قال الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن أثناء حملته إنه سيعيد بلاده إلى الاتفاق النووي مع إيران، لكن وقائع كثيرة تجعل الأمر سهلاً من حيث الوعود، لكن ربما يكون تنفيذه شبه مستحيل، فما القصة؟
أكثر الملفات تعقيداً
الاتفاق النووي مع إيران ربما يكون أكثر الملفات التي سيكون على بايدن التعامل معها تعقيداً، لأكثر من سبب، أبرزها أنه ليس ملفاً ثنائياً بين طهران وواشنطن، لكنه قضية متعددة الأطراف؛ فالاتفاق نفسه وقَّعت عليه ست دول هي: الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين، إضافة إلى إيران، وانسحبت منه واشنطن في ظل إدارة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب بشكل أحادي، بينما لا يزال الاتفاق نفسه قائماً، من الناحية القانونية.
وهناك دول إقليمية، أبرزها إسرائيل والسعودية، كانت معترضة تماماً على الاتفاق الذي تم إبرامه عام 2015 في ظل إدارة الرئيس السابق باراك أوباما وكان جو بايدن نائباً له، ولعبت تلك الدول دوراً جوهرياً في إقناع ترامب بالانسحاب من الاتفاق، وخلال العامين الماضيين منذ انسحاب ترامب جرت في النهر مياه كثيرة جعلت قرار الإدارة الجديدة في واشنطن العودة إليه بمجرد تسلمها مهامها في 20 يناير/كانون الثاني المقبل أمراً بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً.
ونشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تقريراً بعنوان "بايدن يريد العودة للاتفاق النووي مع إيران، لكن المهمة لن تكون سهلة"، رصد الأسباب التي يرجح أن تجعل العودة للاتفاق النووي أمراً غير محتمل من الأساس، على الأقل في شكله الحالي.
فشل سياسة ترامب
ويرى كثير من المحللين أن السبب الأهم الذي يجعل إعادة الاتفاق النووي الحالي للحياة عن طريق عودة إدارة بايدن إلى الالتزام به أمراً صعباً للغاية هو فشل استراتيجية الضغط القصوى التي اتبعها دونالد ترامب في إجبار إيران على التفاوض من جديد، حسبما أراد الرئيس المنتهية ولايته، فطهران التي عانت من أزمة اقتصادية خانقة بسبب العقوبات الكاسحة التي فرضها ترامب على مدار عامين ترى أنها انتصرت وأصبحت في موقف أقوى، وهو ما يجعلها تضع شروطاً من المستحيل أن يقبلها بايدن لإعادة تفعيل الاتفاق النووي الحالي.
وقد نشرت مجلة The National Interest الأمريكية تقريراً بعنوان: "ضغط أقصى وحد أدنى من النجاح: لماذا تحتاج الولايات المتحدة لإعادة ضبط البوصلة مع إيران؟"، تناول التعقيدات التي نتجت عن انسحاب ترامب من الاتفاق وأين كانت معطيات الملف النووي قبلها وإلى أين وصلت بعدها.
فعندما انسحب ترامب من الاتفاق عام 2018، كانت إيران تمتلك أقل من 102 كغم من اليورانيوم المخصب نتيجة لالتزامها ببنود الاتفاق النووي، لكن بعد الانسحاب الأمريكي أعلنت طهران أنها لم تعد ملزمة ببنود الاتفاق في هذه النقطة، وأعلنت وكالة الطاقة الذرية الدولية الأسبوع الماضي أن طهران الآن تمتلك أكثر من 2440 كغم من اليورانيوم المخصب، وهو 8 أضعاف الحد الأقصى الذي حدده الاتفاق النووي.
هذه الكمية تجعل من "زمن الاختراق" الذي تحتاجه إيران لتصنيع سلاح نووي أقل كثيراً من عام واحد، رغم أن إيران تنفي دائماً سعيها لامتلاك قنبلة نووية. وهذه النقطة بالطبع تصب في صالح إيران عندما تحين لحظة التفاوض وتجعلها أكثر تشبثاً بالحصول على مكاسب إضافية من العودة للاتفاق.
المؤشر الآخر على فشل استراتيجية الضغط القصوى لترامب هي أن إيران واجهت العقوبات الأمريكية عن طريق تعظيم الاعتماد على قطاعها الصناعي المحلي وتنويع مصادر اقتصادها المحلي، ورغم سعي إدارة ترامب لوقف برامج الصواريخ الباليستية الإيرانية بشكل كامل وليس فقط تخفيضها، جاءت النتائج معاكسة تماماً حتى الآن واعتمدت إيران أكثر على التصنيع العسكري محلياً.
الوضع الداخلي في إيران
السبب الآخر الذي يعقد الموقف هو الانتخابات الرئاسية في إيران في يونيو/حزيران 2021، أي بعد خمسة أشهر فقط من تولِّي إدارة بايدن، وفي ظل تنامي قوة المحافظين في إيران وضعف موقف الرئيس حسن روحاني من المتوقع أن يكون الموقف الإيراني أكثر تشدداً في مفاوضات العودة للاتفاق النووي وهو ما أظهرته بالفعل التصريحات الصادرة من إيران مؤخراً.
وقد سعى نائب وزير خارجية إيران عباس أرغاشي إلى توصيل رسالة لمستشاري بايدن من خلال وسطاء مفادها أن طهران مصممة على عودة واشنطن إلى الاتفاق دون أي شروط قبل استئناف المفاوضات، بحسب ما قاله دبلوماسيون إيرانيون لنيويورك تايمز، وأضافوا أن إيران غير مهتمة "بتجميد مؤقت" وأنها لن توقف تخصيب اليورانيوم أو تخفيض مخزونها منه قبل العودة غير المشروطة.
ليس هذا فحسب، لكن إيران تصر أيضاً على رفع العقوبات التي فرضها ترامب فوراً إضافة إلى قيام إدارة بايدن بدفع تعويضات لطهران عما فقدته بسبب تلك العقوبات، وهذه الشروط بالطبع لن يكون بايدن قادراً على تلبيتها حتى لو رغب في ذلك بسبب المعارضة الأكيدة من الكونغرس، بحسب مراقبين.
وقد تحدثت صحيفة نيويورك تايمز مع مساعدي بايدن بشأن القصة، لكنهم قالوا إن ملف الاتفاق النووي مع إيران لن يتم التعامل معه إلا بعد تسلم الإدارة الجديدة مهامها في يناير/كانون الثاني المقبل.
بايدن بين شقّي الرحى
ومع فرض ترامب مزيداً من العقوبات على إيران في الفترة المتبقية من ولايته، بل ورغبته في توجيه ضربة عسكرية لمنشآتها النووية لولا أن مستشاريه أقنعوه بالعدول عن الفكرة خوفاً من تطور الأمور إلى حرب أكبر، سيجد بايدن نفسه مكبل اليدين ما أن يستقر في البيت الأبيض.
فالطبيعة القانونية للعقوبات التي فرضها ترامب ويخطط لفرض المزيد منها تجعل محاولة تراجع بايدن عنها كابوساً معقداً من الناحية البيروقراطية والقانونية، خصوصاً مع فقدان الديمقراطيين لكثير من المقاعد في مجلس النواب قلصت من غالبيتهم ووجود فرصة كبيرة أن يظل الجمهوريون مسيطرين على الأغلبية في مجلس الشيوخ.
كل هذه المعطيات تجعل ما أعلنه بايدن في سبتمبر/أيلول الماضي في مقالة له نشرها موقع CNN من أنه سوف يقدم لطهران "طريقاً موثوقاً للعودة إلى الدبلوماسية. لو عادت إيران إلى الالتزام الصارم بالاتفاق النووي، سوف تعود الولايات المتحدة لإعادة الانضمام للاتفاق كنقطة انطلاق لمفاوضات تالية"، وهذا من السهل التعبير عنه بالكلمات، لكن تحقيقه على أرض الواقع يقترب من كونه "مهمة مستحيلة".