واحةُ أملٍ وسطَ بؤس الجائحة.. كيف أنقذ العمل الخيري المصريين بعدما نفضت الدولة يدها؟!

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2021/02/01 الساعة 14:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/02/01 الساعة 14:54 بتوقيت غرينتش
ممرضة مصرية في حالة صدمة، انتشرت صورها في منصات التواصل الاحتماعي بعد وفاة مرضى نتيجة نقص الأوكسجين/ وسائل التواصل

كان فيروس كورونا الذي اجتاح العالم بمثابة اختبار حقيقي للأنظمة الصحية لكل البلدان، فشل فيه من فشل ونجح فيه آخرون، لكن الوضع في مصر كان أمراً مختلفاً. إذا غابت الدولة بشكل شبه كامل عن المشهد بينما تقدمت مؤسسات الإغاثة والجمعيات الخيرية.

وفي قلب القاهرة كانت طلبات المساعدة تتدفق بلا توقف. بحلول الساعة 2 ظهراً، كانت ربا مختار تستقبل المكالمة رقم 131 في هذا اليوم على الخط الساخن لـ"مؤسسة مرسال"، والذي يعمل على مدار الساعة. وكما الحال مع الغالبية العظمى من مكالمات اليوم، كانت مكالمة مرتبطة بوباء كورونا، كما رصد تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.

على الطرف الآخر من خط الاتصال، كانت امرأة تصف في جزعٍ حالةَ قريب لها، رجل يبلغ من العمر 67 عاماً كان قد تبينت إصابته بفيروس كورونا، ويعاني الآن الحمى بعد وصول حرارته إلى نحو 38 درجة مئوية، وبالكاد يستطيع التنفس. كانت أسرة المريض قد جرّبت أولاً الاتصال بالخط الساخن لوزارة الصحة بحثاً عن سرير في مستشفى حكومي، لكن دون جدوى.

مرسال.. عندما تغيب الدولة

في بلدٍ يعاني فيه الموارد الصحية الحكومية العجزَ تحت وطأة الضغط أو الافتقار إلى الكفاية، وحيث لا يستطيع معظم الناس تحمل تكاليف العلاج في المستشفيات، تحولت المؤسسة الخيرية التي كانت مغمورة في وقت من الأوقات، إلى شريان حياة لآلاف المصريين. فعلى مدار العام الماضي، وخاصة أثناء الموجة الأخيرة لعدوى فيروس كورونا، تعاقدت مؤسسة مرسال ودفعت تكاليف الأسرّة في مستشفيات خاصة، وعملت على توفير أسطوانات الأكسجين للأشخاص المحتاجين إليها.

مصر فيروس كورونا
مخاوف من موجة ثانية لكورونا في مصر – رويترز

وغدت "مرسال" ومديرتها، هبة راشد، تحظيان بقدر كبير من الثقة، لدرجة أن أكثر من ربع مليون شخص يتابعون حسابات المؤسسة على وسائل التواصل الاجتماعي لمعاينة الوضع الحقيقي للوباء وانتشاره في مصر. وأصبحت منشوراتها ترياقاً لنقص الشفافية المتفشي في تعامل الحكومة مع الأزمة، والذي يتعرض لانتقادات واسعة. اليوم يعتمد كثير من المصريين على كل تقييم تصرّح به راشد، ويديرون أمورهم على أساسه.

في تغريدة نشرها في 13 يناير/كانون الثاني على موقع تويتر، ينقل The Big Pharaoh، وهو مدون معروف في مصر، عن هبة راشد، قائلاً: "مؤسِّسة منظمة (مرسال) غير الحكومية ومديرتها التنفيذية، وأحد أكثر الأصوات ثقة فيما يتعلق بجائحة كورونا في مصر، تصرّح بأن هناك انخفاضاً طفيفاً في عدد حالات الإصابة"، مشيراً إلى أن "تصريحاً مشابهاً لها خلال الموجة الأولى للجائحة تحدثَ عن تراجع في عدد الحالات. ما يزال الوضع شديد الخطورة، لكن دعونا نرجو الخير".

https://twitter.com/thebigpharaoh/status/1349298069171482624?s=11

أبلغت مصر عن نحو 165 ألف إصابة و9100 حالة وفاة منذ بداية تفشي الوباء، ومع ذلك قال خبراء طبيون، وحتى وزراء حكوميون، علناً إن الأعداد الحقيقية أعلى من ذلك بكثير.

القمع والاعتقال مصير من يتكلم

عمدت حكومة عبدالفتاح السيسي إلى قمع المنتقدين الذين عارضوا الروايات الرسمية عن الوباء في مصر. وقال مسؤولون في الأمم المتحدة إن السلطات المصرية اعتقلت 15 شخصاً على الأقل لنشرهم ما زعمت أنه "أخبار كاذبة" عن الفيروس. تعرّض الأطباء للاحتجاز والتقريع لشكواهم من نقص معدات الحماية، وطردت السلطات مراسلةً أجنبية لنشرها بيانات تشكك في العدد الرسمي للوفيات بسبب الفيروس.

تعاظمت الشكوك بين الجمهور في مستهل يناير/كانون الثاني، عندما انتشر مقطع فيديو على الإنترنت يزعم أن مرضى بفيروس كورونا في مستشفى حكومي قد ماتوا بسبب نقص الأكسجين. نفت الحكومة مزاعم التقرير، لكن بعدها بأسبوع أمرَ السيسي بمضاعفة إنتاج أسطوانات الأكسجين لتلبية الحاجة المتزايدة إليه.

أول تبرع لإطلاق المشروع

في غمار هذه الظروف برزت مؤسسة مرسال واحةً للأمل والرعاية الموثوقة.

وأصبحت هبة راشد، البالغة من العمر 40 عاماً، مصدراً موثوقاً لتوقعات انتشار الفيروس وقدر الإصابات به لجماهير متابعيها. وتقول هي عن ذلك: "هذا يجعلني أشعر بمسؤولية كبيرة عن كل كلمة أنطقها. فالناس يتأثرون بكل ما أقوله".

نشأت هبة في الأردن وبعدها في محافظة الفيوم الواقعة على مشارف الصحراء الغربية المصرية، ولم يدُر بخلدها قط أن تصبح مؤسِّسةً لجمعية خيرية في يوم من الأيام. فقد درست الإسبانية والعربية في كلية الألسن، وحصلت لاحقاً على درجة الماجستير في اللغويات، والعديد من الدبلومات في مجالات أخرى. حتى إنها عملت بعد ذلك لغوية ومديرة لمشروعٍ ذي صلة بهذا المجال. غير أنها تطوعت في أوقات فراغها في جمعية خيرية محلية.

تقول هبة إنها أدركت بعد وقت قصير أنها "ليس لديها شغف" بالاستمرار في وظيفتها، وإنها وجدت عملها الخيري أكثر إرضاءً. كما أنها لاحظت وجود عددٍ قليل من المنظمات غير الربحية المتخصصة بتقديم الخدمات الطبية والصحية في مصر. لذا قررت مع اثنين من أصدقائها إطلاقَ مرسال قبل خمس سنوات.

وتسترجع هبة فترة التأسيس، فتقول: "كان الأمر شديد الصعوبة حقاً في البداية. إذ لم يكن لدينا علاقات" أو رعاة.

في النهاية وجدوا متبرعاً تعاطف مع المشروع. وقدم ما يقرب من 1300 دولار، لينشئوا المؤسسة الخيرية في شقة مملوكةٍ لهبة راشد. وعملوا بطلب التبرعات على وسائل التواصل الاجتماعي في الغالب. وبعدها بفترة، بدأوا في لفت انتباه بعض كبار المتبرعين.

وزيرة الصحة المصرية تتوسط فريقاً طبياً استقبل العائدين من ووهان يالصين في فبراير /شباط 2020 (رويترز)

اليوم تملك المؤسسة أربعة مكاتب في القاهرة، ومكتباً في محافظة الإسكندرية، ويعمل بها ما يقرب من 200 موظف، بحسب الرئيس التنفيذي هبة راشد. وغالباً ما تكون هبة موصولةً بهاتفها، إذ تجري عشرات من المكالمات يومياً بطاقةِ شابةٍ تنهمك في الأمر بكامل حماسها.

كان اللقاء مع هبة بعد ظهر أحد الأيام مؤخراً، كانت في مكتب المؤسسة الرئيسي الواقع بشارعٍ هادئ تصطف على جانبيه الأشجار في حي المعادي الراقي بالقاهرة، والمكتب عبارة عن منزل كبير (فيلا) متعدد الطوابق وبوابةٍ خضراء. وفي منطقة الاستقبال، وقف عدد كبير من الأشخاص يطلبون مساعدات مالية للتعامل مع شكاواهم الطبية المختلفة.

مركز العمليات عبارة عن غرفة صغيرة بها ثمانية مكاتب تتبادل دوريات الموظفين عليها لاستقبال المكالمات على الخط الساخن على مدار الساعة. وقد كانت الأسابيع القليلة الماضية، على وجه الخصوص، مزدحمة بالمكالمات، فقد تلقت المؤسسة في المتوسط، من 60 إلى 70 حالة طوارئ بفيروس كورونا يومياً.

تقول هبة: "الموجة الثانية للفيروس أشد شراسة من الأولى من حيث شدة انتشار العدوى. وعدد الإصابات هذه المرة أكبر من الموجة السابقة. ومن تظهر عليهم أعراض الإصابة أكثر بكثير".

وتشير هبة إلى أنها أصيبت بعدوى الفيروس، وكذلك أكثر من نصف موظفيها المائة في المكتب، ما أجبرهم على خوض العزل حتى انتفاء الإصابة. وهو ما "جعل القيام بالعمل أمراً شديد الصعوبة"، بحسب هبة راشد.

رحلة البحث عن أسرّة في المستشفيات

ومع ذلك، استمرت المؤسسة في العمل.

يقول الموظفون إن العثور على سرير عادةً ما يستغرق بضع ساعات، لكن الأمر قد يمتد إلى يوم أو يومين في بعض الأوقات. فخلال الموجة السابقة التي حلّت في الصيف، كان عدد قليل من المستشفيات الخاصة يستقبل مرضى فيروس كورونا، وكانت المستشفيات الحكومية أقل استعداداً مما يستلزم الأمر، ما تسبب في عجز كبير في الأسرّة.

الآن تعاقدت المؤسسة مع أكثر من 30 مستشفى خاصاً. في بعض الحالات يمكن للمرضى الذين يحتاجون إلى المساعدة الحصول على الخدمة الطبية مقابل دفعَ بعض التكاليف أو كلها. لكن الغالب مع ذلك أن المؤسسة هي التي تضطلع بدفع ما يصل إلى 1300 دولار يومياً لأسرّة المستشفيات في وحدات العناية المركزة، وهي الأموال التي يتم الحصول عليها في الغالب عن طريق نداءات التبرع المبثوثة عبر الإنترنت. وفي كثير  من الحالات تتوفر أسرّة في المستشفيات الحكومية في نهاية المطاف، ما يسمح للمؤسسة بتوفير أموالها لحالات أخرى أشد احتياجاً إليها.

لقاح الصين كورونا مصر
الصين تختبر لقاحها في عدد من دول العالم – رويترز

وعن الفترة الأخيرة، تقول هبة: "الحكومة جهزت مزيداً من المستشفيات لعلاج المصابين بالفيروس، كما بدأ القطاع الخاص في التعامل مع حالات الإصابة به".

وفيما يتعلق بمتلقي خدمات المؤسسة، يقول مجدي عيسى، المدير الطبي للمؤسسة، إن "ما يقرب من 90% من المرضى ينحدرون من مناطق حضرية، وغالباً ما يتصلون بالمؤسسة عندما تصبح الأعراض لا تطاق". كما أشار إلى أن المؤسسة ساعدت 22 لاجئاً مصاباً بالفيروس، معظمهم من إفريقيا جنوب الصحراء، منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي.

"اللهم ارفع عنا هذا الوباء"

تمتلئ صفحة المؤسسة على موقع فيس بوك بتعليقات ومنشورات الامتنان من المرضى وأقاربهم، كما يحث معظمها الناس على التبرع، وهناك أيضاً المنشورات التي تتناول المعاناة  البالغة التي يتسبب بها الفيروس للمرضى وذويهم.

يقول أحد المتابعين، ويدعى حسام العجمي، بعد أن يروي معاناته وأسرته مع قريب له أصيب بالفيروس وقد أعجزهم البحث عن مستشفى يوفر للقريب الرعاية الصحية، قبل أن يتعرف إلى مؤسسة مرسال، التي ساعدته في الوصول إلى مستشفى، وإن تُوفي بعد ذلك لشدة مرضه. وفي المنشور، يعرب العجمي عن امتنانه للمؤسسة ويدعو الناس إلى التبرع لها، مشيداً بعملها وإخلاص القائمين عليها. وفي النهاية يتضرع إلى الله بالدعاء: "اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع عنا هذا الوباء".

تحميل المزيد