فقدت أيقونة الديمقراطية العالمية التي كانت أشد وهجاً بريقها، وتحولت أونغ سان سو تشي إلى مدافعة لا تلين عن الجنرالات الذين حبسوها ذات يوم، وأخذت تهوّن من شأن حملتهم الإجرامية ضد أقلية الروهينغا المسلمة، فماذا حدث؟
صحيفة The New York Times الأمريكية تناولت القصة في تقرير لها بعنوان: "كيف فقدت زعيمة ميانمار التي كان يُنظر إليها على أنها ملاك حقوق الإنسان هالةَ التقدير بعد أن تولت الحكم ودافعت عن المذابح".
دفاع مستميت عن حقوق الإنسان
عندما خرجت داو أونغ سان سو تشي من سنوات الإقامة الجبرية منذ عقد مضى، كانت شخصية لم تستخدم هاتفاً ذكياً أو فتحت حساباً على موقع فيسبوك الشهير من قبل، أقامت ديوان حكمها في مكتب حزبها السياسي المحظور، فيما كانت رائحة الرطوبة تنبعث من تقارير حقوق الإنسان المتراكمة في جميع أنحاء المكان.
تسلّحت سو تشي بجوائزها الدولية، وبينما أزهار نضرة تتدلى من شعرها، جلست في وضع شخص لا تشوبه شائبة ولا يثنيه أحد عن الدفاع عن الحق، ووعدت العالم بشيئين: أنها ستضمن إطلاق سراح المعتقلين السياسيين في ميانمار، وإنهاء الصراع العرقي الذي أغرق الأراضي الحدودية للبلاد في حالة حرب مستمرة لمدة سبعة عقود.
ومع ذلك، فإن الحال الآن يشهد بأن كلا التعهدين لم يجر الوفاء بهما، لتفقد أيقونة الديمقراطية العالمية الأشد وهجاً، في يوم من الأيام، بريقها. فقد تحولت السيدة أونغ سان سو تشي، البالغة من العمر 75 عاماً، إلى مدافعة لا تلين عن الجنرالات الذين كانوا يحبسونها ذات يوم، وأخذت تهوّن من شأن حملتهم الإجرامية ضد أقلية الروهينغا المسلمة، فيما يتهمها منتقدوها، بأنها انحازت إلى انتمائها إلى أغلبية البامار العرقية، ومن ثم إلى العنصرية والتخلي عن القتال من أجل حقوق الإنسان لجميع الناس في ميانمار.
انهيار السلطة الأخلاقية لصالح الديكتاتورية
غير أن الصادم أنها، وقد بدَّدت السلطة الأخلاقية التي كانت تتحلى بها وفازت بها بجائزة نوبل للسلام، لا تزال تحتفظ بشعبيتها الكبيرة في وطنها، وهذا الأسبوع، فاز حزبها السياسي، "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية"، بأغلبية ساحقة جديدة في الانتخابات العامة، ما يعني خمس سنوات أخرى ستتقاسم فيها السلطة مع الجيش الذي حكم ميانمار لما يقرب من 50 عاماً.
تقول داو ثيت ثيت خين، وهي عضوة سابقة في الرابطة غير أنها انفصلت وأسست حزبها الخاص، إن "أسلوب قيادتها لا يتجه نحو بناء نظام ديمقراطي، بل يتجه صوب الديكتاتورية. إنها لا تستمع لصوت الناس".
وخلال العام الماضي، سافرت أونغ سان سو تشي إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي ووقفت تدافع عن الجيش ضد مزاعم ارتكاب إبادة جماعية بحق مسلمي الروهينغا.
وأمام المحكمة، أصرّت دون بادرة اعتذار على أنه في حين "لا يمكن استبعاد احتمالية الاستخدام غير المتناسب للقوة" ضد الروهينغا، فإن استنتاج نية الإبادة الجماعية من طرف المحكمة يستند إلى "صورة منقوصة ومضللة للوقائع" التي جرت، وبلغ الأمر أن نشرت على صفحتها على موقع فيسبوك منشوراً تحت عنوان "اغتصاب مزيف"، مستبعدة على نحو صادم مزاعم الاعتداءات الجنسية المنظمة جيدة التوثيق ضد الروهينغا.
اعتقالات بحق من يعترض
وفي ظل حكومة أونغ سان سو تشي، أصبحت الأراضي الحدودية في ميانمار، حيث تتجمع الأقليات العرقية الأخرى، أشد اصطراعاً بالنزاعات الآن مما كانت عليه قبل عقد من الزمن، وامتلأت السجون بشعراء ورسامين وطلاب بسبب تعبيرهم السلمي عن آرائهم المعارضة: في ميانمار اليوم، هناك 584 شخصاً إما معتقلون سياسيون أو ينتظرون المحاكمة على تهم من هذا النوع، وفقاً لبيانات "جمعية مساعدة السجناء السياسيين".
تعليقاً على هذا التغير في مواقفها، يقول سينغ نو بان، وهو سياسي ينتمي إلى أقلية الكاشين العرقية التي تقاتل من أجل الحكم الذاتي في شمال البلاد: "الآن بعد أن ذاقت طعم السلطة، لا أعتقد أنها قد تريد مشاركتها مع أي شخص".
نشأت أونغ سان سو تشي وسط عائلة نبيلة لها اشتغال بالسياسة، فهي ابنة الجنرال أونغ سان، بطل استقلال البلاد الذي اغتيل عندما كانت هي في الثانية من عمرها، وبعد 28 عاماً أمضتها في الخارج، عادت سو تشي إلى البلاد في عام 1988، حيث كانت الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية تحاول التكتل في جميع أنحاء البلاد، وفي غضون أربعة أشهر، برزت ربة المنزل، في يوم الأيام، كقائدة للحركة.
على إثر ذلك، قامت الطغمة العسكرية الحاكمة بحبسها في عام 1989، لكن حزبها "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" فاز بالانتخابات التي تجاهل نتائجها النظام الديكتاتوري الحاكم. وبحلول عام 1991، حصلت سو تشي على جائزة نوبل للسلام "لنضالها بالسبل غير العنيفة من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان".
وخلال فترة الإقامة الجبرية في فيلتها المتداعية لمدة 15 عاماً، التزمت سو تشي بجدول زمني صارم، وبممارسة التأمل على الطريقة البوذية، عازمة على الانفصال عن أي اهتمامات أو اشتغالات دنيوية.
لعنة الاستعلاء على الآخرين
ومع ذلك، يبدو الآن أن الفضائل التي اضطلعت سو تشي بتنميتها أثناء الإقامة الجبرية -شموخها الذي لا يقبل تفاوض والعزلة النفسية التي بنتها حول نفسها- هي عينها الأسباب التي أفضت إلى فشلها، حتى الآن، في الكفاح من أجل ديمقراطية تمثيلية حقيقية في ميانمار، ففي نهاية الأمر، ثم خط رفيع بين العزيمة والعناد، وبين التمسك باعتقاد والاستعلاء به على الآخرين.
يقول بيل ريتشاردسون، السفير الأمريكي السابق لدى الأمم المتحدة والحليف القديم لأونغ سان سو تشي: "من المفارقات أنه في حين استخدم المجتمع الدولي حرية التعبير فيه للترويج لحريتها، فإنها الآن تستخدم بعض الآليات القانونية ذاتها التي استخدمها الجيش لخنق حرية التعبير وحرية الصحافة وحرية التجمع".
ويروي ريتشاردسون واقعة انفصاله عن العمل مستشاراً معها قبل عامين، عندما غضبت سو تشي لدرجة اعتقد معها أنها قد تُقدم على صفعه بعد أن أخذ يحثها على إطلاق سراح اثنين من صحفيي وكالة Reuters اللذين احتُجزا بعد الكشف عن مذبحة بحق الروهينغا.
وبعيداً عن خطابها الداعم للديمقراطية، لطالما احتفظت أزتغ سان سو تشي باحترام الجيش الذي كان والدها أحد القائمين على تشكيله. كما كان بعض مؤسسي حزبها ضباطاً عسكريين سابقين حاربوا المتمردين من الأعراق الأخرى في المناطق النائية من ميانمار.
من جانبها، ومنذ توليها السلطة في منصب مستشار الدولة (رئيس الوزراء) في ميانمار في عام 2016، أشادت سو تشي بالجيش مراراً وتكراراً، وفي الوقت نفسه أصرت على رفضها الإقرار بحملة منهجية للجيش لتخليص البلاد من مسلمي الروهينغا. في حين أنه، في عام 2017 فقط، اضطر ما يقرب من ثلاثة أرباع مليون من الروهينغا إلى الفرار واللجوء إلى بنغلاديش المجاورة.
كثير من هؤلاء الباقين في البلاد يقبعون في معسكرات اعتقال، كما لم يُسمح للروهينغا بالتصويت في انتخابات الأحد 8 نوفمبر/تشرين الثاني، وأُلغيت صناديق الاقتراع في مناطق الصراع مع الأقليات العرقية الأخرى، ما أفضى إلى حرمان أكثر من 2.5 مليون شخص من غير عرقية البامار الحاكمة من حقهم في التصويت، ومن ثم عجزت الأحزاب التي تضم أقليات عرقية أخرى عن تحقيق المكاسب الانتخابية التي كانت تتوقعها في السابق، رغم أن الرابطة الوطنية أضفت إلى مرشحيها اثنين من المرشحين المسلمين.
من جهة أخرى، يقول أنصار أونغ سان سو تشي إن رفضها التحدث دفاعاً عن مجتمعات الأقليات الضعيفة في ميانمار لا يرجع إلى شوفينية مبدئية فيها، بل هي براغماتية سياسية تأتي من رغبتها في حرمان الجيش من فرصة الاستيلاء على السلطة مرة أخرى. فقد بدأ الجيش حكمه للبلاد في عام 1962 متذرعاً بأن الحكومة المدنية تسببت في حرب أهلية كادت تعصف بالبلاد.
ومنذ الانتخابات، ظلت أونغ سان سو تشي كامنة في إحدى الفيلات في نايبيداو، العاصمة المحصنة التي بناها الجنرالات لإظهار قوتهم وهيمنتهم. ورفضت مراراً وتكراراً طلبات إجراء مقابلات أو أحاديث معها من طرف صحيفة The New York Times. ومع ذلك يقال إنها لا تزال حريصة على ممارسة طقوس التأمل كل يوم.
أما في الخارج، فيجتاح فيروس كورونا البلاد، وفي يانغون، العاصمة السابقة التي تخلى الجيش عنها، يتبادل جيل جديد من نشطاء حقوق الإنسان النصائح حول كيفية الإفلات من قبضة الشرطة التي سلّطتها حكومة أونغ سان سو تشي لمطاردتهم.
وتقول ما ثينزار شونلي يي، وهي ناشطة تبلغ من العمر 28 عاماً وأُدينت بمخالفة قانون التجمع السلمي عندما خرجت للاحتجاج على اضطهاد الأقليات العرقية: "لدينا ما يقرب من 600 سجينة سياسية، كنت إحداهن قبل بضعة أشهر فحسب"، وتعتقد "أن (سو تشي) لم تبذل جهداً لإرساء أساس ديمقراطي يكفل الحريات الأساسية للجميع".