عندما خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليعلن أن بايدن قد فاز لأن الانتخابات مزوّرة، فهم العالم أن هذه إشارة من الرئيس العنيد أنه يستعد للاستسلام والاعتراف بالهزيمة، ولكن خرج المحامي رودي جولياني ليقول إن ترامب يسخر من الإعلام وأنه لم يعترف بالهزيمة.
وبعد ذلك بساعات، خرج ترامب لينفي أن يكون قد اعترف بالهزيمة، وكتب على تويتر قائلاً: "أنا الفائز في الانتخابات، لا أعترف بأي شيء"، فيما وضعت إدارة تويتر إشارة تحذيرية تشير إلى أن المصادر الرسمية للانتخابات الرئاسية لا تتفق مع تغريدة ترامب.
عزز هذا الموقف من احتمال يرجحه الكثير من المراقبين وهو أنه من بين كل المحيطين بترامب، فإن المحامي المخضرم رودي جولياني هو المحرض الأكبر لترامب على رفض الاعتراف بهزيمته في الانتخابات.
ولكن ما أضافه هذا الموقف هو أن هناك احتمالاً كبيراً أن ترامب نفسه قد يكون لديه استعداد للاعتراف بفوز بايدن، ولكن مواقف جولياني المتحمسة للدخول في جولة نزاع قانونية هي التي تمنعه.
فمن هو رودي جولياني الرجل الذي يشتبك مع وسائل الإعلام ويسخر من إعلانها فوز بايدن بالانتخابات؟ ولماذا يملك هذا النفوذ، ويحظى أيضاً بكراهية الكثيرين رغم أنه كان في اليوم من الأيام بطل أمريكا، بل إنه لقبه الرسمي عمدة نيويورك اتسع يوماً ما ليصبح عمدة أمريكا؟
ديمقراطي إيطالي نشأ في أجواء الجريمة
من المفارقة أن الرجل الذي يمثل الآن الركن الأساسي للموقف المتطرف لبعض الجمهوريين الرافض، كان ديمقراطياً في الأصل.
وُلد جولياني في 28 مايو/أيار 1944 من أب وأم من أصول إيطالية وفي حي إيطالي بمدينة نيويورك.
واجه مشكلة في الحصول على وظيفة في بداية حياته، وأدين بجناية الاعتداء والسرقة، وقضى فترة السجن في Sing Sing.
بمجرد إطلاق سراحه عمل لصالح صهره ليو دافانزو، الذي عمل لصالح عصابات الجريمة المنظمة كمُرابٍ وفي مجال القمار في مطعم في بروكلين بنيويورك.
درس جولياني فترة في مدرسة دينية كاثوليكية، وكان يستعد ليكون قسيساً، ثم درس الحقوق وحصل على الدكتوراه، وبعد التخرج من كلية الحقوق عمل جولياني كاتباً للقاضي لويد فرانسيس ماكماهون قاضي مقاطعة الولايات المتحدة للمنطقة الجنوبية من نيويورك.
المافيا سبب شهرته، فماذا فعل معها؟
بدأ جولياني حياته السياسية كديمقراطي، تطوع لحملة روبرت إف كينيدي الرئاسية عام 1968.
اكتسب شهرة من دوره في محاكمة لجنة المافيا، التي استمرت من 25 فبراير/شباط 1985 حتى 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1986، حيث كان جولياني المدعي العام للولايات المتحدة، ووجه لائحة اتهام ضد 11 شخصية من شخصيات الجريمة المنظمة، بما في ذلك رؤساء ما يسمى "العائلات الخمس" في نيويورك، بتهم تشمل الابتزاز والقتل مقابل أجر.
وصفت مجلة تايم هذه القضية بأنها "قضية القضايا" وأنها قد تكون "أهم هجوم على البنية التحتية للجريمة المنظمة منذ اجتياح القيادة العليا لمافيا شيكاغو في عام 1943″، وحُكم على ثلاثة من رؤساء العائلات الخمس بالسجن 100 سنوات في السجن في 13 يناير/كانون الثاني 1987.
زعيم نيويورك القوي الذي نجح وهوجم بسبب سياسته الأمنية
وازداد شهرة جولياني عندما تولى منصب عمدة نيويورك، حيث ارتبط اسمه بالازدهار الاقتصادي وتراجع الجريمة المنظمة بالمدينة، كما لُقب بعمدة أمريكا عندما ازداد رمزية منصبه إثر أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2011، وأصبح في نظر العالم رمزاً لصمود المدينة المنكوبة.
تجدر الإشارة إلى أن نيويورك مدينة ليبرالية تقليدياً وانتخابها عمدة جمهوري يمثل نجاحاً شخصياً لجولياني.
ووفقاً لبعض التحليلات، انخفض معدل الجريمة في مدينة نيويورك في التسعينيات والألفينيات من القرن الماضي أكثر من انخفاضه على الصعيد الوطني.
وخلال ولايته عيَّن جولياني مفوض شرطة جديد لمدينة نيويورك هو بيل براتون.
وتبنت إدارة شرطة مدينة نيويورك، تحت إشراف براتون، استراتيجية قوية للردع والإنفاذ بناءً على بحث جيمس كيو ويلسون عن الجريمة.
وشمل ذلك إجراءات صارمة ضد المخالفات البسيطة نسبياً مثل الكتابة على الجدران، والقفز على الباب الدوار، على أساس أن هذا من شأنه أن يرسل رسالة مفادها أنه سيتم الحفاظ على النظام وأن المدينة "سيتم تنظيفها".
وركز جولياني على إزالة المتسولين ونوادي الجنس من تايمز سكوير، وتعزيز روح "القيم العائلية" والعودة إلى التركيز السابق للمنطقة على الأعمال والمسرح والفنون.
كما وجَّه جولياني إدارة شرطة مدينة نيويورك بالملاحقة بقوة للمؤسسات المرتبطة بالجريمة المنظمة، ومن خلال كسر سيطرة الغوغاء على إزالة النفايات الصلبة، تمكنت المدينة من توفير أكثر من 600 مليون دولار.
وجهت انتقادات عديدة لسياسات الشرطة في عهد جولياني واتهمت بأنها عدوانية.
وقد شهدت تلك الفترة عشرات الآلاف من الدعاوى القضائية ضد ضباط الشرطة في نيويورك تتهمهم بممارسة انتهاكات.
بعد ثلاثة أشهر من ولايته، قال جولياني إن الحرية لا تعني أن "يمكن للناس أن يفعلوا أي شيء يريدونه، وأن يكونوا أي شيء يمكن أن يكونوا. فالحرية تتعلق باستعداد كل إنسان للتنازل عن سلطة قانونية عظيمة".
انخفضت معدلات الجريمة بشكل حاد، ونسب الفضل لجولياني على نطاق واسع، لكن النقاد في وقت لاحق استشهدوا بعوامل أخرى ساهمت في ذلك.
في عام 1996، ظهر براتون، وليس جولياني، على غلاف مجلة تايم، بعد عامين أجبر جولياني براتون على ترك منصبه، فيما كان يُنظر إليه عموماً على أنه معركة بين شخصين كبيرين لم يتمكن فيها جولياني فيها من قبول شهرة براتون.
المحامي رودي جولياني يستفيد مالياً من الكارثة
حصل رودي جولياني على لقب شخصية عام 2001 لمجلة تايم، ومُنح وسام الفروسية في 2002 بواسطة الملكة اليزابيث الثانية ملكة المملكة المتحدة.
بعد ثلاثة أشهر من سقوط برجي مركز التجارة العالمي، أنهى فترة عمله في نيويورك وشرع في مهنة مربحة للغاية هي التحدث وإلقاء الخطاب في الفعاليات العامة، حيث حصل على ما يصل إلى 200 ألف دولار لكل مشاركة، وطالب في عقوده بأن ينقل بطائرة خاصة.
على مدى السنوات الست التالية، حصل حوالي 30 مليون دولار، وكان عضواً في 11 نادياً ريفياً ولديه ستة منازل، حسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
التحول الكبير الذي حدث في حياته
تنافس جولياني على ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة لعام 2008، وكان المرشح الأوفر حظاً في وقت مبكر، ومع ذلك كان أداؤه ضعيفاً في الانتخابات الأولية، وانسحب.
فقد رسم صورته كمرشح رئاسي باعتباره زعيماً محافظاً صارماً حريصاً على تطبيق القانون ولكنه ليبرالي في بعض القضايا الاجتماعية.
ولكن كانت هناك شكوك في دعم المحافظين اجتماعياً لجولياني المؤيد لحق الإجهاض والسيطرة على السلاح، فضلاً عن أن علاقته بزوجته الثالثة كانت قد بدأت في وقت كان ما يزال فيه متزوجاً بزوجته الثانية، وهي كلها أمور مزعجة للمحافظين اجتماعياً.
لاحظ المقربون من جولياني حدوث تغيير في شخصيته، قالت جوديث ناثان، زوجته السابقة الثالثة لـ"New York magazine" في عام 2018 إن نهاية زواجهما بدأت عندما خسر الحملة الرئاسية، لمجموعة متنوعة من الأسباب التي أعرفها كزوجة وممرضة، أصبح جولياني رجلاً مختلفاً".
مواقفه المثيرة للجدل
وفي ما يتعلق بالعام العربي وتحديداً منطقة الخليج، فقد سبق أن كشف جولياني أن شركته جولياني للأمن والسلامة وقعت عقداً مع وزارة الداخلية في البحرين للمساعدة في تدريب قوات الشرطة.
وقال في تصريحات صحفية: "إنهم تعاقدوا مع شركتي لتقديم استشارات أمنية لهم، مع التركيز بشكل خاص على الأشياء التي يبدو أنها ارتكبت من قبل الإرهابيين، وعلى وجه التحديد الأعمال الإرهابية التي ارتكبت في معظمها من قبل إيران أو وكلاء إيران".
ومن المعروف أن جولياني من أوائل الساسة الأمريكيين في إقامة علاقة مع منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المثيرة للجدل، التي كان مصنفة إرهابية في أغلب الدول الغربية، ولكن جولياني من الذين دفعوا لتعزيز علاقتها بالولايات المتحدة من أجل استخدامها ضد النظام في إيران.
من بطل إلى محامي ترامب الذي ينقذه من سقطاته
كان جولياني من أوائل المؤيدين المتحمسين لسعي دونالد جيه ترامب إلى الرئاسة في عام 2016.
لعب جولياني دوراً في الدفاع عن ترامب في القضايا الحرجة، عندما ظهر شريط Access Hollywood الذي تفاخر فيه ترامب بالاعتداء الجنسي، بدأ الوكلاء والمؤيدون في التلاشي. فقط جولياني كان مستعداً للدفاع عنه، حيث ظهر في كل واحد من البرامج الحوارية الخمسة البارزة صباح الأحد التي حددت الأجندة السياسية للولايات المتحدة.
ستيف بانون، كبير الاستراتيجيين في عهد ترامب، وصف لاحقاً دوره بأنه لا غنى عنه. يقول بانون: "أحد أسباب فوزنا هو أن رودي كان متواجداً على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع".
حُرم جولياني من المكافأة التي كان يتوق إليها وهي منصب وزير الخارجية، وبدلاً من ذلك استقر بشكل نهائي في فلك ترامب الشخصي كمساعد له ورجل إطفاء، متصالحاً تماماً مع الانتقادات التي وجهت إليه في هذا الشأن واتهامه بفقدان الكرامة بعدما تحول من بطل أمريكا إلى الرجل الذي يحاول أن يبرأ ترامب من الفضائح.
ويعتقد أنه هو الذي أقنع ترامب بشرعية "حظر دخول المسلمين لأمريكا".
كما يعتقد أن جولياني له دور كبير في إقناع ترامب بالاتصال برئيس أوكرانيا وطلب منه فتح تحقيق جنائي في ادعائه بتدخل جو بايدن لصالح عمل ابنه هانتر في شركة أوكرانية، وهو الدور الذي دفع الدبلوماسيين المحترفين إلى اتهامه خلال جلسات الاستماع بإدارة "سياسة الظل الخارجية لترامب"، ووصفه بوزير خارجية الظل في أمريكا.
وقال جولياني إنه التقى بمسؤولين أوكرانيين في مدريد وباريس ووارسو في إطار مساعيه لفتح تحقيق في أمر جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي السابق وأحد المنافسين السياسيين الرئيسيين لترامب في الانتخابات الرئاسية لعام 2020.
وأثيرت تساؤلات حول مَن قام بتمويل رحلات جولياني بينما كان يسعى لنشر مزاعم لم يتم التحقق منها بأن بايدن حاول إقالة كبير المدعين الأوكرانيين آنذاك، فيكتور شوكين، لمنعه من التحقيق في أمر شركة الطاقة التي كان ابنه هانتر يعمل فيها مديراً.
في أواخر عام 2019، ورد أن جولياني كان قيد التحقيق الفيدرالي لانتهاكه قوانين الضغط، وربما عدة تهم أخرى
قبل أسبوعين من توليه حملة ترامب القانونية المشككة في الانتخابات، كان جولياني يدافع عن نفسه بغضب بعد أن نشر مقطعاً من فيلم مثير للجدل يظهر فيه مستلقياً على السرير في غرفة الفندق، حيث ذهب لتناول مشروب مع امرأة شابة كانت تتظاهر بأنها صحفية من تلفزيون كازاخستاني، ونفى جولياني ارتكاب أي مخالفات ووصف اللقطات بأنها "تلفيق كامل".
واشتهر جولياني بتصريحاته المثيرة للجدل التي تدعي وجود تزوير في الانتخابات الأمريكية دون تقديم إثبات.
ففي مؤتمر صحفي، ألقى خطاباً ادعى فيه -مرة أخرى دون تقديم دليل- أن شخصاً واحداً كان يمكن أن يصوّت 100 ألف مرة.
ورغم هذا الجدل والتقلبات الغريبة في مسيرته، فإنه يصر على أنه سيبقى في ذاكرة الأمريكيين باعتزاز في النهاية. وقال خلال قضية أوكرانيا: "سأكون البطل. هؤلاء البلداء عندما ينتهي هذا سيعلمون أني سأكون البطل".