للمرة الثانية فقط على امتداد التاريخ الأمريكي، رفض رئيس إدارة الخدمات العامة الأمريكية (GSA) بدء الانتقال الرئاسي رسمياً. كل ما يحتاجه الأمر هو خطاب تأكيد، وهي تفصيلةٌ هامشية قلّما برزت قبلاً ضمن إجراءات واشنطن البيروقراطية، لتبدأ رسمياً عملية الانتقال، كما تقول مجلة Foreign policy الأمريكية.
ومع ذلك، بعد أربعة أيام من إعلان المرشح الديمقراطي جو بايدن فائزاً بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، بعد فوزه بولاية بنسلفانيا الحاسمة، رفضت إميلي مورفي، المسؤولة السياسة التي عيّنها ترامب وترأس إدارة الخدمات العامة، إصدار خطاب التأكيد. ويرجع ذلك إلى عاصفة من الطعون القانونية التي لا أساس لها، والتي أطلقتها حملة ترامب زاعمةً تزوير العملية الانتخابية وفسادها.
لكن هذا التأخير له عواقب، فهناك 10 ملايين دولار من الأموال الفيدرالية المخصصة لدعم الانتقال محبوسة الآن عن فريق بايدن، وكذلك الوصول إلى جميع الوكالات الحكومية التي يُفترض أن تشهد قريباً عملية إحلال وتجديد لتشغيلها بموظفين جدد.
إن الطريقة التي يجري بها تسليم السلطة من إدارة إلى أخرى صُقلت خلال عملية طويلة من التجربة والخطأ استمرت على مدى عقود، والهدف منها ضمان أن تصل الإدارة الجديدة إلى السلطة على أرض صلبة وتستمر في العمل فوراً دون حاجة إلى توقف يعطّل سير العمل. أما الآن، ولما كانت هذه العملية برمتها قد أصبحت خارج مسارها هذا العام، فسنعمد هنا إلى تذكير سريع بكيفية عمل الأشياء والجريان الطبيعي المفترض للأمور، وما الذي يحدث إذا لم تمضِ الأمور على هذا النحو؟
هل سبق أن كانت السلطة تُلقى هكذا مرة واحدة إلى الرئيس الجديد، دون مرحلة انتقالية؟
إذا أردنا الرد في كلمة واحدة، نعم. فأول خطوة في العصر الحديث لإضفاء الطابع الرسمي على تسليم السلطة بين الإدارات لم تأتِ إلا مع الرئيس الأمريكي السابق هاري ترومان، الذي تولى منصبه في عام 1945 بعد وفاة الرئيس فرانكلين دي روزفلت، إذ وجد نفسه غير مستعد للقيام بمهام وظيفته على النحو المطلوب. ومن المعروف، أن ترومان، الذي كان قد شغل منصب نائب الرئيس، لم يخبره أحد، إلا بعد أن أدى اليمين الدستورية، بأن الولايات المتحدة قد طوّرت القنابل الذرية التي سيُسقطها لاحقاً على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين.
ومع ذلك، فإن العملية لم تكتسب طابعاً رسمياً حتى إقرار قانون الانتقال الرئاسي لعام 1963، الذي تضمّنت بنوده تخصيص أموال ومساحات مكتبية للإدارة القادمة حتى تسلمها السلطة. وتقول مارثا جوينت كومار، مديرة "مشروع الانتقال إلى البيت الأبيض" غير الربحي، إنه على مر السنين أُضيف مزيد من التشريعات لمواجهة التحديات التي برزت خلال عمليات تسليم السلطة.
لقد حدث هذا مرة من قبل، كيف؟
أدّت الطعون القانونية التي وجهها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بخصوص نتائج الانتخابات إلى استدعاء المقارنة مع القضية التي رفعها جورج بوش (الابن) ضد ألبرت آل غور أمام المحكمة العليا في عام 2000، والتي أخّرت الإعلان الرسمي عن الفائز في الانتخابات حتى 12 ديسمبر/كانون الأول، ما أفضى إلى الاقتطاع من فترة انتقالية قصيرة بالفعل. وكانت هذه هي المرة الأخرى الوحيدة في التاريخ الأمريكي التي أخّرت فيها إدارة الخدمات العامة بدرجة كبيرة إصدار خطاب تأكيد.
غير أن ما حدث لم يأتِ دون ثمن دفعه الجميع، فقد خلصت لجنة التحقيق الخاصة بأحداث 11 سبتمبر/أيلول، التي حققت في هجمات 11 سبتمبر، إلى أن الانتقال المتأخر للسلطة "شكّل عائقاً أمام مُضي الإدارة الجديدة إلى الإجراءات المتعلقة بتعريف وانتقاء وتوظيف والحصول على موافقة مجلس الشيوخ على المرشحين لتولي المناصب الرئيسية"، وأوصى التقرير بأنه "لما كان من الممكن أن يقع هجوم كارثي كهذا دون سابق إنذار أو توقع، فمن ثم يجب أن نقلل قدر الإمكان الفترة الانتقالية التي تتضمن تعطيلاً لآليات صنع سياسات الأمن القومي أثناء تغيير الإدارات".
وقد جعلت هذه التجربة جورج دبليو بوش مصمماً على تحقيق انتقال سلس بأقصى قدر ممكن في نهاية ولايته الثانية عام 2008.
لكن كلا الجانبين بدأ بالفعل التخطيط لاحتمال تسليم السلطة منذ شهور، أليس كذلك؟
تقليدياً، وبموجب القانون، يبدأ التخطيط للفترة الانتقالية قبل إعلان الفائز بوقت طويل. إن تسليم مقاليد سلطة الحكومة الأمريكية ليس بالمهمة اليسيرة. يقول ماكس ستير، رئيس منظمة "الشراكة من أجل الخدمة العامة" غير الربحية ومديرها التنفيذي: "الأرقام نفسها التي نتحدث عنها غير عادية… أنت تنظر إلى قرابة 5 تريليونات دولار من جهة، ومن جهة أخرى 4 ملايين شخص و4000 شخص معيّن سياسياً، علاوة على مئات من وحدات العمليات، لذا فهي عملية انتقال واستحواذ عسيرة بما لا يُقاس. ومن ثَم فالحملة الانتخابية الذكية لا تستثمر جزءاً من مجهودها في الأمر خلال فترة الانتخابات فحسب، بل قبل ذلك بوقت طويل حتى تكون جاهزة" إذا سارت الأمور لجهة انتقال السلطة إليها.
وتميل الحملات الانتخابية الرئاسية إلى البدء في التخطيط لاحتمال انتقال السلطة في ربيع عام الانتخابات، من خلال تسمية رئيس انتقالي وتشكيل فريق للإشراف على العملية. وعادةً ما يكون عدد الموظفين الانتقاليين قرابة بضع عشرات قبل الانتخابات، وسرعان ما يتوسع إلى آلاف إذا انتزع المرشح منصب الرئاسة. ومن جانبها، فإن الإدارة المنتهية ولايتها (على نحو محتمل) ملزمة بموجب القانون بالبدء في التخطيط لاحتمال نقل السلطة إلى إدارة أخرى قبل ستة أشهر من الانتخابات.
وبعد إجراء الانتخابات وظهور البوادر الأولية للفائز بها، ما الذي يحدث؟
في المعتاد، تُصدر إدارة الخدمات العامة خطابَ تأكيد بعد فترة وجيزة من توقع الفائز، وبعد ذلك تعمل على قدم وساق، لأن الساعة بدأت عدها التنازلي معلنةً اقتراب يوم التنصيب في 20 يناير/كانون الثاني. ويقول ستير إن التأخير الحاصل هذا العام يقع تأثيره على أربع عمليات إجرائية واسعة النطاق ضمن مراحل التخطيط الانتقالي.
أولاها، هو عملية انتقاء المرشحين وفحص سيرهم وملفاتهم بدقة لملء 4 آلاف منصب في الإدارة الجديدة، ويتطلب نحو 1250 منها تأكيد مجلس الشيوخ. ولكن حتى تبدأ عملية النقل رسمياً، لا يمكن لفريق بايدن البدء في تمرير الأوراق الخاصة بمراجعة تضارب المصالح واستمارات الإفصاح المالي لطلبات التعيين إلى مكتب الأخلاقيات الحكومية.
المهمة الثانية، هي إحكام التعرف والنفاذ إلى ما يجري حالياً في الحكومة. ومن ثم، على الرغم من التوقف الحالي، أعلنت حملة بايدن يوم الثلاثاء 10 نوفمبر/تشرين الثاني عن فرقها الخاصة بمراجعة عمل الوكالات الحكومية، ويتضمن ذلك مئات من الأشخاص الذين سيتوجهون إلى الوكالات الفيدرالية، مثل وزارة الخارجية ووزارة التعليم ووكالة الاستخبارات المركزية، للحصول على المعلومات الخاصة بالأوضاع العامة لتلك المؤسسات والمهام الجارية حالياً من الأشخاص الذي يخدمون فيها حالياً، بالإضافة إلى بدء الاستعدادات الخاصة بتسليم تلك المهام إلى الإدارة الجديدة.
ومع ذلك، فقد ذكرت صحيفة The Washington Post أن المسؤولين المُعينيين سياسياً في عديد من الوكالات قد أخبروا موظفيهم بعدم الاستجابة لأي محاولة تواصل من فرق بايدن، حتى تعطي مسؤولة إدارة الخدمات العامة الضوءَ الأخضر للمضي قدماً في عملية الانتقال.
المجال الثالث الذي يُفترض أن يتوجه إليه تركيز الفرق الانتقالية الخاصة بالمرشح الفائز هو التفاصيل المتعلقة بالسياسات وترجمة التعهدات الخاصة بالحملة إلى خطط عمل ملموسة خلال أول 100 يوم و200 يوم في المنصب. وفي هذا السياق، سيتولى بايدن منصبه ولديه لوحة مهام مزدحمة على نحو غير عادي، فيما قال هو إن التعامل مع جائحة كورونا ستكون إحدى أولوياته القصوى.
وقد كشف فريق بايدن النقاب عن فريق العمل الخاص بمواجهة جائحة كورونا يوم الإثنين 9 نوفمبر/تشرين الثاني، لكن التأخير الحاصل في بدء عملية الانتقال تركه مجمداً عن العمل مع الوكالات الفيدرالية وغير مطلع على المعلومات الحكومية التي قد تكون حاسمة في الإعداد لاستراتيجيته، وهذا تحديداً في الوقت الذي لا تنفك ترتفع فيه حالات الإصابة بفيروس كورونا في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
المجال الرابع والأخير الذي يجب النظر إليه بعين الاعتبار هو كيفية استغلال وقت الرئيس المنتخب. فقد أجرى بايدن بالفعل مكالمات هاتفية مع زعماء العالم لتقديم تهنئتهم، ولكن هناك نتيجة أخرى لتأخير الانتقال الرسمي للسلطة، وهي أن وزارة الخارجية لم تضطلع بتيسير وصول المكالمات أو المساعدة في الترجمة وإيضاح نقاط الحوار، كما من المفترض أن تفعل عادةً. هذا في حين أن الهدف من هذا التنسيق هو التيقن من أن الإدارات الحالية والقادمة لا تعطي إشارات مختلطة بشأن مسائل السياسة الخارجية والأمن القومي.
بالإضافة إلى كل ذلك، فإنه في ظل انتقال طبيعي للسلطة، كان من المفترض أن يبدأ بايدن في تلقي الموجز اليومي الذي يُعرض على الرئيس الأمريكي، وهو إحاطة استخباراتية رفيعة المستوى، لإعداده لمختلف التحديات التي سيُواجهها بمجرد توليه منصبه وتعريفه بأي عمليات سرية قيد التنفيذ حالياً. لكن هذا لم يحدث بعد، بحسب NPR. في حين أنه قبل حتى أن تُحسم انتخابات عام 2000، كان الرئيس بيل كلينتون قد قرر السماح لبوش بتلقي الموجز اليومي. وبصفته نائب الرئيس، كان آل غور يتلقاها بالفعل.
ما الذي يفعله بايدن في هذه الأثناء؟
في أثناء حديثه للصحفيين يوم الثلاثاء 10 نوفمبر/تشرين الثاني، وصف بايدن رفض ترامب التسليم بخسارته بأنه "أمر محرج"، ورغم التأخير الحاصل، فإنه تحدث بلهجة متفائلة عن إجراءات انتقال السلطة، وقال: "لقد بدأنا بالفعل".
ويمضي فريق بايدن قدماً في تحديد المرشحين للوظائف العليا في البيت الأبيض، آملاً في التوصل إلى اختياراته النهائية لمعظم المناصب الوزارية بحلول عيد الشكر. وعلى الرغم من أنهم لا يستطيعون الذهاب إلى الوكالات الحكومية، فلا يوجد ما يمنعهم من التواصل مع المسؤولين المهنيين المغادرين مؤخراً للاستفادة من خبرتهم الداخلية.
كما أنه وإلى حين أن تقوم إدارة الخدمات العامة بخطوات الانتقال الرسمية، سيُحال دون وصول فريق بايدن إلى 10 ملايين دولار من الأموال الفيدرالية المخصصة لدعم عملية انتقال السلطة، إلا أن صحيفة New York Times ذكرت أن حملة بايدن بدأت في جمع التبرعات لإدارة عملية الانتقال من شهر مايو/أيار الماضي، ويُعتقد أنها جمعت ما لا يقل عن 7 ملايين دولار.
ما الآثار الأخرى التي يمكن أن يُحدثها التأخير في عملية انتقال السلطة؟
يعتبر الانتقال السلمي والمنظم للسلطة من العلامات المميزة على الأنظمة الديمقراطية. وقد يكون لعملية الانتقال المتأخرة وغير المنضبطة تداعيات كبيرة على الأمن القومي للولايات المتحدة، لكن الأدهى من ذلك أنه قد يقوّض المصداقية الأمريكية في أي مرة قادمة تقتضي الأمور فيها أن تدعو وزارة الخارجية الأمريكية زعيماً أجنبياً يتطلع إلى التمسك بالسلطة في أعقاب انتخابات ديمقراطية، إلى تسليم السلطة بطريقة طبيعية.
ويكفي الالتفات إلى أن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو عندما تحدث يوم الثلاثاء 10 نوفمبر/تشرين الثاني عن انتقال السلطة، قال إن الإدارة مستعدة لنقل السلطة إلى "إدارة الفترة الثانية لترامب"، وهو ما أثار غضب الدبلوماسيين الأمريكيين وإرباك حلفاء الولايات المتحدة في الخارج.