الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي استقبل نظيره المصري عبدالفتاح السيسي في قصر الإليزيه يدعو إلى "مجتمع مدني ديناميكي ونشط" في مصر، لكنه رفض ربط أي شراكة استراتيجية بمسألة حقوق الإنسان، فماذا يعني ذلك؟
البحث عن طوق نجاة
زيارة السيسي لماكرون تأتي في توقيت يعاني فيه الرئيس الفرنسي من أوضاع داخلية مضطربة على خلفية المظاهرات العنيفة ضد قانون "الأمن الشامل" الخاص بحظر تصوير رجال الشرطة، إضافة إلى تردّي الأوضاع الاقتصادية بسبب تفشي وباء كورونا، بخلاف قضية مسلمي فرنسا الذين حولهم ماكرون لأضرار جانبية على خلفية قضية الرسوم المسيئة للرسول وما شهدته من تطورات دموية.
وخارجياً أصبح ماكرون عدو المسلمين الأول بين زعماء العالم، بعد إعلان تمسكه بالرسوم المسيئة للرسول، وإثارة غضب المسلمين حول العالم، وانطلاق الدعوة الشعبية لمقاطعة المنتجات الفرنسية، وفشل محاولات ماكرون وحكومته في إقناع العالم الإسلامي بأنهم تراجعوا عن موقفهم الذي يراه غالبية المسلمين عداء للمسلمين وليس فقط مكافحة التطرف كما يقول ماكرون ووزراؤه.
وفي هذا السياق يرى كثيرون أن زيارة رئيس مصر، الدولة الإسلامية وأكبر دولة عربية، لفرنسا في هذا التوقيت ربما يمثل طوق نجاة لماكرون يتمكن من خلاله أن يصور صراعه مع العالم الإسلامي، كأنه سوء تفاهم بسيط له خلفيات سياسية مع دولة مسلمة أخرى كتركيا، ويظل السؤال: هل تنجح زيارة السيسي بالفعل في تخفيف الضغوط التي يتعرض لها ماكرون؟
وقد عبَّر ماكرون عن هذه النقطة ووجَّه الشكر للسيسي الذي يترأس "بلداً عربياً وإسلامياً مهماً جداً"، على زيارته لباريس بعد "حملة الكراهية" ضد فرنسا في العالم الاسلامي، مؤكداً أن فرنسا ومصر "متحدتان" لبناء "حيز لا مكان فيه لأحكام الموت وخطابات الكراهية، عندما يتم ببساطة التعبير عن الحريات".
ملف حقوق الإنسان في مصر
وخلال مؤتمر صحفي مشترك مع السيسي أمس الإثنين، 7 ديسمبر/كانون الأول، قال ماكرون: "سنحت لي الفرصة كما هي الحال بين الأصدقاء الذين تجمع بينهم الثقة والصراحة، للتطرق إلى مسألة حقوق الإنسان (…) أبقى مدافعاً دائماً عن الانفتاح الديمقراطي والاعتراف بمجتمع مدني ديناميكي ونشط".
كما رحب ماكرون بالإفراج عن ثلاثة ناشطين في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعد تحرك دولي قوي في هذا الاتجاه، موضحاً أنه تطرَّق أيضاً إلى "ملفات أفراد آخرين"، بينهم رامي شعث، المدافع المصري-الفلسطيني عن حقوق الإنسان، والذي تدين عدة منظمات غير حكومية اعتقاله التعسفي منذ أكثر من عام.
وقال ماكرون "لن أربط تعاوننا في المجالين الدفاعي والاقتصادي بهذه الخلافات"، مشدداً على "سيادة الشعوب"، ومعتبراً أن "سياسة تقوم على الحوار أكثر فاعلية من سياسة المقاطعة التي ستفضي إلى خفض فاعلية أحد شركائنا في مكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي".
تصريحات ماكرون في ملف حقوق الإنسان في مصر أثارت انتقادات عنيفة، حيث ترى المنظمات غير الحكومية التي دعت إلى التظاهر اليوم الثلاثاء، 8 ديسمبر/كاون الأول، أمام مقر الجمعية الوطنية، أنه ينبغي على فرنسا أن تنتقل الآن من "الأقوال إلى الأفعال"، وتعتبر أنه ينبغي عليها أولاً "وقف بيع الأسلحة ومعدات المراقبة الإلكترونية" لمصر، وإلا "قد تجد نفسها شريكة في القمع" على ما قال أنطوان مادلان من الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان لوكالة الأنباء الفرنسية.
صفقات الأسلحة وملفات أخرى
الملفات المشتركة بين ماكرون والسيسي، التي تحدثا عنها في مؤتمرهما الصحفي يمكن تلخيصها في "مكافحة الإرهاب والأزمة الليبية والخلافات مع تركيا في مسألة شرق البحر المتوسط"، وعبر السيسي عن ذلك بقوله "اتسمت مباحثات اليوم بالصراحة والشفافية، وعكست مدى تقارب وجهات النظر بيننا حول كثير من الملفات والقضايا الثنائية".
ويرى كثير من المراقبين أن "مكافحة الإرهاب" بالنسبة للسيسي تتلخص في محاربته ليس فقط لجماعة الإخوان، التي صنفها نظامه جماعة إرهابية، لكنها تمتد للمعارضة والمعارضين له من جميع التيارات، وهذا منعكس في الاعتقالات بحق أكاديميين وناشطين يساريين واشتراكيين ومستقلين، وليس فقط من ينتمون لتيار الإسلام السياسي.
أما ماكرون فإن عداءه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أصبح العنوان الأبرز في مواقف فرنسا في الملفات العالقة من ليبيا إلى شرق المتوسط إلى القوقاز؛ ففي ليبيا قدمت فرنسا ماكرون الدعم لخليفة حفتر زعيم الحرب، الذي انقلب على العملية السياسية وسعى إلى السيطرة على البلاد، وفرض نظام عسكري، لكنه فشل رغم مساندة مصر والإمارات وفرنسا وروسيا له، في مقابل الدعم التركي للحكومة الشرعية في طرابلس.
وفي شرق المتوسط تقف فرنسا في صفّ اليونان في نزاعها مع تركيا بشأن ترسيم الجرف القاري بينهما، وفي القوقاز اتخذت باريس موقفاً داعماً لأرمينيا، التي كانت تحتل إقليم ناغورني قره باغ الأذربيجاني، رغم وجود فرنسا ضمن مجموعة منسك الدولية إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا، وهي المجموعة المناط بها تنفيذ قرارات مجلس الأمن الصادرة قبل نحو ثلاثة عقود والداعية لانسحاب أرمينيا من الإقليم، بينما دعمت أنقرة أذربيجان حتى انتصرت عسكرياً، وأجبرت أرمينيا على توقيع وثيقة الاستسلام.
وبالتالي فإن زيارة السيسي لباريس وتغاضي ماكرون عن ملف حقوق الإنسان في مصر ربما لا يكون مرتبطاً بصفقات الأسلحة الفرنسية لمصر كما يعتقد البعض، فليس مقرراً توقيع أي عقد كبير بمناسبة هذه الزيارة، على غرار صفقة بيع 24 طائرة من نوع رافال إلى مصر في السنوات الأخيرة.
لكن يرى بعض المحللين أن خسارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب -حليف السيسي وداعمه الأبرز في السنوات الأربع الماضية- تعتبر سبباً هاماً وراء زيارة الرئيس المصري لباريس الآن، بحثاً عن دعم تحالفه مع نظيره الفرنسي، الذي يبدو أن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر لا تمثل عائقاً أمام هذا التحالف.
موقف ماكرون بالطبع يكشف تناقضاً صارخاً وازدواجية معايير من جانب رئيس دولة يتخذ موقفاً مؤيداً وداعماً للرسوم المسيئة لنبي الإسلام متذرعاً بحرية التعبير، وفي الوقت نفسه لا يرى في انتهاكات حقوق الإنسان في مصر عقبة أمام التحالف مع رئيس تصفه الصحافة والجماعات الحقوقية الفرنسية بأنه مستبد وعنيف ولا يقيم وزناً لحقوق أو حتى حياة معارضيه.