لم يكن اغتيال محسن فخري زادة أول استهداف لعلماء البرنامج النووي الإيراني، وعلى الأرجح لن يكون الأخير، فهل تحقق لإسرائيل وأمريكا هدف تدمير القدرات الإيرانية؟
موقع Responsible Statecraft الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: "التقدم النووي الإيراني استمرَّ، حتى مع اغتيال علمائها واحداً تلو الآخر"، أعده محمد ساحيمي، أستاذ في جامعة جنوب كاليفورنيا بلوس أنجلوس الأمريكية، وهو محلل متخصص في الشؤون الإيرانية.
لائحة طويلة من الاغتيالات
منذ أيام قليلة، اُغتيل محسن فخري زادة، القيادي البارز في برنامج إيران النووي والصاروخي. ويعتقد كثيرون أن مقتله في 27 نوفمبر/تشرين الثاني كان عملاً من صناعة إسرائيل، وإن كان هذا الاتهام لم يجر التأكد منه بعد. لكن إذا كان الأمر كذلك، فهو ليس أقل من إرهاب ترعاه دولة.
كانت إسرائيل والولايات المتحدة تتحريان عن فخري زادة وتبحثان عنه لمدة تزيد على 15 عاماً كجزء من حرب سرية أوسع نطاقاً ضد طهران يُفترض أن هدفها عرقلة سير برامجها النووية والصاروخية، والتي تصر إسرائيل على أن الغرض منها إنتاج الأسلحة ووسائل إيصالها إلى أهدافها.
ومن ثم، فإن السؤال المطروح هو: هل حققت اغتيالات إسرائيل العديدة، التي يعتبرها الاتحاد الأوروبي "إجرامية" وأدانتها أغنيس كالامارد، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء، أهدافها المرجوّة؟
للإجابة عن هذا السؤال، وفهم تداعيات هذا السلوك الإرهابي، دعونا نلقِ نظرة على التقدم الذي أحرزه البرنامجان النووي والصاروخي، قبل الاغتيالات وبعدها.
البرنامج النووي
كان الدكتور أردشير حسين بور، مدير مركز الدراسات والكهرومغناطيسية وتطبيقاتها في البرنامج النووي الإيراني، أول عالم إيراني كبير يُغتال، في 15 يناير/كانون الثاني 2007. ومع أن إيران أنكرت في البداية اغتياله، فقد أوردت تقارير عديدة لاحقاً أن الموساد الإسرائيلي اغتاله بالسم الإشعاعي، وهو الآن مدرج في قائمة العلماء الذين قتلهم جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد).
صدرَ آخر تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية حول البرنامج النووي الإيراني، قبل اغتيال حسين بور بنحو شهرين بالضبط، في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2006. ووفقاً لذلك التقرير، لم تكن إيران قد أنتجت أي يورانيوم مخصّب في ذلك الوقت، ولم تكن قد أنشأت بعد أي عدد معتبر من أجهزة الطرد المركزي بما يكفي للشروع في عمليات التخصيب.
في أواخر عام 2010، تعرضت منشأة نطنز النووية الإيرانية لهجوم بواسطة دودة حاسبية خبيثة "ستوكسنت" Stuxnet، وردَ أنها من تصميم الولايات المتحدة وإسرائيل، وساد اعتقاد في ذلك الوقت بأنها أشد الأسلحة الإلكترونية تطوراً وتعقيداً جرى نشرها على الإطلاق. دمّر الهجوم ما يزيد على 1000 جهاز طرد مركزي في نطنز، وذكرت صحيفة The Telegraph أن الفريق غابي أشكنازي، رئيس الأركان السابق للجيش الإسرائيلي، أكد دور بلاده في هجوم "ستوكسنت".
بعد ذلك، وفي الفترة من يناير/كانون الثاني 2010 ويناير/كانون الثاني 2012، اُغتيل أربعة علماء إيرانيين: البروفيسور مسعود علي محمدي في 12 يناير/كانون الثاني، ومجيد شهرياري في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وداريوش رضائي نجاد في 24 يوليو/تموز 2011، ومصطفى أحمدي روشن، أحد أبرز الشخصيات في منشأة نطز الإيرانية لتخصيب اليورانيوم، في 11 يناير/كانون الثاني 2012.
وقد صدر آخر تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية عن برنامج إيران النووي قبل تلك الموجة من الاغتيالات في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2009. وأفاد التقرير وقتها بأن إيران أنتجت 1763 كغم من اليورانيوم منخفض التخصيب، باستخدام 3936 جهاز طرد مركزي، في الوقت الذي عملت فيه على تركيب 4756 جهاز طرد مركزي آخر.
بالإضافة إلى ذلك، كُشف عن "محطة فوردو" لتخصيب اليورانيوم، مدفونة في أعمال الجبال إلى الجنوب من العاصمة طهران، علاوةً على تحقيق تقدمٍ في بناء "مفاعل أراك للماء الثقيل". وما يعنيه ذلك، أن مقتل الدكتور حسين بور لم يعرقل تطوير البرنامج النووي الإيراني، بل الأحرى أن البرنامج قد تسارع بعد وفاته.
مضت بضع سنوات، وفي 14 يوليو/تموز 2015، جرى التوقيع على الاتفاقية النووية، المعروفة باسم "خطة العاملة الشاملة المشتركة"، بين إيران ومجموعة الدول الكبرى. لكن السؤال هو: كيف كان وضع البرنامج النووي الإيراني مباشرة قبل التوقيع على خطة العمل الشاملة المشتركة وبعد موجة الاغتيالات التي شُنّت قبلها بثلاث سنوات؟
في 28 مايو/أيار 2015، ذكر تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران قامت بتخصيب نحو 15968.5 كغم من سادس فلوريد اليورانيوم حتى مستوى 5%، و446.8 كغم أخرى من اليورانيوم المخصب بنسبة وصلت إلى 19.75% للوقود اللازم لمفاعل الأبحاث في طهران، الذي يوفر النظائر المشعة الطبية لنحو مليون مريض سنوياً. كما أورد التقرير أن إيران كانت تستخدم ما يزيد على 19 ألف جهاز طرد مركزي أكثر تقدماً، فيما كانت أجهزة الطرد المركزي الأعلى كفاءة تقترب من الإنتاج. وهكذا، يبدو أن اغتيالات 2010-2012 لم يكن لها سوى تأثير طفيف، إن وجد، في تقدم البرنامج النووي الإيراني.
بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة، صدّرت إيران فيما بعد 97% من إنتاجها من اليورانيوم منخفض التخصيب إلى روسيا، وأوقفت أكثر من 13 ألف جهاز طرد مركزي عن العمل، وأزالت أجهزة الطرد المركزي من منشأة فوردو، ودمّرت منشآت الإنتاج في مفاعل آراك للماء الثقيل، وانصاعت لتنفيذ البروتوكول الإضافي لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، التي تمنح الوكالة الدولية للطاقة الذرية الحق في إجراء عمليات تفتيش أكثر تدخلاً في المنشآت النووية الإيرانية لضمان امتثالها لمعاهدة حظر الانتشار النووي.
لكن في المقابل قررت إدارة ترامب الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2012، في انتهاك لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231، وفرضت العقوبات الاقتصادية الأشد قسوة في تاريخ الولايات المتحدة على إيران.
برنامج الصواريخ
على مدى عقدين من الزمن، حاولت الولايات المتحدة وإسرائيل تقويضَ برنامج الصواريخ الإيراني، وهو دفاع البلاد التقليدي الوحيد الموثوق به في ظل غياب قوة جوية حديثة عنها. وهكذا، في يوليو/تموز 2001، عُثر على العقيد المهندس علي محمودي ميمند، أحد مؤسسي برنامج الصواريخ الإيرانية، ميتاً في مكتبه في ظل ما وصف في ذلك الوقت بالظروف المشبوهة.
وفي 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وقع انفجار في قاعدة صواريخ تابعة للحرس الثوري الإيراني بالقرب من طهران، وقُتل في الانفجار اللواء حسن طهراني مقدم، وهو شخصية رائدة فيما يتعلق ببرامج تطوير الصواريخ الإيرانية. ونسبت صحيفة The Guardian، إلى جانب مصادر أخرى، الانفجار إلى إسرائيل.
ومع ذلك، لم تؤد أي من أعمال الاغتيالات والتخريب تلك، باستثناء هجوم "ستوكسنت"، إلى عرقلة برامج إيران النووية والصاروخية على نحو ملحوظ، فقد أصبحت العلوم ذات الصلة متاحة محلياً، وعندما يُقتل قائد البرنامج، سرعان ما يكون هناك كثيرون على استعداد لتولي المسؤولية.
وكانت الحكومة الإيرانية خصَّصت جزءاً كبيراً من دفعات طلابها الجامعيين السنوية في تخصصات العلوم والهندسة لأطفال العائلات التي يُنظر إليها على أنها مخلصة للجمهورية الإيرانية. وللجيش الإيراني أيضاً جامعتان يتخصص فيهما مجندوه في الأقسام ذاتها، لا سيما فيما يتعلق بالتطبيقات العسكرية. إحداها هي جامعة "مالك عشتار" للتكنولوجيا، حيث كان يعمل الدكتور حسين بور، وهي مؤسسة تحظى بتمويل جيد، وبسبب الشكوك حول تورطها في البرنامج النووي الإيراني، كانت تخضع لعقوبات الأمم المتحدة، قبل أن تُرفع لاحقاً عندما دخل الاتفاق النووي الإيراني حيز التنفيذ، أما الجامعة الأخرى، فهي جامعة إمام حسين الشاملة، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحرس الثوري الإيراني.
على الجانب الآخر، من المؤكد أن التأثير الأكثر ديمومة لهذه الاغتيالات كان نفور الشعب الإيراني وانعزاله أكثر فأكثر، فالإيرانيون، وإن كانوا، في عمومهم، قوميون بشدة ويرفضون أي تدخل في الشؤون الداخلية لإيران، إلا أنهم تاريخياً لطالما كانوا موالين للغرب في توجهاتهم الثقافية وحتى السياسية. لكن مع الأسف، دفعت العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي بدأت خلال إدارة كلينتون الإيرانيين إلى إعادة تقييم آرائهم الإيجابية في الولايات المتحدة.
وعلى النحو نفسه، تفاءل الإيرانيون بالاتفاق النووي، ورأوا فيه إمكانية حقيقة لإعادة إحياء شراكتهم مع الولايات المتحدة والغرب، وكوفئ الرئيس حسن روحاني، المعتدل الذي دافع عن الاتفاق النووي وأعطى أولوية لعلاقات أفضل مع الغرب، بانتصار ساحق في إعادة انتخابه في عام 2017. غير أن انسحاب ترامب من الاتفاقية النووية، وإتْباعها بعقوبات اقتصادية أشد قسوة ثم اغتيال اللواء قاسم سليماني في يناير/كانون الثاني الماضي، أدى إلى تغيير جذري في نظرة الشعب الإيراني إلى الولايات المتحدة.
وبالمثل، على الرغم من تعاطف الإيرانيين مع الشعب الفلسطيني، فإن شريحة كبيرة من المواطنين لم تدعم مطلقاً الخطاب شديد الحدة لرجال الدين فيما يتعلق بإسرائيل، لكن مع استمرار إسرائيل في اغتيال العلماء الإيرانيين وتحالفها الفعلي مع السعودية، المنافس الإقليمي الأول لإيران، ازدادت نظرة الشعب الإيراني سلبيةً حيال إسرائيل.
في الختام، يجب الالتفات إلى أن الأهمية الاستراتيجية لإيران تجعل من ذلك التغيير في موقف الشعب الإيراني تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل النتيجةَ الأهم والأشد عاقبةً لأعمال التخريب والقتل هذه، وهذا لا يبشر بأي خير في المستقبل.