قرارات العفو الرئاسي في أمريكا ليست بدعة جاء بها دونالد ترامب، لكنه وظفها بصورة لم يسبقه إليها رئيس آخر.
والعفو الرئاسي هو صلاحية يمنحها الدستور لرئيس الدولة، وهو موجود في جميع أنحاء العالم وليس فقط الولايات المتحدة، لكن تبعات ذلك العفو تختلف من دولة لأخرى. ففي بعض الدول، مثل مصر، يمكن فقط للرئيس أن يصدر عفواً رئاسياً عن مدانين بجرائم مدنية أو جنائية يقضون مدة العقوبة، دون أن يؤدي العفو إلى إسقاط التبعات الجنائية للعقوبة، أي استعادة حق مباشرة الحقوق المدنية مثل الانتخاب أو الترشح على سبيل المثال.
أما في الولايات المتحدة، فالعفو الرئاسي "يمحو الجريمة وما يترتب عليها" أي كأنها لم تقع من الأصل، وبالتالي فإن من يتمتع بالعفو الرئاسي يستعيد فوراً أي حقوق كان ارتكابه للجريمة قد حرمه منها، كالحق في التصويت أو الترشح أو الحق في امتلاك رخصة سلاح وما إلى ذلك من حقوق مدنية أخرى.
كما أن العفو الرئاسي الأمريكي يمكن أن يتمتع به شخص يخضع للتحقيق بتهمة ارتكاب جريمة فيدرالية ولم يصدر عليه الحكم بعد سواء بالإدانة أو البراءة، وقد يكون العفو الرئاسي محدد المدة الزمنية، والتقييد الوحيد على العفو الرئاسي يتعلق بكونه خاصاً فقط بالجرائم الفيدرالية، بمعنى أن الرئيس لا يمتلك سلطة العفو عن مدان أو متهم بارتكاب جريمة أو مخالفة في ولاية من الولايات، فهذه الصلاحية ضمن سلطات حاكم الولاية أو مجلس العفو الخاص بالولاية.
العفو عن نيكسون الأكثر جدلاً
واستخدم غالبية الرؤساء الأمريكيين سلطتهم في إصدار العفو الرئاسي وإن بدرجات متفاوتة، فالرئيس ثيودور روزفلت أصدر نحو 3 آلاف عفو رئاسي، بينما جورج بوش الأب أصدر فقط 74 عفواً.
وقبل رئاسة دونالد ترامب، كان العفو الذي أصدره الرئيس فورد لصالح ريتشارد نيكسون هو الأكثر جدلاً على الإطلاق؛ فنيكسون كان يخضع لإجراءات عزله في الكونغرس بسبب فضيحة ووتر-غيت (التجسس على الحزب الديمقراطي بأوامر من الرئيس الجمهوري نيكسون)، وقبل أيام من انتهاء محاكمته في مجلس الشيوخ وكانت الإدانة والعزل هما النتيجة المنتظرة، قدم نيكسون استقالته يوم 9 أغسطس/ آب 1974 وتولى نائبه فورد الرئاسة لاستكمال الفترة الرئاسية وكان أول قرار تنفيذي يوقعه هو إصدار عفو رئاسي بحق رئيسه المستقيل.
قرار العفو عن نيكسون جاء نصه "العفو عن ريتشارد إم. نيكسون بسبب جميع المخالفات التي ارتكبها أو قد يكون قد ارتكبها أو شارك فيها ضد الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الفترة من 20 يناير/كانون الثاني 1969 وحتى 9 أغسطس/آب 1974″، والفترة المحددة هنا هي الفترة التي تولى فيها نيكسون الرئاسة. ورغم ما أثاره هذا العفو الرئاسي من جدل في الأوساط السياسية والقانونية في البلاد، إلا أنه لم يصل للمحكمة الدستورية العليا للفصل في مدى دستوريته وهو ما جعل القضية مفتوحة حتى الآن.
ومن الحوادث الشهيرة أيضاً في هذا السياق قيام الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر بإصدار عفو رئاسي في أول يوم له في المكتب البيضاوي عن آلاف المواطنين الأمريكيين الذين كانوا قد وقعوا على وثيقة تهاجم حرب فيتنام، وهو ما أثار انتقادات من العسكريين والداعمين للحرب في البلاد.
ترامب و"بيزنس" العفو الرئاسي
لكن دونالد ترامب الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الرؤساء الأمريكيين تعامل مع سلطات العفو الرئاسي الممنوحة له بصورة غير مسبوقة جعلت كثيراً من المراقبين يوجهون له اتهامات قاسية في هذا الشأن مفادها أنه كرجل أعمال حوَّل الأمر إلى "بيزنس" وفتح المجال مرة أخرى أمام المطالبين بإلغاء تلك الصلاحية أو تقييدها بمحددات واضحة من جانب المحكمة الدستورية العليا حتى لا يساء استخدامها كما فعل ترامب.
ومع تبقي أقل من يومين فقط على انتهاء فترة ترامب الرئاسية رسمياً، لا يزال الباب مفتوحاً أمام الرئيس الجمهوري ليصدر عفواً رئاسياً عن نفسه، وهو ما ألمح إليه في أكثر من مناسبة وعبر محاميه الخاص رودي جولياني عن رأيه في الأمر بقوله "إن ترامب إذا ما أصدر عفواً عن نفسه سيكون أمراً مبرراً تماماً".
فقد أصدر ترامب حتى الآن عفواً عن 26 شخصاً، بينهم مجرمون مدانون بارتكاب جرائم حرب في العراق، وهو ما أثار انتقادات غاضبة في واشنطن وبغداد، ووصف خبراء قانون قرارات العفو الرئاسي التي أصدرها ترامب بأنها "تدهس مبدأ العدالة" واستغلال صارخ لسلطاته الرئاسية.
وأمس الأحد 17 يناير/كانون الثاني كشفت صحيفة نيويورك تايمز عن فضيحة جديدة في سياق "بيزنس" العفو الرئاسي الترامبي، حيث نقلت عن ضابط سابق في المخابرات المركزية الأمريكية قوله إن أحد مساعدي جولياني أخبره (أخبر الضابط) أن العفو الرئاسي لترامب سيكلفه "مليوني دولار".
العفو الرئاسي لا يعني براءة من يحصلون عليه من التهم الموجهة إليهم، سواء أدينوا بالفعل أو ما زالوا قيد التحقيق، واستخدم بعض الرؤساء الأمريكيين تلك السلطة بالفعل في صورة خدمات سياسية أحياناً، كما في حالة فورد ونيكسون أو حتى كما في حالة كارتر، لكن ترامب هبط بتلك الصلاحية الرئاسية إلى مستوى غير مسبوق وحولها إلى وسيلة مباشرة للتجارة على حساب العدالة والقانون، بحسب صحيفة الغارديان البريطانية.
وعلى الرغم من أن ترامب نفسه اضطر- تحت ضغط مستشاريه- إلى إدانة أنصاره الذين اقتحموا الكونغرس يوم الأربعاء 6 يناير/كانون الثاني، إلا أن هناك تقارير عن احتمال إصدار ترامب عفو عنهم، بحسب تقرير لشبكة CNN، وهو ما تحدث عنه السيناتور ليندسي غراهام أحد أبرز داعمي ترامب بقوله "هناك كثير من الناس يناشدون الرئيس أن يصدر عفواً عن المتورطين في التمرد (اقتحام الكونغرس)، لكن العفو عن هؤلاء الناس سيكون خطأ".
وكان ترامب يستعد بالفعل لإصدار عفو عن نفسه وعن أفراد عائلته، لكن بعد أحداث اقتحام الكونغرس، نصحه بعض مستشاريه بعدم الإقدام على تلك الخطوة، لأنه سيبدو كما لو أنه مذنب بارتكاب جريمة ما وسيجعل موقفه أكثر سوءاً في محاكمته في الكونغرس التي صوت عليها بالفعل مجلس النواب وستكتمل فصولها في مجلس الشيوخ بعد أن يكون قد غادر منصبه. والعفو الرئاسي لا يشمل من يتعرضون للعزل من جانب الكونغرس، بحسب الدستور، وعلى الأرجح هذه النقطة هي السبب في عدم إصدار ترامب عفواً عن نفسه حتى اليوم، وإن كان احتمال قيامه بذلك لا يزال وارداً.