يُمكننا الآن أن نتنفس جميعاً الصعداء. إذ شارف كابوس حقبة ترامب على النهاية. بينما يُعتبر الرئيس المنتخب جو بايدن شخصاً له قدرٌ غير مألوف من اللياقة، والنزاهة، وحسن التقدير، كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية. بينما ستُغلق نائبة الرئيس المنتخب كامالا هاريس، الجامايكية من أصلٍ هندي، الباب في وجه كراهية النساء والعنصرية التي كانت تنبعث من البيت الأبيض خلال السنوات الأربع الماضية. وبحلول العشرين من يناير/كانون الثاني، ستعود الولايات المتحدة لتصير "مرساةً لقيم الليبرالية، والتعدّدية، والمؤسسات الديمقراطية، والعمل الجماعي العالمي"، كما تقول المجلة.
الأوروبيون مرتاحون، ولكن
يشعر الأوروبيون تحديداً بالارتياح لفوز بايدن، حيث سيحظون من جديد بأصدقاء "أوفياء ويُعتمد عليهم" داخل البيت الأبيض. رغم ذلك، لا يجب أن تتوقّع أوروبا عودةً إلى الوضع القائم قبل حقبة دونالد ترامب. إذ لن يكون أمام بايدن خيار سوى التركيز على الجبهة الداخلية إبان محاولته لملمة شتات بلدٍ مُقسّم وجريح، واحتواء الجائحة، وإعادة الاقتصاد إلى الحياة. لكن مجتمع الأطلسي على مشارف أيام جيدة، رغم أنّه لا يزال أمامه الكثير من العمل، لذا يجب تحديد التوقّعات بناءً على ذلك.
وتُعَدُّ أهم تأثيرات فوز بايدن رمزية في المقام الأول -فداخل الديمقراطية الأبرز في العالم، انتصرت الوسطية والاعتدال على التشدّد الشعبوي. صحيحٌ أنّ النتيجة جاءت متقاربةً للغاية، لكن البندول عاد إلى الوسط السياسي. وهو ما يُمثّل جرعةً في ذراع الوسطية السياسية بطول مجتمع الأطلسي وما وراءه. لم تُهزم القومية الشعبوية بالطبع، ولكن الموازين انقلبت. والغرب يستعد للعودة إلى "الخطاب المنطقي والقيم الليبرالية التي تُعد بمثابة الأوكسجين الذي يُظهر قوته الباقية".
وسيمتد تفضيل بايدن للعمل الجماعي العالمي إلى ما وراء مجتمع الأطلسي. إذ سيحارب تغيّر المناخ، ويدعو للصحة العالمية، ويدفع بالأمن السيبراني، ويُحارب العنف ويُحافظ على منع انتشار الأسلحة النووية -لأن بايدن يُقدّر هذه التحديات وغيرها بشدة ويُدرك ضرورة مناقشتها بشكلٍ فعّال عبر التعاون مُتعدّد الأطراف. وستُعاود واشنطن تشكيل التحالفات من جديد، بدلاً من تفكيكها.
التعلّم من أخطاء حقبة ترامب
وهذه كلها أنباءٌ جيدة، فسوف تكون أمريكا وأوروبا وبقية العالم أفضل حالاً. ولكنّ الخطر لم يزُل بعد. إذ كانت نتائج الانتخابات الأمريكية متقاربة. ورغم عدم أهلية ترامب الاستبدادية، لكن 73 مليون أمريكي أرادوا منه البقاء لأربع سنوات أخرى. وبالمثل، فقد تماسك الوسط السياسي في الكثير من أجزاء أوروبا، لكنه لا يزال مُعرّضاً للخطر بشدة.
وتتطلّب المهمة التالية التعلّم من أخطاء حقبة ترامب، وليس التغاضي عنها. وإلّا سيكون بايدن مجرد استراحةٍ مؤقتة من الإغراء الزائف للاستبداد واللاليبرالية والشعبوية. لقد ظهر ترامب على حقيقته بالكامل خلال السنوات الأربع الماضية، لكنّه حصل رغم ذلك على 10 ملايين صوت أكثر مما حصل عليه في عام 2016، وهي لا تعُد هزيمةً مدوية لفكره السياسي.
وبالتالي فإن على الأمريكيين والأوروبيين العمل معاً من أجل التطرّق للمصادر الأساسية التي تدعو باستمرار إلى التشدّد الشعبوي. والأولوية الكبرى هي تقليل عدم اليقين الاقتصادي عن طريق احتواء الجائحة، ورسم الطريق إلى مستقبل العمل في الحقبة الرقمية. وتكمُن الأولوية الأخرى في الخروج بسياسات هجرة تُلبّي الالتزامات الأخلاقية، والاحتياجات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية، مع تأمين حدودها في الوقت ذاته. وإلّا ستواصل الدعوات الشعبوية اكتساب الزخم. وليست الأوضاع مثاليةً داخل الولايات المتحدة وأوروبا بالطبع، لكن الحوار العابر للأطلسي حول هزيمة كوفيد-19 وخلق فرص العمل وإدارة الهجرة هو حوارٌ لابد منه.
ما يجب على الأوروبيين الاستعداد له
كما يجب على الأوروبيين الاستعداد لتحمل المزيد من الأعباء الدفاعية، والمسؤولية عن حماية أنفسهم. إذ سيستمر بايدن في نهج الانسحاب الذي بدأه ترامب، ويتفق الديمقراطيون والجمهوريون على أن الوقت قد حان لإنهاء "الحروب الأبدية" في الشرق الأوسط بأكبر قد ممكن. كما سيرغب بايدن في أن يظهر لناخبيه أن الحلفاء جاهزون لفعل المزيد عند معاملتهم باحترام والاستماع لهم، بدلاً من إهانتهم وإلقاء المحاضرات على أسماعهم.
وأخيراً، بمجرد تولّي بايدن منصبه، يجب أن تفتح الولايات المتحدة وأوروباً حواراً حول إطلاق حوار مستدام من أجل صياغة نهجٍ مشترك في التعامل مع روسيا والصين. إذ إنّ الحفاظ على إجماعٍ عابر للأطلسي بشأن التعامل مع موسكو وبكين يُعَد أولويةً مُلحة، ولكنّها لن تكون مهمةً سهلة. ويتزايد الضغط حالياً في أوروبا من أجل تخفيف العقوبات على روسيا. وفي حال استمرت التوترات بين الولايات المتحدة والصين في التصاعد، فربما تختار أوروبا أن تسلك مسارها الخاص، حتى وإن كان ذلك لمجرد الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع الصين.
وتُوفّر رئاسة بايدن فرصة لإعادة بناء النظام الليبرالي الذي نصّبه الأمريكيون والأوروبيون معاً بعد الحرب العالمية الثانية، أو "إعادة بنائه بشكلٍ أفضل" كما يقول بايدن.