تعيد قطاعاتٌ واسعة من الاقتصاد الإيراني تنظيم نفسها استجابةً لأكثر من عامين من العقوبات الأمريكية، لتجد الكثير من المرونة في الاقتصاد المحلي الضخم للبلاد.
تعمل الشركات الإيرانية بصورةٍ متزايدة على إنتاج أنواع البضائع التي كانت إيران تستوردها منذ فترةٍ طويلةٍ من الخارج، في حين تلجأ الشركات الأصغر والمتنامية إلى التوظيف، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
ووفقاً لإحصاءات الحكومة الإيرانية، نما إجمالي عائدات الصناعة غير النفطية الإيرانية بنسبة 83% في العامين الماضيين، متجاوزاً قطاع الطاقة الذي تضرَّر بسبب العقوبات.
حصار حتى من الأصدقاء والوسطاء المعترضين على عقوبات ترامب
وتتعرض إيران لحصار فعلي، فحتى الدول الأوروبية المشاركة في الاتفاق النووي والصين تتجنب شركاتها التعامل مع إيران خوفاً من استهدافها بالعقوبات الأمريكية.
وبعد فرض العقوبات الأمريكية، وقعت خلافات أوروبية حول موضوع التعامل مع إيران، حالت دون الاتفاق على آلية التعامل المالي (SPV) لتجنب على العقوبات الأمريكية، وانتهى الأمر بالإعلان عن الآلية من قبل الترويكا الأوروبية المعنية بالأزمة وهي فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، فقط دون باقي دول الاتحاد.
لكن فعلياً الآلية تسمح بالتعامل المالي في المجالات المسموح بها وفقاً للعقوبات الأمريكية، أي أنها لا تتجاوز العقوبات التي فرضها ترامب، كما يأمل الإيرانيون.
الاقتصاد الإيراني ينمو رغم العقوبات
والآن بعد نحو عام وثمانية أشهر على قرار الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، في أبريل/نيسان 2019، وقف إعفاءاتٍ من العقوبات على شراء النفط الإيراني، وهو القرار الأصعب على إيران، يبدو أن طهران التي لديها خبرة طويلة في مراوغة العقوبات، قد نجحت جزئياً في التغلب على الحصار الأمريكي، بل محاولة الاستفادة منه.
إذ قال محافظ البنك المركزي الإيراني، خلال الشهر الجاري ديسمبر/كانون الأول، إن اقتصاد البلاد نما بنسبة 1.3% من مارس/آذار إلى منتصف سبتمبر/أيلول، مدفوعاً إلى حدٍّ كبيرٍ بالتصنيع المحلي.
وقال محسن توكل، خبير العقوبات في المجلس الأطلسي: "حتى لو قطعت العقوبات صادرات إيران النفطية بالكامل، فإن اقتصاد البلاد يمكن أن يستمر في البقاء".
وهذا يوفر لهم بعض الأوراق في مواجهة بايدن
ويمنح الاقتصاد الإيراني المحلي المُعزَّز قادة البلاد بعض المساحة قبل وصول إدارة بايدن للبيت الأبيض، التي قالت إنها سترفع بعض العقوبات إذا عادت الولايات المتحدة إلى اتفاق 2015 الذي يحدُّ من البرنامج النووي الإيراني، وكذلك إذا تراجعت إيران عن انتهاكاتها للاتفاق.
وعزَّزَت إيران من تخصيب اليورانيوم، وأقرَّت في وقتٍ سابق من هذا الشهر قانوناً يحدُّ من عمل المفتشين النوويين الدوليين. وحثَّ وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف الولايات المتحدة على الامتثال لالتزاماتها السابقة بموجب الاتفاق النووي، قبل إجراء أيِّ مفاوضات بشأن عودة البلاد إلى الاتفاق.
ولطالما استخدمت الولايات المتحدة قوة الدولار، وقنواتها، إلى نظام التحويل المصرفي العالمي، الذي تسيطر عليه فعلياً، كأداةٍ لتحقيق أهدافها السياسة الخارجية في بلدانٍ مثل كوريا الشمالية.
ومع إيران فرضت إدارة دونالد ترامب ما يُسمَّى بحملة "الضغط الأقصى" لخنق الاقتصاد الإيراني وإجبار طهران على إعادة التفاوض بشأن الاتفاق النووي لعام 2015. ومع ذلك، يتكيَّف الاقتصاد الإيراني في بعض القطاعات مع الانقطاع عن الكثير من التجارة الدولية.
الماكياج الإيراني بدلاً من الفرنسي
على سبيل المثال، بعد أن دفعت العقوبات الأمريكية شركة مستحضرات التجميل الفرنسية L'Oréal، في العام 2018، للتخلي عن محادثات الاستحواذ مع شركة Zarsima Nami Rasa، التي تورِّد منتجات التجميل إلى إيران، أطلقت الشركة الإيرانية مجموعة منتجاتها الخاصة التي حلَّت مذاك الحين محل العلامة الفرنسية في الكثير من صالونات تصفيف الشعر في طهران.
وقال حسن أوسكوي، العضو المنتدب في شركة Zarsima Nami Rasa الإيرانية للعناية بالجمال: "كانت العقوبات هي الدافع المناسب لنا". وقالت الشركة إن تركيزها المحلي أتاح لها الاحتفاظ بنحو 540 عاملاً.
غسالة أطباق إيرانية الصنع
استفادت شركة باكشوما الإيرانية لتصنيع الأجهزة المنزلية من رحيل أكبر منافسَين من كوريا الجنوبية، وهما شركتا إل جي إلكترونيكس وسامسونغ. وطوَّرَت الشركة الإيرانية أول غسَّالة صحون محلية الصنع، وتُسمَّى جوزفين، على اسم المخترع الأمريكي للماكينة، جوزفين كوكرين.
وارتفعت مبيعات الشركة من غسَّالات الصحون والغسَّالات بنسبة 40 و55% على التوالي خلال العامين الماضيين، وهو ما سَمَحَ للشركة بتوظيف 600 عامل، وفقاً لمهرداد نيكزاد، مدير التسويق في الشركة الإيرانية.
وفي "إيران مول"، الذي افتُتِحَ عام 2018 في طهران، استُبدِلَت العلامات التجارية الأجنبية مثل أديداس ومانغو وبينيتون، وحلَّت محلها علاماتٌ تجارية محلية، إضافةً إلى العديد من العلامات المُقلّدة من نظيراتها الأجنبية.
والنتيجة انخفاض معدل البطالة
وتقود الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم نموَ الصناعة الإيرانية. وقال نائب رئيس منظمة الصناعات الصغيرة والمناطق الصناعية الإيرانية لوكالة أنباء إيرنا، الأسبوع الماضي، إن نحو ألف شركة من هذا القبيل خلقت أو أعادت 17 ألف وظيفة. وبحسب المنظمة، تشكِّل هذه الشركات 92% من مؤسَّسات التصنيع الإيرانية و45% من وظائفها الصناعية. ووفقاً للإحصاءات الحكومية، انخفض معدَّل البطالة في إيران خلال العقد الماضي إلى 9.5%، بعدما كان 12.3%.
واستخدمت إدارة ترامب العقوبات كسلاحٍ لإحداث التغيير في إيران وفنزويلا وروسيا. ومع ذلك، بالنظر إلى رفض هذه الحكومات الامتثال لمطالب واشنطن، يتعيَّن على إدارة بايدن أن تقرِّر ما إذا كانت ستمدِّد العقوبات.
والأهم أنها تهرب النفط بفضل هذه الإغراءات
وفي الأشهر الأخيرة، تحسَّنَت قدرة إيران على التهرُّب من العقوبات الأمريكية على صادراتها من النفط الخام. كانت معظم شركات الشحن ومشتري النفط قد توقَّفوا عن التعامل مع إيران بعد أن فرضت واشنطن حظراً على شحنات الخام الإيرانية، في أعقاب قرار إدارة ترامب عام 2018 بالانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران، الذي أُبرِمَ في عهد أوباما.
لكن التجَّار يقولون إن إيران تقدِّم تخفيضاتٍ كبيرة لجذب المشترين الذين يشعرون براحةٍ تجاهها. وعلاوة على ذلك، ظهر أيضاً عملاءٌ جدد للخام الإيراني، خاصةً مع عودة الاقتصادات الآسيوية، بما في ذلك الصين، إلى الوراء.
وقال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الشهر الماضي نوفمبر/تشرين الثاني، إن العقوبات قيد التنفيذ فعَّالة، مضيفاً أن إيران حُرِمَت من 70 مليار دولار من عائدات النفط منذ ربيع 2018. ورفضت وزارة الخزانة الأمريكية التعليق على الأمر.
هل هذه الإحصاءات موثوقة؟
وقال مسؤلوون أمريكيون إنهم يعتقدون أن طهران لا تزال تكافح من أجل النجاة، مشيرين إلى شحِّ احتياطات العملات الأجنبية وانخفاض سعر صرف الريال كأكبر مشكلات الاقتصاد الإيراني.
وأضاف المسؤولون أنهم يعتبرون إحصاءات طهران غير موثوقة، وأن الحكومة الإيرانية تخفي المدى الحقيقي للضرر الاقتصادي الذي تعانيه تحت وطأة حملة الضغط. ومع ذلك، يستخدم الاقتصاديون والمؤسَّسات الأجنبية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، الإحصاءات الإيرانية كأساسٍ لتحليل اقتصاد البلاد.
وتراجعت العملة الإيرانية بنسبة 85% منذ أوائل العام 2018، في جعل التضخُّم الذي تجاوَزَ 30% الضروريات اليومية أكثر تكلفةً بالنسبة للإيرانيين. واندلعت مظاهراتٌ جماهيرية خلال العام الماضي، لقي المئات مصرعهم فيها، احتجاجاً على إجراءات التقشُّف.
وارتفعت نسبة الإيرانيين الذين يعيشون على أقل من 5.50 دولار في اليوم الواحد، وهو خط الفقر الذي حدَّده البنك الدولي لاقتصادات الشريحة العليا من الدخل المتوسِّط، إلى 13% في عام 2019، وذلك من 8% عام 2011، وفقاً للبنك الدولي.
نمو مع زيادة في الفقر
وقال جواد صالحي أصفهاني، أستاذ الاقتصاد في جامعة فيرجينيا للتقنية، إن "ارتفاع التوظيف لا يُترجَم إلى دخلٍ أعلى". وأضاف: "الفقر آخذٌ في الارتفاع، وأنا واثقٌ من أن الحكومة تدرك ذلك وتشعر بالقلق إزاءه".
وأغلقت جائحة كوفيد-19 حدود إيران مع العراق المُجاوِر، وقلَّصَت التجارة مع الصين، فيما تُعَدُّ الصين والعراق وجهتي التصدير الرئيسيَّتين لإيران. وقد أدَّى ذلك إلى انخفاضٍ بنسبة 25% في الصادرات غير النفطية مقارنةً بالسنة المالية السابقة، وفقاً لأرقامٍ من إدارة الجمارك الإيرانية.
وشهدت بعضٌ من أكبر الشركات المُصنِّعة في إيران أوقاتاً عصيبة، فخفضت صناعة السيارات، على سبيل المثال، الإنتاج من 1.4 مليون سيارة في عام 2017 إلى 770 ألف سيارة في عام 2019، وفقاً لمنظمة مُصنِّعي السيارات.
وتعرَّض قطاع السيارات لضربة كبيرة بسبب انسحاب الشركات الأوروبية خوفاً من العقوبات.
والمثال على ذلك شركة بيجو الفرنسية للسيارات، التي ليس لها وجود تقريباً في الولايات المتحدة، بينما يعتبر السوق الإيراني مهماً لها للغاية (كانت تخطط مستقبلاً لأن يصبح أهم من السوق الفرنسي) ولكنها انسحبت خوفاً من مقصلة العقوبات الأمريكية.