستعيد تايوان إلى سيادتها ولو بالقوة إذا لزم الأمر.
وقبل يومين فقط قررت الصين إعطاء قوات حرس الحدود البحرية في بحر الصين الشرقي سلطة توقيف أي مركب أجنبي في المنطقة حيث توجد جزر متنازع عليها مع اليابان، وهو ما أثار رد فعل رافضاً من جانب طوكيو ومطالبات بإرسال قوات يابانية أكثر إلى المنطقة التي تجوبها بالفعل سفن حربية أمريكية بغرض تأمين حرية الملاحة، بحسب البنتاغون.
أما في بحر الصين الجنوبي فقد عززت الصين وجودها العسكري على جزر صناعية أعدَّتها للدفاع عن ذلك الجزء من الحدود البحرية، وهي المنطقة نفسها التي توجد فيها باستمرارٍ قوات بحرية أمريكية مشتركة مع قوات أخرى من دول مثل الهند واليابان وأستراليا، وشهدت تلك المنطقة تصعيداً في المناورات العسكرية من الجانبين بصورة مكثفة عن أي وقت مضى.
وبخلاف تلك النقاط الساخنة هناك أيضاً المواجهات المتقطعة على الحدود بين الهند والصين في منطقة الهيمالايا والتي شهدت تصعيداً هو الأخطر منذ عقود، وقد علق المحلل السياسي والكاتب الفلبيني ريتشارد هيداريان على مواقف الصين في العام الأخير، لشبكة CNN الأمريكية، بقوله إن بكين تنمي قوتها العسكرية كي "ترهب جيرانها"، مضيفاً أن الصين عملياً "في صراع مع جميع جيرانها الرئيسيين تقريباً باستثناء روسيا"، وأشار أيضاً إلى كيفية تعامل الصين في سياستها الخارجية مع الدول الأخرى.
على الجانب الآخر تسعى الإدارة الأمريكية الجديدة إلى إصلاح علاقاتها مع حلفائها أولاً قبل أن تدخل في مواجهة مباشرة مع الصين، سواء كانت دبلوماسية أو عسكرية، بحسب خبراء ومسؤولين، وهذا ما عبر عنه المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس، بقوله إن إدارة بايدن تريد أن تكون "في توافق تام" مع الحلفاء والشركاء أولاً وبعدها يمكن "التعامل مع الصين"، مضيفاً أنه لم يكن من قبيل "المصادفة" أن الرئيس بايدن ووزير الخارجية بلينكن تواصلا أولاً مع الشركاء بأوروبا وفي منطقة المحيط الهادي والهندي.
"الولايات المتحدة مرة أخرى ترى أن تحالفاتها وشراكتها على مستوى العالم هي الوسيلة الأفضل والأنجح لمواجهة التحديات المتنوعة، وهذا يشمل علاقتنا مع الصين"، بحسب برايس. وهذا الكلام يفسره مراقبون على أن إدارة بايدن لا تريد أن تنجر إلى مواجهة مع الصين قبل إصلاح علاقاتها مع الحلفاء بعد أن شهدت رئاسة ترامب توترات كبيرة في تلك العلاقات سواء مع أوروبا أو اليابان أو داخل حلف الناتو.