سيظل الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب حاضراً على الساحة السياسية لفترة طويلة بعد أن تنتهي رئاسته رسمياً وربما يعود للترشح مرة أخرى بعد أربع سنوات ويفوز أيضاً، لذلك يطالب البعض بأن يبدأ الكونغرس فوراً إجراءات عزله من منصبه، فما القصة؟
سياسي كشف نقاط ضعف النظام الأمريكي
يتمتع ترامب بشعبية لا يمكن إنكارها، فرغم خسارته الانتخابات لصالح الرئيس المنتخب جو بايدن فإنه حصل على أصوات أكثر من 74 مليون ناخب أمريكي، لا يزال الكثير منهم مقتنعين بأن زعيمهم الجمهوري هو الفائز في الانتخابات وأنها سرقت منه لصالح المرشح الديمقراطي في مؤامرة كبرى شاركت فيها أركان الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وجاءت أحداث اقتحام أنصار ترامب لمبنى الكونغرس أثناء الجلسة المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ الأربعاء 6 يناير/ كانون الثاني بعد أن دعاهم الرجل للتوجه إلى الكونغرس، كتأكيد على ما يمثله ترامب من تهديد حقيقي وداهم للديمقراطية الأمريكية بصورة طالما حذر منها الكثيرون.
هذه النظرية التي يرددها ترامب وكثير من أنصاره سواء كانوا ناخبين أو مشرعين منتخبين في الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ لا يوجد دليل واحد يدعمها بعد أن رفضت جميع المحاكم بدرجاتها المختلفة وصولاً إلى المحكمة العليا الدعاوى القضائية التي تم رفعها في الولايات للاعتراض على نتائج الانتخابات.
ورغم خسارته للتصويت الشعبي لصالح جو بايدن بفارق أكثر من 7 ملايين صوت، وخسارته للمجمع الانتخابي أيضاً بحصول بايدن على 306 أصوات مقابل 232، لا يزال ترامب ليس فقط متمسكاً بأنه الفائز بل يحاول استغلال سلطاته كرئيس للضغط على المسؤولين عن الانتخابات أو بمعنى أدق التصديق على نتيجة الانتخابات كي يعلنوا أنه الفائز ليظل في البيت الأبيض لفترة ثانية.
وأظهرت مكالمته مع سكرتير عام ولاية جورجيا التي تم تسريبها للإعلام أن الرجل مستعد لفعل أي شيء للتشبث بمنصبه دون أدنى اعتبار لإرادة الأغلبية من الناخبين أو لأحكام القانون أو القواعد الديمقراطية، ثم جاءت ضغوطه العلنية على نائبه مايك بنس وطلبه المباشر من الرجل أن يقلب النتيجة لصالحه خلال الجلسة المشتركة للكونغرس اليوم الأربعاء 6 يناير/كانون الثاني للتصديق النهائي على فوز بايدن لتؤكد أسوأ مخاوف المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية.
ما الذي تسبب فيه ترامب؟
نيل كاتيال الذي كان قائماً بأعمال المدعي العام الأمريكي سابقاً نشر مقالاً في صحيفة The New York Times بعنوان "لماذا يتوجب على الكونغرس عزل ترامب مرة أخرى؟"، رصد الخطر الداهم الذي مثلته رئاسة ترامب على القواعد التي قامت عليها الديمقراطية الأمريكية وكيف أن احتمال عودته للترشح مرة أخرى يمثل كارثة بكل المقاييس.
رد فعل كانيال جاء بعد مكالمة ترامب مع سكرتير ولاية جورجيا وضغوط الرئيس على الرجل لتزوير نتيجة الولاية لصالحه، ووصف القائم بأعمال المدعي العام السابق المكالمة بأنها "لحظة مروعة في تاريخ النظام الديمقراطي بالولايات المتحدة" تجعل من تحرك الكونغرس لعزل ترامب ضرورة حتمية حتى ولو كانت أيامه معدودة في البيت الأبيض.
وقال أستاذ القانون بجامعة جورج تاون إن اعتراف ترامب بنتائج الانتخابات لن يُحدِث فارقاً كبيراً في حقيقة مغادرته في 20 يناير/كانون الثاني، ولكن إن حدث ذلك وغادر ببساطة في هذا التاريخ، فقد يتمكن من خوض الانتخابات الرئاسية مرة أخرى في 2024، وهو ما ارتآه كاتيال احتمالاً مرعباً لأن سلوكه على مدى الشهرين الماضيين من أجل محاولة سرقة ولاية رئاسية لأربع سنوات أخرى في منصبه، ليس إلا تهديداً للانتقال السلمي للسلطة، وهو أحد أرسخ تقاليد الجمهورية.
ما الذي قد يؤدي إليه العزل من المنصب؟
وبطبيعة الحال حتى في حالة إقدام الكونغرس على البدء في إجراءات عزل ترامب، خصوصاً بعد فوز الديمقراطيين بمقعدي جورجيا في مجلس الشيوخ بعد جولة الإعادة وبالتالي تمتعهم بالأغلبية بفضل تولي نائبة بايدن كامالا هاريس رئاسة المجلس (أصبح 50 للجمهوريين و50 للديمقراطيين)، لن تنتهي الإجراءات قبل مغادرة ترامب البيت الأبيض يوم 20 يناير/كانون الثاني الجاري.
ولكن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة تنبأوا لحسن الحظ بلحظة كهذه، وهو السبب وراء وضع الباب الثالث من المادة الأولى في الدستور، التي لا تقتصر على تخويل الكونغرس بسلطة عزل، بل تمتد كذلك إلى منعه أو منعها من الترشح لأي منصب عن طريق الانتخابات، بحسب كاتيال الذي أكد أن سلوك ترامب على مدى الشهرين الماضيين لم يترك خياراً أمام المشرعين إلا استحضار هذا الباب. ومع أن تحقيقات العزل سوف تستغرق وقتاً طويلاً وسوف تستمر حتى بعد تركه المنصب في 20 يناير/كانون الثاني، فيرى الكاتب أن الأمر يستحق المحاولة.
ويبدو نوع التهديد الذي يشكله ترامب مألوفاً، لأن حادثاً مماثلاً على نحو مخيف من سوء استغلال السلطة من جانب ترامب، أدى إلى بدء تحقيقات لعزله منذ حوالي عام. وكانت عضو مجلس الشيوخ عن ولاية مين، سوزان كولينز، قد بررت تصويتها لتبرئة ترامب بقولها إنها اعتقدت أنه تعلم "درساً عظيماً جداً". لكن الواضح أن ترامب تعلم درساً مغايراً تماماً، وهو أنه فوق سلطة القانون، وذلك حسبما أوضح كاتيال، الذي يرى أن الوقت قد حان لأن يتحرك الكونغرس ويهب هبة رجل واحد لإنهاء هذا الأمر.
وأوضح الكاتب أن هناك أسباباً عديدة للمضي قدماً في إجراء تحقيقات العزل مرة أخرى، حتى إن كانت قد تتسبب في حالة من الفوضى، لأن الخيار الثاني لن تستطيع الولايات المتحدة تحمله، وذلك في إشارة إلى احتمالية ترشح ترامب للانتخابات الرئاسية في 2024.
أسباب عديدة تتعلق بترامب والرؤساء المستقبليين
ويرى كاتيال أن السبب الأول هو تأسيس سابقة بأن أي رئيس يحاول الخداع لضمان إعادة انتخابه سوف يخضع للمساءلة. وبرغم أن محاولة ترامب لم تكن لتنجح بكل تأكيد، فإن محاولة انقلاب فاشلة يجب أن تشكل في الأساس تحذيراً كافياً. وسلط كذلك الضوء على احتمالية قدوم مرشح رئاسي سلطوي آخر في المستقبل القريب، يكون قادراً على المنافسة ويحظى بدعم حزبه الذي يسيطر على مجلس النواب. ولذا يرى كاتيال أن هناك ضرورةً لضمان أن الكونغرس يضمن عدم السماح لأي مرشح رئاسي بأن يشق طريقه عنوةً نحو المكتب البيضاوي بدون الطرق الديمقراطية المشروعة.
وثمة حاجة أخرى لتأسيس سابقة بأن أي رئيس منتهية ولايته، يمكن أن يخضع للمساءلة. وطرح المقال فرضية يهدد فيها الرئيس بضرب إيران نووياً إذا لم يقف المجمع الانتخابي بجانبه، فحينها يجب أن يكون هناك آلية تتيح عزله من المنصب. فحتى إن كان الدستور يكفل إمكانية إجراء تحقيقات لعزل الرئيس، فلن تكون هذه الآلية ذات قيمة إن لم تُستخدم.
وقال كاتيال إن الولايات المتحدة لا تستطيع المخاطرة بتحمل ترامب في منصب الرئاسة مرة أخرى، أو في حالة عدم عزله، لن تتحمل ترشحه مرة أخرى للرئاسة مع وجود احتمالية لفوزه بالمنصب. فالأمر لا يتعلق بالأيديولوجية، بل إنه انعكاس للحقيقة التي تفيد بأن النظام الأمريكي قد لا يقدر على تحمل عودة رجل خارج عن القانون إلى أقوى منصب في العالم.
فمن يدري ما الذي يمكن أن يفعله ترامب في ولاية رئاسية ثانية غير متعاقبة، بعد أن تزداد جرأته نتيجة إخفاق النظام على محاسبته لإساءة استغلال السلطة. إذ إن الضرر الذي ألحقته ولايته الرئاسية الأولى بالمؤسسات الأمريكية سوف تحتاج إلى أجيال من أجل إصلاحه، وذلك حسبما يرى الكاتب، الذي يعتقد أن النظام الديمقراطي في بلاده قد لا يتحمل التعامل مع أربع سنوات أخرى يكون فيها ترامب في المكتب البيضاوي.
كان السيناتور الجمهوري ميتش ماكونيل، زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، قادراً على حماية ترامب في المرة السابقة، وبدون أدنى شك خشي ماكونيل مما قد يُرفع النقاب عنه في ظل إجراء محاكمة صارمة. لكنه غير قادر الآن على توفير هذه الحماية لأسباب عديدة، أولها أن ترامب سوف يُحرم قريباً من سلطة الرئيس التي كانت سبباً في حصوله على خدمات من بعض الأشخاص على جانب، واستطاعته معاقبة أعدائه على جانب آخر.
أما السبب الثاني، فيتعلق بالاختلاف الذي طرأ على تركيبة مجلس الشيوخ: استطاع الديمقراطيون بالفعل قلب مقاعد مجلس الشيوخ لصالحهم في أريزونا وكولورادو وبالفوز في جورجيا فقد الجمهوريون الأغلبية. وحتى الجمهوريون الذين صوتوا لتبرئة ترامب، مثل بات تومي من بنسلفانيا، أظهروا في نهاية المطاف أن لديهم رغبة في التصدي له.
وسلط كاتيال الضوء على أنه في عام 2008، قال عضو صغير السن آنذاك في اللجنة القضائية بالكونغرس الأمريكي: "تتطرق الأعمال المتعلقة بالجرائم الكبرى والجنح، لمسألة ما إذا كان الشخص الذي يشغل منصب رئيس الولايات المتحدة قد أعطى أولوية لمصالحه الشخصية قبل المصلحة العامة، أم لم يفعل ذلك". وأوضح أن ذلك العضو هو مايك بنس نفسه، نائب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقد كان بنس محقاً تماماً في ذلك. ولذا يرى المقال أن هناك حاجةً لإدانة ترامب والتأكد من أنه لن يدخل البيت الأبيض مرة أخرى على الإطلاق.