الولايات المتحدة هي الحليف الرئيسي لغالبية دول الشرق الأوسط وكان من الطبيعي أن تكون دبلوماسية اللقاح حاضرة بقوة في معركة وباء كورونا لكن هذا لم يحدث، مما فتح الباب أمام وجود روسيا والصين بقوة في المنطقة التي تسعى أنظمتها لمواجهة الوباء بغض النظر عن مصدر اللقاح.
غياب أمريكا بفضل سياسات ترامب
يرى البعض أن هناك تناقضاً صارخاً في علاقات واشنطن بالشرق الأوسط شاب رئاسة دونالد ترامب، فمن ناحية قدَّم الرئيس المنتهية ولايته دعماً غير مشروط لأنظمة الحكم في السعودية ومصر والإمارات على المستوى السياسي، لكن من ناحية أخرى ترك فراغاً غير مسبوق من حيث تأثير الولايات المتحدة في المنطقة، ويفسر المحللون هذا التناقض بأنه راجع لشخصنة ترامب للسياسة الخارجية الأمريكية من خلال علاقاته المباشرة مع زعماء تلك الدول وغيرها.
وكنتيجة طبيعية لتلك السياسة الترامبية، عندما تفشى وباء كورونا في الكرة الأرضية وأصبحت محاربة الوباء هي المعركة الأهم عالمياً، جاءت دبلوماسية اللقاحات قرب نهاية العام الماضي، لتمثل العنصر الرئيسي في التحالفات الإقليمية والعالمية.
إذ أصبحت لدى العالم لقاحات أمريكية وأخرى صينية وروسية وبريطانية، لكن اختلف بشكل واضحٍ تعامل واشنطن مع اللقاح عن غيرها من الدول المنافسة لها، فقد أعلن ترامب أن اللقاح "للأمريكيين أولاً"، فيما أعلنت الصين أنها ستوفر اللقاح للدول الإفريقية ولمنطقة الشرق الأوسط وكذلك فعلت روسيا، فما انعكاسات دبلوماسية اللقاحات على المنطقة وكيف تتعامل دولها مع هذه القضية الأساسية؟
تمدُّد روسي صيني في الشرق الأوسط
رصدت مجلة Foreign Policy الأمريكية مسار دبلوماسية اللقاح وانعكاسه على دول الشرق الأوسط، إذ في الأعوام القليلة الماضية، أنفقت مصر أموالاً على معدَّات الدفاع الروسية أكثر مِمَّا أنفقت منذ بداية السبعينيات. وأقامت القاهرة أيضاً علاقاتٍ اقتصادية متينة مع بكين. وفي عام 2017، اشترت تركيا نظام الدفاع الجوي الروسي S-400 ومدَّدَت علاقاتها التجارية والدبلوماسية مع الصين. أما المملكة السعودية والإمارات، فقد رحَّبتا بالتعامل مع فلاديمير بوتين في عام 2019، فيما قضى الرئيس الصيني شي جين بينغ ثلاثة أيام بالإمارات.
ويعرف كلُّ شخصٍ مُتيقِّظ في واشنطن أن شركاء الولايات المتحدة بالشرق الأوسط يداعبون خصومها. وتقيم بكين وموسكو استثماراتٍ، وتبيعان أسلحة، بينما تتدخَّل روسيا بشكلٍ مباشر في الصراعات، من أجل تقديم مصالحها بالمنطقة. غير أنهما في الآونة الأخيرة قد أضافتا أداةً جديدة لبناء النفوذ، ألا وهي لقاحات فيروس كورونا المُستجَد.
في الربيع الماضي، اكتسَبَ مصطلح "دبلوماسية القناع" شعبيةً لوصف الطريقة التي سعت بها الصين لتمديد نفوذها العالمي عبر تقديم معدَّات الوقاية الشخصية للبلدان التي هي في أشدِّ الحاجة إليها. والآن أصبحت لدينا "دبلوماسية اللقاح"، بينما توقِّع بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة من أجل الحصول على اللقاحات الصينية والروسية. لا يعرف أحدٌ على نحوٍ مؤكَّد ما إذا كان لقاح سبوتنيك V أواللقاحات التي تطوِّرها شركتا سينوفارم وسينوفاك فعَّالة، أو ماهية آثارها الجانبية، لكن بالنسبة للصين وروسيا تبدو هذه القضايا على هامش المستهدف.
هل الشرق الأوسط أفضل حالاً في معركة الوباء؟
من الممكن أن نقرأ الكثير عن هذه التحوُّلات. لقد ركَّعَ فيروس كورونا المُستجَد الكثير من البلدان، رغم أن الشرق الأوسط كان أفضل حالاً مِمَّا اعتقده أغلب الناس في البداية.
وربما يميل بعض قادة المنطقة إلى اعتقاد أن اللقاحات الأقل تكلفةً المُنتَجة في كلٍّ من روسيا والصين أفضل من لا شيء، حتى وإن كانت البيانات العلمية غير مكتملة بعد. ومع ذلك، ليس من المبالغة أن نلاحظ مدى ارتباط قبول سبوتنيك V واللقاحات المُصنَّعة صينياً بين أصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة بالتغيُّرات الأوسع في النظام الإقليمي.
إن جولةً قصيرةً عبر الشرق الأوسط توضح حجم دبلوماسية اللقاح بأجلى صورة. في أواخر ديسمبر/كانون الأول، بدأت مصر في تلقيح العاملين بالرعاية الصحية بلقاح شركة سينوفارم.
ونظراً إلى أن أحداً لا يعرف حقاً مدى تأثير الفيروس على المجتمع المصري، فمن المنطقي أن يسعى الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى تلقي المساعدة من حيث يمكنه الحصول عليها، ولكن بالنظر إلى حجم استثمارات بكين في البلاد، فإن القيادة المصرية لديها كلُّ الأسباب للحفاظ على علاقاتٍ قوية مع الصين، وضمن ذلك توزيع أحد منتجاتها البارزة. وقبول مصر السريع للقاح سينوفارم إنما هو أيضاً جزءٌ من جهود القاهرة لتصبح مركزاً إقليمياً لإنتاج اللقاحات وتوزيعها، وضمن ذلك لقاح سبوتنيك V الروسي.
ومن خلال الأسلوب الحقيقي لـ"الحياد الإيجابي" في عهد جمال عبدالناصر، والذي سعى به المصريون للتغلُّب على القوى العظمى للاستفادة من أقصى قدرٍ من الموارد من كلٍّ منها، تستعد القاهرة أيضاً لتلقي 50 مليون جرعة من لقاح فايزر وأسترازينيكا. ويعكس هذا الطريقةُ التي يرى بها المصريون علاقاتهم الشاملة مع الصين وروسيا والولايات المتحدة وأوروبا. وهم لا يريدون أن يُطلَب منهم اختيار فريق على الآخر، لأنهم لم يعودوا يرون حاجةً إلى اختيار فريق.
وبدأت تركيا أيضاً تطعيم مواطنيها بلقاحٍ صيني الصنع. لن تنتهي تجارب المرحلة الثالثة لمنتج سينوفاك حتى فبراير/شباط، لكن الحكومة التركية غيَّرَت لوائحها بشأن اللقاحات من أجل تسريع العملية. ورغم أن تركيا تحصل على دفعةٍ متواضعة من لقاح فايزر، تبدو الحكومة في أنقرة أحرص على العمل مع روسيا والصين.
وبعد أسابيع قليلة من الإعلان الخاص بـ"سينوفاك"، أعلنت تركيا أنها ستنتج لقاح سبوتنيك V محلياً. ولم يلتزم المسؤولون الأتراك بعد باستخدام اللقاح على مواطنيهم، لكن من الواضح أن هذا هو الاتِّجاه الذي يتحرَّكون فيه. وأشار وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، الذي ظهر مع نظيره الروسي بعد اجتماعٍ في مدينة سوتشي الروسية، إلى أن الأمر يتعلَّق فقط بتلقي البيانات الفنية الخاصة بـ"سبوتنيك V" قبل استخدامه.
صحيحٌ أن تركيا وروسيا على طرفي نقيض حيال عددٍ من الصراعات الإقليمية، لكنهما تمكَّنتا من احتواء تلك الخلافات وفصلها، من أجل خدمة أهدافهما الأكبر؛ لاسيما رغبة أنقرة في الاستقلال عن الغرب ومصلحة موسكو في إضعاف التحالف الغربي وزرع الانقسام بالاتحاد الأوروبي.
ومن المُرجَّح أن يؤدِّي عمل الأتراك والروس معاً على اللقاح إلى إنقاذ كثير من الأرواح، لكن أيضاً يعزِّز الأهداف الاستراتيجية. أما بخصوص الصين، فمثل أيِّ طرفٍ آخر في العالم تقريباً، يريد المسؤولون الأتراك الاستفادة من العلاقات التجارية والثِقَل المُوازِن المُحتمَل في مواجهة الولايات المتحدة.
منطقة الخليج أيضاً تتعامل بشكل متفاوت
إنها حقيقةٌ مُختلطة بين شركاء الولايات المتحدة في الخليج. فقد اشترى السعوديون لقاح فايزر، والقطريون يستخدمون جرعات فايزر وموديرنا. وتستخدم عُمان والكويت لقاح فايزر، لكن البحرين قد مضت مع لقاح سينوفارم كما فعل الإماراتيون. والتُقِطَت صورةٌ لحاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وهو يتلقَّى لقاح سينوفارم.
وليس هناك شكٌّ في أن البحرينيين والإماراتيين يمكنهم تحمُّل تكلفة منتجات فايزر وموديرنا الأغلى ثمناً، ومن المُرجَّح أن يستخدموها أيضاً، ومع ذلك يبدو أن التقدُّم السريع إلى حدٍّ ما لكلا البلدين مع لقاح سينوفارم يعكس ما يحدث على نطاقٍ واسع في الخليج. وتتحوَّط الدول من الانسحاب الأمريكي واستقطاب السياسة الأمريكية الذي يجعل واشنطن شريكاً دبلوماسياً وعسكرياً واقتصادياً أقل فاعليةً، مِمَّا يجعل الصين وروسيا بديلين معقولين.
ربما في المُخطَّط الكبير للأمور لا تعني دبلوماسية اللقاح الكثير. يتعيَّن على الدول وضع الفيروس تحت السيطرة، ويقدِّم الروس والصينيون حلولاً فعَّالة من حيث التكلفة. ومع ذلك، حتى عندما انتهجت الولايات المتحدة سياساتٍ مثيرة للجدل في الشرق الأوسط، كان لا يزال يُنظَر إليها على أنها المعيار الذهبي من حيث التعليم والرعاية والبحث والتطوير والتكنولوجيا التي جعلت حياة الناس أفضل.
ولم يرغب أحدٌ من قبل في الحصول على منتجاتٍ روسية أو صينية، ولكن يبدو أن الأمر لم يعد كذلك، على الأقل مع هذه اللقاحات. إذا كان الأمريكيون قلقين بشأن التحدي الصيني والروسي، فإن غياب الولايات المتحدة عن مكافحة فيروس كورونا المُستجَد في مجموعةٍ متنوِّعةٍ من المناطق المهمة، من ضمنها الشرق الأوسط، أمرٌ صارخ. ويبدو الأمر كما لو أن السيطرة على الأمراض المعدية، ثم العمل على القضاء عليها، ستكون ثماراً جاهزة للقطاف يمكن من خلالها كسب العقول والقلوب بالمنطقة، والتفوُّق على موسكو وبكين في هذه العملية.