فاز بوريس جونسون في بريطانيا، وخسر بيرني ساندرز أمام جو بايدن في انتخابات الحزب الديمقراطي، ورغم ذلك يبدو أن أفكار الاشتراكيين الديمقراطيين لم تنهزم تماماً في وجه صعود اليمين المحافظ، فما القصة وما تأثيرها على العالم؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "ربما انهزم الاشتراكيون الديمقراطيون.. لكن أفكارهم انتصرت"، رصد معركة الأفكار على الساحة السياسية في بريطانيا والولايات المتحدة، ومدى تأثير ذلك الصراع بين أفكار اليمين المحافظ وما يقابلها من توجهات اليسار الاشتراكي.
تعاون بين اليسار البريطاني والأمريكي
في صيفٍ حارٍ، في شهر أغسطس/آب 2017، استقل ناشطان يساريان من المملكة المتحدة، هما جو بيردزمور وآدم كلاغ، سيارتهما شاعرين بالحماس. اتجه الاثنان إلى ساحل كاليفورنيا للقاء رمز من رموز اليسار: بيكي بوند، المستشارة الرفيعة بحملة السيناتور بيرني ساندرز في 2016 للترشح للانتخابات الرئاسية الأمريكية.
كان بيردزمور وكلاغ قد انخرطا مؤخراً في الانتخابات العامة بالمملكة المتحدة ضمن حركة "العزم"، وهي حملة يسارية تأسست بعد فوز الحصان الأسود جيريمي كوربين، بزعامة حزب العمال في 2015.
وكانت حركة العزم محورية في النتيجة المفاجئة التي حقّقها حزب العمال في انتخابات 2017 في بداية ذلك الصيف، حيث بدأ حزب العمال متأخراً بعشرين نقطة، لكن حين جاء يوم الانتخاب أحدث الحزب فجوة في الأغلبية الحاكمة لحزب المحافظين، ومضى ليقدم أكثر برنامجٍ تقدمي شهدته المملكة المتحدة من حزب كبير منذ عقود، يتعهد بزيادة الضرائب على الشرائح العالية، والملكية العامة للمياه والمرافق، وإلغاء الرسوم الدراسية للجامعات، وزيادة الإنفاق على الرعاية الصحية.
وافقت بوند على لقاء البريطانيين لاحتساء مشروب في سان فرانسيسكو، وتقول بوند: "وافقت كمجاملة، لكن الرابط بيننا كان فورياً وقوياً". انتهى بهما المطاف يبقيان لتناول العشاء، ثم يقضيان الليلة كلها في التحدث مع بوند عن السياسة والنشاط السياسي، وعلى مدار يومين من تبادل الملاحظات والمعرفة، أدركت بوند ومعها البريطانيان أن اليسار الأمريكي والبريطاني واجها التحديات نفسها، من حيث بناء حركات ناشئة للقواعد الشعبية، ويمكن لليسارين أن يتعلما من بعضهما.
كيف أثر ذلك التحالف في الانتخابات؟
وسيكون لذلك التحالف أثرٌ ضخم، ربما لم يأخذ حقه من التغطية على سياسة اليسار على جانبي المحيط الأطلنطي، إذ شارك نشطاء حركة العزم البريطانية أساليب مقنعة لالتماس الأصوات، تستعملها حملة "الرعاية الصحية للجميع" في الولايات المتحدة، لتصير الحملة بعد ذلك جزءاً من التيار السائد بحلول الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي 2020، كما نقلوا لليسار الأمريكي خبراتهم في محاولة إحداث تأثير داخل حزب العمال. ومن جانبها درّبت بوند وزملاؤها الطواقم في بريطانيا على أساليب "التنظيم الكبير"، التي أسهمت في واحدة من أكثر الحملات الطموحة لالتماس الأصوات في تاريخ المملكة المتحدة، في انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2019.
ولوقتٍ ما، في أواخر العام الماضي، مع اقتراب ساندرز من انتزاع ترشيح الحزب الديمقراطي، وصعود أرقام حزب العمال بقيادة كوربين في استطلاعات الرأي، بدا وكأنَّ حركتي اليسار الراديكالي في البلدين قد تتمكنان من انتزاع السلطة.
ولم تأتِ الرياح بما تشتهي السفن
ففي ديسمبر/كانون الأول، تلقّى حزب العمال هزيمة نكراء ضد المحافظين، وتم تعليق عضوية كوربين نفسه، وخسر ساندرز الترشيح في يوم الثلاثاء العظيم، بعد أن كان المرشح الأبرز في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في بداية 2020.
ومع أن كلتا الحركتين أدارت عملياتٍ ضخمة للقواعد الشعبية، جلبت أعداداً كبيرة من النشطاء الشباب ومن الأشخاص الذين لا ينخرطون عادةً في السياسة، فشلت كلتاهما في الفوز، فما الذي حدث؟ وماذا بعد؟
بعد فشل ساندرز في الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي في 2016، وفوز دونالد ترامب بالرئاسة، لم يرغب المشاركون في حملة ساندرز في رؤية الحملة التي بنوها تختفي، فعزمت بوند وآخرون على تحقيق هدفين: الأول هو فعل كل ما بوسعهم لهزيمة ترامب في 2020، والثاني هو تبنّي ما تعلَّموه في السباقات الانتخابية الأدنى.
من أوائل ثمار العلاقة بين اليسار الأمريكي والبريطاني ما سمّته بوند "العمل التضامني" بخصوص قضية الرعاية الصحية. ساعدت بوند أكبر نقابة للممرضين في الولايات المتحدة، الاتحاد الوطني للممرضين (NNU)، وهو أول اتحاد وطني يدعم بيرني ساندرز في سباق 2016، ولعب دوراً مركزياً في نشاط القواعد الشعبية بحملته.
وعلى العكس من جماعات الضغط الأخرى للرعاية الصحية الشاملة، آمن الاتحاد الوطني للممرضين بأن الفوز بالانتخابات يأتي من التحدث للناس وجهاً لوجه. للمساعدة في هذا بدأ بيردزمور في تدريب متطوعي الاتحاد على أمرٍ استعملته حملة العزم بنجاح في الانتخابات البريطانية في 2017: الحوار المقنع.
حملة طرق الأبواب
دقّ المتطوعون 3 ملايين باب تقريباً، ونجحوا في دخول مناطق كانت تُرى من قبل عصية على الفوز لتصبح في متناول اليد. وفي انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني القادمة، يمكن أن تنقلب ولاية تكساس، أحد معاقل الجمهوريين، ديمقراطية، إذ تُظهر استطلاعات الرأي أن ترامب وجو بايدن في سباقٍ محموم هناك.
وقبل الانتخابات العامة في المملكة المتحدة في 2019، وسّعت حركة العزم نطاق عملياتها، من الفريق الصغير الذي قاتل في انتخابات 2017، إلى مكاتب ضخمة بالقرب من وسط لندن تسع المزيد من طاقم العمل والمتطوعين في مقراتها.
والأساليب التي اتبعها اليسار بالحزب الديمقراطي في تكساس ألهمت إطلاق مبادرات مثل مبادرة أساطير حزب العمال، التي طلبت فيها حركة العزم من متطوعيها أخذ أسبوع إجازة للتطوع في الحملة.
لكن كانت هناك تحديات، على العكس من حركة العزم لم يستعدّ حزب العمال جيداً للانتخابات، وتشقّق الحزب جراء الخلافات الداخلية التي سبقت الانتخابات. وكان هذا جزئياً لأن الوسطيين لم يتقبلوا أبداً المنعطف اليساري الذي أخذه الحزب، وجزئياً بسبب زعامة كوربين المثيرة للجدل. فقد حاول كوربين السيطرة على أزمة معاداة السامية داخل الحزب، ولم يتخذ موقفاً حاسماً من الدعوات إلى استفتاء بريكست ثانٍ.
وبحلول 13 ديسمبر/كانون الأول 2019، انهزم كوربين وخسر التقدميون كل مكاسب 2017 في انتصارٍ ساحق للمحافظين. وأعلن كوربين أنه سيتنحى ما إن يتم اختيار قائدٍ جديد للحزب، وفي 2020، خاب أمل داعمي ساندرز حين خسر أمام بايدن. وتعرّض التقدميون على جانبي المحيط لضرباتٍ موجعة أجبرتهم على التراجع.
خسارة ساندرز انتصار لأفكاره
لكن هناك اختلافات كبيرة بين الموقفين، فساندرز لم تعانِ حركته تحت قيادته من أزماتٍ مثل حزب العمال مع كوربين، وبالأخص معاداة السامية ومسألة بريكست. ولم يتعين على ساندرز مواجهة تحديات زعامة حزبه، لكن في نهاية المطاف فشلت الحركتان في الحصول على الكثير من الأصوات خارج قواعدهما اليسارية، والزيادة الموعودة في معدلات التصويت من الأشخاص الخاملين عادةً لم تتحقق.
ومع أن التحالف اليساري العابر للأطلنطي انتهى على ما يبدو بالفعل، فينبغي ألا نستهين بأثره. فأساليب الحوار والإقناع التي وضعتها حركة العزم استعملتها حملتا ساندرز وإليزابيث وارين في الانتخابات التمهيدية بالحزب الديمقراطي هذا العام، وكانت بعض عناصرها نسخة طبق الأصل من أساليب الإقناع التي انتهجتها حملة "الرعاية الصحية للجميع" Medicare for All، وأسهم البريطانيون في تصميمها. (ورأى كثيرون هذه الحملة باعتبارها الموضوع الرئيسي المطروح في مناظرات الحزب الديمقراطي في هذه الانتخابات).
وانتشرت بعدها حملاتٌ لإزاحة القيادات المؤسسية في الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وبرغم الهزائم الانتخابية هناك بعض الانتصارات الصغيرة. ربما لم يربح ساندرز ترشيح الحزب، لكن حركته دفعت بالديمقراطيين إلى اليسار. حتى بخصوص السياسة الخارجية، يقول مستشار ساندرز، مات داس، إن بايدن اتجه بوضوح إلى اليسار. في مسألة العلاقات الخارجية ومسألة الاتفاق الأخضر الجديد، واجه بايدن الحشد التقدمي بطريقة لم يفعلها باراك أوباما مطلقاً أثناء أعوامه الثمانية في الرئاسة.
ربما يجادل البعض بأن الصورة مختلفة في المملكة المتحدة، لكن اليساريين والاشتراكيين لهم قاعدة داخل حزب العمال والحزب الديمقراطي أقوى مما كان لديهم منذ عقودٍ مضت. سيرغب التقدميون في حماية مكاسبهم في الناحيتين، خاصة مع تزايد شعبية السياسات اليسارية بين المصوتين، لكن أغلبهم يتفقون على أن المهمة العاجلة الآن هي معارضة الحكومتين اليمينيتين في الولايات المتحدة وبريطانيا بأقوى صورة ممكنة، وكلتاهما تسحبان الديمقراطية في بلادهما إلى أرضٍ مجهولة مع كل تحولٍ جديد نحو السلطوية.