أظهرت معركة بايدن وترامب أن عيوب النظام الانتخابي الأمريكي أصبحت تُمثل مُجتمعةً تهديداً وجودياً لسمعة الولايات المتحدة -بل بقائها- بوصفها أقدم ديمقراطية دستورية على وجه الكوكب.
كشفت الانتخاباتُ العيوبَ الراسخةَ في الطريقة التي يختار بها الأمريكيون قادتهم. حتى إن بعضاً من هذه العيوب قديمةٌ قِدم الدولة نفسها، بينما كانت عيوب أخرى مستحدثة في عهود أقرب، مما أتاح لترامب والجمهوريين التسلح بها، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
فوز بايدن جاء رغم عيوب النظام الانتخابي الأمريكي
في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني، ثبتت قدم الولايات المتحدة بعد أن كادت تزل بانتخاب رئيس ازدرى مراراً وتكراراً التقاليد والمؤسسات الديمقراطية.
ومع ذلك، احتاج الأمر عزيمة قوية لهزيمته، فقد صوت لصالح دونالد ترامب أكثر من 71 مليون مواطن أمريكي، أي أكثر من أي رئيس سابق بخلاف جو بايدن، وذلك بسبب نسبة المشاركة التاريخية وأصوات أصحاب البشرة السمراء الذين قلبوا الطاولة. لم يحدث هذا الأمر الاستثنائي بسبب السمات الفريدة للنظام الديمقراطي الأمريكي، بل رُغماً عن سمات هذا النظام.
ومثلما قال إيان باسين، المدير التنفيذي لمنظمة Protect Democracy غير الحكومية: "سمحت الولايات المتحدة لشخص استبدادي بأن يصل إلى الرئاسة، ليشغل المنصب لأربع سنوات وكانت هذه السنوات على وشك أن تمتد. السؤال الأصعب هو: كيف حدث هذا، وما الذي سار على نحو سيئ هناك؟".
عبرت شيرليت آيفيل، رئيس الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين (NAACP)، عن فكرة مشابهة في مجلة Slate الإلكترونية: "نظام التصويت الخاص بنا يعتريه خلل بصورة جوهرية. مستقبل بلادنا يعتمد قطعاً على قدرتنا على إصلاحه".
تلقي صحيفة The Guardian الضوء في السطور القادمة على خمسة من أبرز العيوب خلال هذه الدورة الانتخابية، وتطرح سؤالاً يقول: "ما هي آمال إصلاحها؟".
إليك هذه العيوب
1- المجمع الانتخابي: يمنح الجمهوريين وزناً أكبر من أصواتهم بنسبة 5%
تعافت الولايات المتحدة من كمّ هائل من الضغوط الناتجة عن انتظارٍ مدمرٍ للأعصاب لما تُعرف بالولايات المتأرجحة. سوف يتذكر الشعب الأمريكي انتخابات 2020 بأنها الانتخابات التي كانت شديدة التقارب.
بيد أنها لم تكن كذلك على الإطلاق.
تقدم بايدن على ترامب بعدد أصوات كبير للغاية تجاوز 5 ملايين صوت أمريكي في التصويت الشعبي، وهو نتاج فرز عدد أصوات الناخبين بكل بساطة.
إذ إن التصويت الشعبي هو ما يُعمل به في أغلب الأنظمة الديمقراطية، ولكن ليس في الولايات المتحدة. تُحدد نتيجة الانتخابات في الولايات المتحدة عن طريق المجمع الانتخابي: وهو نظام غامض ملتوٍ يجري فيه اختيار الرئيس ليس عن طريق إرادة الشعب، بل بطريقة غير مباشرة من خلال كمية أصوات تبلغ 538 صوتاً تُمنح كل ولاية نسبة منها.
وتجدر الإشارة إلى أن هيلاري كلينتون حصلت في 2016 على أصوات أكثر من دونالد ترامب بحوالي 3 ملايين صوت في التصويت الشعبي، خلال انتخابات انتهت بوصول ترامب برغم ذلك إلى رئاسة الولايات المتحدة.
يعد المجمع الانتخابي أحد العيوب الديمقراطية الممتدة منذ ولادة هذه الدولة، عندما ابتُكر بدوافع غير مجردة.
أوضح سبيل رحمن، رئيس منظمة Demos Action غير الربحية: "كان الغرض من ورائه النأي باختيار الرئيس بعيداً عن السيطرة الشعبية الديمقراطية، ويُعزى ذلك جزئياً إلى سلطة الولايات التي تسمح بامتلاك الرقيق؛ ومن ثم كان جائراً منذ بدايته".
وفقاً لتقدير رحمن، يمنح المجمع الانتخابي اليوم المرشح الرئاسي الجمهوري تفوقاً بـ 4% إلى 5% على المنافسين الديمقراطيين.
ليس هناك فرصة للتخلص من نظام المجمع الانتخابي في أي وقت قريب، نظراً إلى أنه يتطلب تعديلاً دستورياً مستحيلاً في زمن الاستقطاب الحزبي المعاصر هذا.
يتمثل الأمل الرئيسي للتغيير في الميثاق الوطني المشترك بين الولايات للتصويت الشعبي، حيث تتفق مجموعة من الولايات على منح أصواتها المنصوصة لها وفقاً لنظام المجمع الانتخابي، إلى المرشح الذي يحصل على أعلى أصوات في التصويت الشعبي. حصلت هذه الحركة على دفعة يوم الانتخابات عندما أيدت ولاية كولورادو هذه الفكرة، لكنها لا تزال احتمالية بعيدة.
2- قمع الناخبين: لا شيء مماثل في العالم الديمقراطي
يبدو الإقبال الكبير على التصويت أكثر إثارة للإعجاب بالنظر إلى العوائق التي وُضعت أمام عملية التصويت. قال إيان باسين: "رأينا في هذه الدورة جهداً من الحزب الجمهوري لزيادة صعوبة التصويت- ولا سيما لأصحاب البشرة السمراء والأقليات".
وأضاف: "لا أعرف نظاماً ديمقراطياً متقدماً آخر في العالم يستثمر فيه أحد الحزبين السياسيين الرئيسيين في قمع الناخبين، بوصفه استراتيجية رئيسية".
أحد أفظع الأمثلة على قمع الناخبين برز في هذه الدورة في ولاية فلوريدا. في 2018، منحت فلوريدا حق التصويت إلى المدانين في جنايات، مما يمنح تقنياً حق التصويت إلى 1.4 شخص ليشاركوا في العملية الديمقراطية.
وعلى الفور، انطلق الجمهوريون في فلوريدا لتقويض إرادة الناخبين، ووضعوا العراقيل البيروقراطية أمام المدانين السابقين بارتكاب جرائم، فكان عليهم الدخول في مفاوضات كي يصوتوا. وقد تعقدت الأمور لدرجة أن 900 ألف شخص ظلوا محرومين من التصويت يوم الانتخابات، بما في ذلك واحد من بين كل ستة أشخاص من أصحاب البشرة السمراء من أبناء فلوريدا ممن هم في سن التصويت.
يعد التصدي لقمع الناخبين إحدى أهم المهام الرئيسية أمام قانون تمثيل الشعب لعام 2019
(HR1)، وهو إصلاح تشريعي قاده الديمقراطيون في الكونغرس. ولكن على مدى 245 يوماً مضت، وُضعت العقبات أمامه في مجلس الشيوخ عن طريق زعيم الأغلبية الجمهورية ميتش ماكونيل.
وفي تلك الحالة، سوف يتحول التركيز على الأرجح خلال العامين القادمين إلى وزارة العدل الأمريكية، التي صارت خاملة فعلياً في هذا الجانب في ظل إدارة ترامب. يتوقع من وزارة العدل مع وجود بايدن أن تعود للعمل، وتتيح الحصول على حق التصويت، وتقاضي خروقات قانون الانتخابات.
3- مجلس الشيوخ: يعتمد على الولايات الريفية
من المرجح أن يبقى ماكونيل وأغلبيته مسيطرين على مجلس الشيوخ نتيجة للديمقراطية الأمريكية المعيبة. إذ إن تشكيل المجلس، الذي يمنح مقعدين إلى كل ولاية بغض النظر عن تعداد سكان الولاية، لديه هو الآخر جذوره الضاربة في الماضي المظلم للبلاد، حسب وصف الصحيفة البريطانية.
يؤدي هذا التشوه إلى محاباة أعضاء مجلس الشيوخ من الولايات الريفية ذات التعداد السكاني القليل التي لديها عدد كبير من الناخبين البيض، مثل مونتانا وولايتي داكوتا الشمالية والجنوبية، ويساعد في تفسير سطوة الجمهوريين على الكونغرس.
وضعت خطط لحل هذه المعضلة على أساس منح صفة ولاية إلى واشنطن العاصمة وبورتوريكو، مما يمنح 4 مقاعد إضافية في مجلس الشيوخ. لن تتقدم مثل هذه الخطط مع وجود ماكونيل في موقع زعيم الأغلبية، ولذا تستمر هذه الحلقة المفرغة.
4- القضاة: ترامب يعينهم
على مدى السنوات الأربع الماضية، دأب ترامب على تعيين أكثر من 200 قاض، جميعم محافظون حتى النخاع، في محاكم المقاطعات والدوائر، إضافة إلى ترشيح ثلاثة قضاة يمينيين للمحكمة الدستورية العليا.
مثل هذا النشاط القضائي يرجح أن يبدل توازن النظام القضائي الفيدرالي على مدى سنوات تالية، مع وجود آثار ظاهرة في أماكن مثل تكساس. اتضح هذا النموذج خلال الانتخابات، عندما قيد الحاكم الجمهوري جريج أبوت عدد أماكن تسليم الأصوات عبر البريد إلى موقع واحد في كل مقاطعة.
يعني هذا أن مقاطعة هاريس، التي تضم مدينة هيوستن، اضطرت لإغلاق 11 موقعاً وتركت واحداً فقط لتسلم أصوات 5 ملايين شخص.
طُعن على هذا التقييد، وظل ينتقل بين المحاكم حتى وصل إلى لجنة مكونة من ثلاثة قضاة في الدائرة الخامسة بمحكمة النقض، التي حكمت لصالح قرار أبوت. وأما عن هؤلاء القضاة الثلاثة، فتجدر الإشارة إلى أن ترامب هو من عينهم.
5- إعادة تقسيم الدوائر: الجمهوريون يحكمون تكساس للأبد
أحد الجوانب الأشد إحباطاً في ليلة الانتخابات بالنسبة للديمقراطيين تمثل في إخفاق "الموجة الزرقاء" في التحول إلى شيء واقعي على مستوى الولايات. تشبث الجمهوريون بالسلطة في المجالس التشريعية لولاية فلوريدا وأيوا ومينيسوتا وكارولينا الشمالية، وسيطروا على نيو هامبشاير.
لم تُستشعر قوة الصفعة في أي مكان أكثر من تكساس، حيث انعقدت آمال الديمقراطيين بالسيطرة على مجلس الولاية على 9 مقاعد متأرجحة. لكنهم لم يحصلوا على أي مقاعد إضافية.
سوف يكون لهذا الفشل -مثل قضاة ترامب- آثار طويلة المدى. إذ إن الفشل في السيطرة على تكساس وولايات أخرى يمنح الجمهوريين هدية السيطرة على إعادة تقسيم الدوائر التي تستغرق 10 سنوات، التي تصاغ على أساسها الحدود الانتخابية.
تقول بريانا براون، نائبة مدير منظمة Texas Organizing Project، التي تسعى لبناء صوت سياسي لمجتمعات اللاتينيين والسود، إن هذه دائرة مفرغة أخرى. إذ إن تقسيم الحدود الانتخابية، الذي يشار إليه بـ"جيري ماندر"، يسمح للجمهوريين بتعزيز سلطتهم، وهو ما يجعلهم مسؤولين عن الجولة القادمة من إعادة تقسيم الدوائر، فسوف يستخدمونها لصالحهم.
تقول بريانا: "هدفنا تحول الديمقراطية في تكساس، وإذا كنا قادرين على القيام بذلك، فنستطيع تحويلها في البلاد. ولكن قبل أن نستطيع البدء حتى في هذا الكفاح، صيغت الخطوط بالفعل، مما يقيد قدرتنا على بناء نظام ديمقراطي يشبهنا ويشارك قيمنا".