حصل رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في 2019 على جائزة نوبل للسلام كتكريم لجهوده المبذولة من أجل توحيد الفرقاء الإثيوبيين وضمهم تحت راية الوطن الإثيوبي الواحد، ومده ليد السلام مع الجارة إريتريا، وخلق قنوات تواصل بين أسمرا وإريتريا. كما أنه دعا إلى نشر السلم الأهلي، وأكد مبادئ الديمقراطية واحترام التعددية والعمل من أجل تحقيق الرخاء والازدهار.
لكن رجل سلام مثله لماذا يثور ضده إقليم تيغراي؟
يرى البعض أن قبائل تيغراي كانت ترفض الانخراط في مشروع أبي أحمد لأسباب دينية، لأن إقليم تيغراي أغلبيته من المسيحيين الأرثوذكس، ولكن الأمر لا يتعلق بالصراع المذهبي الديني ولا بالصراع العربي بين "الأورومو" قبيلة أبي أحمد وقبائل تيغراي الشمالية، بل هو خلاف حول إدارة الحكم بإثيوبيا وبسط النفوذ على البرلمان الإثيوبي وأجهزة الجيش والمخابرات، والتحكم بمؤسسة الاقتصاد ورأس المال الوطني. ويعود توتر العلاقات بين تيغراي والعاصمة الفيدرالية الإثيوبية منذ تعيين أبي أحمد رئيساً للوزراء في 2 أبريل/نيسان 2018، حيث بدأت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في اعتبار نفسها مهمَّشة ومنسية من قِبل أديس أبابا، وما انفكت المجموعات السياسية المنتمية لإقليم تيغراي تُسوِّق بأن مشروع أبي أحمد (الذي كان حينها في بدايته) يقوم على المركزية والانحياز لإقليم الأورومو ذي الأغلبية المسلمة.
في حقيقة الأمر، لإقليم تيغراي مكانة مركزية في كامل إثيوبيا منذ نجاح الجبهة في إسقاط النظام العسكري الاشتراكي بقيادة مانغستو هيلا مريام عام 1991، وتسليمها مقاليد الحكم لميليس زيناوي في 2012، والذي بدوره سقط عقب انقلاب على الحكم نجح فيه الرئيس الأسبق الذي فشل في إزاحة التيغراي عن مواقع القرار داخل الفيدرالية الإثيوبية، خلافاً لأبي أحمد علي الذي قلَّل من نفوذ التيغراي داخل مفاصل الدولة في محاول منه لإرساء نظام تعددي تشاركي يضمن لجميع الإثيوبيين حظوظهم في المشاركة السياسية.
ومن ناحية أخرى، هناك من يرى أن أبي أحمد منذ البداية، لم يكن على توافق مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، ولاسيما مع رئيس الجبهة السياسي المحنك دبرصيون جبر ميكائيل، الذي كان يعتبر أبرز النافذين في إثيوبيا قبل وصول أبي أحمد للحكم وهو القائد حالياً لهجمات جبهة تيغراي ضد أديس أبابا.
صاحب جائزة نوبل لا ينال رضا الإثيوبيين
يبلغ عدد سكان إقليم تيغراي قرابة 6 ملايين نسمة، فهي خامس أكبر منطقة من حيث عدد السكان والمساحة، والأكثر كثافة سكانياً بين الولايات الإثيوبية التسع، يقع الإقليم جغرافيا في شمال البلاد، تحده دولة إريتريا التي يتشارك معها في اللغة "التيغرانية" والكثير من العادات والتقاليد والإثنية أيضاً. وتلك المقومات الثقافية كان لها أن تجعل من جبهة تيغراي وقياداتها جزءاً من مبادرات السلام التي قام بها أبي أحمد مع إريتريا، لكن أبي أحمد اختار تحييد جانب تيغراي صاحبة الحدود المفصلية مع إريتريا، والمضي قدماً نحو تطبيع العلاقات مع أسمرا دون العودة إلى تيغراي، الأمر الذي جعل دبرصيون يتهم الرئيس الإريتري آسياس أفورقي بالتدخل في الشؤون الإثيوبية الداخلية.
استبعاد الجبهة عن العلاقات الخارجية رفقها استبعاد فيما هو شأن داخلي أيضاً، إذ قام أبي أحمد السنة الماضية في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بتأسيس حزب الأزهار الذي قام على أنقاض "الائتلاف الحاكم" الذي تم شطبه رسمياً من قائمة الأحزاب المسجلة، وهو ما أفقد "جبهة تيغراي" آخر ما تبقى لها من نفوذ في الحكومة الفيدرالية. حينها قال دبرصيون إن حزب الازدهار غير شرعي واصفاً عملية شطب "الائتلاف الحاكم" بالخيانة.
إن إخراج تيغراي من دائرة الائتلاف الحاكم بطريقة غير عادلة وإحكام سيطرة أبي أحمد على مقاليد الحكم واستغلاله لقوانين مكافحة الإرهاب ليزج بالسجن بكل معارضيه ويلاحق الصحفيين والمدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان على غرار جوهر محمد وبيكيلي جيربا، الأمين العام لحزب مؤتمر أورومو الاتحادي المعارض. وقد جاء هذا الاعتقال التعسفي عقب تنديد الناشط الإثيوبي، جوهر محمد، بمقتل الفنان الإثيوبي ها شلو هونديسا، الذي تعرض لطلق ناري في 30 يونيو/حزيران الماضي حين كان يقود سيارته. ووفقاً لعديد من المصادر، فإن هاشلو فنان شهير بأغانيه السياسية المعارضة للنظام والناقدة للسلطة.
مقتل هاشلو، أضعف من شعبية أبي أحمد في صفوف قبيلته الأورومو ورغم التعازي المقدمة من أبي أحمد اختار شبابها التظاهر ورفع شعارات ضد النظام القائم، مظاهرة واجهها البوليس الفيدرالي الإثيوبي بالغاز المسيل للدموع والملاحقات الأمنية في العديد من المناطق على غرار منطقة أداما، الواقعة على بعد 90 كيلومتراً جنوب شرق أديس أبابا، وقتل خمسة أشخاص بعد إطلاق النار عليهم خلال مظاهرات كما جُرح 75 آخرون، علاوة على قطع الإنترنت في كامل البلاد.
تيغراي تجر أبي أحمد لسياسة الحديد والنار
في سبتمبر/أيلول الماضي قرر إقليم تيغراي إجراء الانتخابات البرلمانية في الموعد المقرر لها وهو سبتمبر/أيلول 2020 رغم قرار الحكومة المركزية بتأجيلها بسبب استفحال وباء كورونا، ولكن جبهة تيغراي تمسكت بموعد إجراء الانتخابات دون العودة إلى البرلمان الإثيوبي، وعليه ألغى دبرصيون في أكتوبر/تشرين الأول الماضي اعترافه بالحكومة الفيدرالية باعتبار انتهاء ولايتها، وصرح بأنه لن يمتثل لأي توجيهات تصدر منها بعد ذلك، ثم قامت جبهة تيغراي على القيادة الشمالية للجيش، ليعلن أبي أحمد في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني بدء عملية عسكرية ضد قوات الجبهة، وفي السابع من الشهر ذاته صادق البرلمان الإثيوبي على حل حكومة دبرصيون وتشكيل حكومة مؤقتة عوضاً عنها.
وبعدها بخمسة أيام قرر البرلمان رفع الحصانة البرلمانية عن دبرصيون وأعضاء آخرين في جبهة تيغراي، ليصدر لاحقاً النائب العام أمراً باعتقال دبرصيون بتهمة التمرد على الحكومة ومهاجمة الجيش الفيدرالي، وبعد 3 أسابيع من المعارك سيطر الجيش الإثيوبي على ميكيلي عاصمة الإقليم وانتهى المطاف بدبرصيون مطلوباً للعدالة بتهمة التمرد ضد الحكم الوطني بإثيوبيا.
معارك حامية الوطيس، تفجير لمطار غندر بشمال إثيوبيا، قصف للإقليم دون الاكتراث لوضع المدنيين والعزل، تجنيد قسري للأطفال في جبهات القتال التابعة لتيغراي، كلها تفاقمات تصاعدت حتى بلغ عدد النازحين الفارين نحو السودان أكثر من 6 آلاف إثيوبي، حسب تقرير نشرته شبكة BBC الشهر الماضي. وعلى صعيد القتال في تيغراي، قالت الإذاعة الإثيوبية الحكومية إن الجيش قتل 550 من مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي مع استمرار الصراع في الولاية الواقعة في أقصى شمال البلاد.رغم الوضع الإنساني الخطير واستمرار حكومة أبي أحمد في الهجوم دون اعتبار لتوصيات مفوضية الاتحاد الإفريقي التي دعت لوقف قتل الأبرياء وتجنيد الأطفال في بيان صدر لها هذا الشهر عن لجنة حماية الطفل.
إثيوبيا في مأزق صعب، وأبي أحمد يؤجج ويسعر نيران حرب أهلية قد تجر القرن الإفريقي إلى مربع من العنف والخراب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.