على مدار السنوات الأربع الماضية، أظهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعاطفاً مع الجماعات اليمينية المتطرِّفة، والعديد منها مُسلَّح، أكثر من أيِّ رئيسٍ في الذاكرة الأمريكية الحديثة. في الوقت نفسه، وَرَدَ أن إدارته ضغطت على وكالات إنفاذ القانون للتقليل من شأن التهديد الذي تشكِّله هذه الجماعات، مِمَّا سَمَحَ للعنف بالتسلُّل مرةً أخرى إلى التيار السياسي إلى درجةٍ لم نشهدها منذ الستينيات والسبعينيات، كما تقول مجلة Foreign Affairs الأمريكية.
في الشهر الماضي سبتمبر/أيلول فقط، أُلقِيَ القبض على مجموعةٍ من المتطرِّفين المناهضين للحكومة بتهمة التآمر لخطف حاكمة ولاية ميشيغان، الديمقراطية غريتشن وايتمير، بعد أن تحدَّت مطلب ترامب بـ"تحرير ميشيغان" من القيود المفروضة بسبب جائحة فيروس كورونا المُستجد. وقد يندلع المزيد من العنف قبل الانتخابات الرئاسية المُزمَع عقدها الأسبوع المقبل، وكذلك في أعقابها.
الباب الذي سيصعب إغلاقه
يتناول بحثنا الظروف التي تتدخَّل فيها الجماعات المسلَّحة في السياسة الانتخابية، مستفيداً من تجارب دولٍ أخرى وفتراتٍ سابقة في التاريخ الأمريكي. وتُظهِر مقارناتنا العديد من السبل للمشاركة المسلَّحة في السياسة، ولكنْ هناك طريقتان مهمتان: حين تؤيِّد النخب السياسية الجماعات المسلَّحة، ولو بشكلٍ ضمني، وعندما تفشل الحكومة في حشد ردِّ فعلٍ مُتسِقٍ ومُوحَّد تجاه هذه الجماعات. أصبح كلا المسارين نشطاً ومثيراً للقلق بصورةٍ متزايدة خلال رئاسة ترامب، وكلاهما قد يكون من الصعب إغلاقه مرةً أخرى بمجرد أن يُفتَح.
بغض النظر عمَّن سيفوز في 3 نوفمبر/تشرين الثاني، ستكون رئاسة ترامب قد فتحت الباب بالفعل لمزيدٍ من العنف الانتخابي في المستقبل. وإذا بدأ النظام السياسي الأمريكي في التطبيع مع وجود الجماعات المسلَّحة، وإذا فشلت وكالات إنفاذ القانون في ردع المشكلة أو معالجتها، فقد يرى الطامحون السياسيون فائدةً انتخابية في إنماء هذه الجماعات في المستقبل. وطَرَحَ بعض المُحلِّلين أن الولايات المتحدة قد تسير في طريقٍ نحو الحرب الأهلية، ولكن السيناريو الأكثر احتمالاً هو العنف السياسي المُتقطِّع والمُتكرِّر منخفض المستوى -الذي يحرِّض عليه أو يمكِّنه القادة السياسيون السائدون- والذي يقوِّض تدريجياً من كفاءة الديمقراطية الأمريكية.
الأحزاب والجماعات المسلَّحة
تنخرط الجماعات المسلَّحة في السياسات الانتخابية السائدة بطرقٍ مختلفة، ويعتمد هذا الانخراط غالباً على كيفية تقييم السياسيين والجهات الفاعلة المسلَّحة لمخاطر وفوائد التعاون. تسعى بعض الجماعات المسلَّحة إلى التأثير على نتيجة الانتخابات، على سبيل المثال من خلال دعم المرشَّحين صراحةً أو استهداف خصومهم علناً، ويمكن للسياسيين أيضاً تنمية العلاقات بنشاطٍ مع الجماعات المسلَّحة لتعزيز أجنداتهم وتحسين فرصهم في الفوز.
وبالطبع قد يكون التعاون خطيراً على كلا الجانبين، إذ قد يواجه السياسيون ردَّ فعلٍ علنياً وتداعياتٍ قانونية على مغازلتهم أطرافاً عنيفة من الجماعات لا الدول. والجماعات المسلَّحة بدورها قد يتَّهِمها أنصارها بالتخلي عنهم إذا ألقت بثقلها وراء القوى السياسية السائدة. ولا تزال هناك جماعاتٌ مسلَّحة أخرى تستخدم العنف بطرقٍ لا تتوافق بشكلٍ مباشرٍ مع السياسة الانتخابية أو تخدم حزباً معيَّناً، كما يفعل الأناركيون في الولايات المتحدة المعاصرة، لكن المزايا المحتملة للتعاون واضحة، فحتى لو كان العنف ضاراً بالسكَّان والنظام السياسي ككل، فإن نشره قد يحقِّق مكاسب انتخابية كبرى للأحزاب السياسية والساسة الفرادى.
لهذا السبب، تُطوِّر الكثير من الأحزاب السياسية علاقاتٍ مباشرة مع الجماعات المسلَّحة، وفي بعض الأحيان تُطوِّر أجنحتها المسلَّحة التابعة لها بشكلٍ لا لبس فيه. في بنغلاديش وولاية البنغال الغربية في الهند، على سبيل المثال، تنشر الأحزاب فروعاً مسلَّحة لتعزيز مصالحها الانتخابية. وينطبق الشيء نفسه على مدينة كراتشي الباكستانية منذ الثمانينيات. وشهدت أوروبا عسكرةً علنيةً مماثلة للسياسات السائدة بين الحربين العالميَّتين الأولى والثانية، مثلما فعلت العديد من المدن الأمريكية في القرن التاسع عشر، وبالطبع جنوب الولايات المتحدة في السنوات التي أعقبت الحرب الأهلية؛ ففي ظلِّ حكم جيم كرو، ارتكبت أطرافٌ ذات علاقاتٍ مباشرة بالحزب الديمقراطي وحكومات الولايات أعمال عنفٍ ضد الأمريكيين من أصل إفريقي.
تجري عسكرةٌ أكثر سريَّةً للسياسة حين تخلق الجماعات المسلَّحة المتمرِّدة أجنحةً سياسية تدَّعي رسمياً أنها متميِّزة. وقد وَقَعَ مثالٌ كلاسيكي على هذه الظاهرة خلال فترة "الاضطرابات" في أيرلندا الشمالية، حيث أنكر الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقَّت وحزب شين فين الأيرلندي أيَّ علاقةٍ رسمية بينهما، ولكنهما في الواقع حافظا على علاقةٍ مؤسَّسية سرية واسعة النطاق.
وبالإضافة إلى الروابط المباشرة -العلنية والسرية- بين الجهات المسلَّحة الفاعلة والسياسيين، هناك طرقٌ غير مباشرة تصبح فيها الانتخابات مُعسكَرة. في بعض الأحيان، تدعم الجماعات المسلَّحة أو تستهدف السياسيين أو الأحزاب حتى عندما لا تكون لديها روابط رسمية بحركةٍ سياسية. تستخدم هذه الجماعات الموارد المتاحة لها -من العنف إلى أصوات المؤيِّدين- لإمالة الملعب السياسي في اتجاهٍ معيَّن. في كولومبيا، على سبيل المثال، استهدفت القوات شبه العسكرية اليساريين، واتُّهِمَ المتمرِّدون في شمال شرقي الهند بالتواطؤ مع سياسيين محليين.
هذا النوع من العسكرة غير المباشرة للسياسة هو ما تعيشه الولايات المتحدة في الوقت الحالي، ورغم أن الميليشيات المنظمة غير الحكومية ليس لها روابط رسمية مع الأحزاب الأمريكية الكبرى، فإنها غالباً ما تشترك معها في الخطاب والأهداف السياسية الواضحة.
الجماعات المسلَّحة في الولايات المتحدة
لدى الجماعات المسلَّحة في الولايات المتحدة مجموعة واسعة من الأهداف، بعض هذه الأهداف مناهضٌ للحكومة بشكلٍ أساسي، ما يجعل من الصعب على هذه الأهدف الانخراط بشكلٍ هادفٍ في السياسة السائدة. ومع ذلك تركِّز جماعاتٌ أخرى بصورةٍ رئيسية على مجابهة ما يرون أنه توسُّعٌ سريعٌ لسلطة الدولة -ونفوذ اليسار على وجه الخصوص. في عهد ترامب وجَّهَت هذه الجماعات غضبها على نحوٍ متزايد إلى الحكَّام الديمقراطيين والشخصيات السياسية الأخرى التي تعارض رؤاهم العنصرية للدولة والأمة الأمريكية.
وتشمل بعض الجماعات الأشهر في هذا المجال جماعة Proud Boys، وهي جماعةٌ يمينية مسلَّحة تتضمَّن جزءاً من جماعة Boogaloo الفضفاضة المناهضة للحكومة، وأعضاءً من الكو كلوكس كلان، ونازيين جدداً، وغيرهم مِمَّن يُسمون بالميليشيات، وهو مصطلحٌ فضفاض لعددٍ من الوحدات المسلَّحة المحلية. وبالإضافة إلى أنشطتها الأكثر تنظيماً فقد ألهمت العديد من هذه الجماعات الهجمات المنفردة، وحاول البعض حتى التسلُّل إلى الجيش الأمريكي وقوات الشرطة المحلية.
قبل انتخابات ترامب عام 2016، عملت هذه الجماعات بشكلٍ أساسي على الهوامش السياسية، وكانت تتوقَّع إدانةً من معظم السياسيين الرئيسيين، لكن خطاب الرئيس أضفى شرعيةً على أجنداتهم. ومن خلال إخبار جماعة Proud Boys بـ"الوقوف جانباً"، ورفض التنديد بمظاهرة توحيد اليمين عام 2017 في شارلوتسفيل، زَرَعَ ترامب غموضاً مُحبَّذاً له على وضع الجماعات اليمينية المتطرِّفة في الساحة السياسية، وحتى حين شجب مثل هذه الجماعات، غالباً ما ارتبطت تعليقاته بتأخُّرٍ أو شرطٍ أو تشابكٍ مع انتقاد خصومها.
لكن بيئة الخطاب ليست فقط هي التي تغيَّرَت خلال السنوات الأربع الماضية، فقد ضغطت إدارة ترامب باستمرار على وزارة الأمن الداخلي الأمريكية للتقليل من شأن التهديدات التي تشكِّلها جماعات اليمين المتطرِّف، وخلقت بذلك بيئةً أكثر تساهلاً لمثل هذه الجماعات كي تعمل فيها. وفي نظام إنفاذ القانون الأمريكي المرن سياسياً، واللامركزي، غالباً ما تتمتَّع السلطات المحلية بالاستقلالية لتجاهل أنشطة الجماعات المسلَّحة، والتسامح معها إذا أرادت ذلك، بل إن سلطاتٍ أخرى أقامت روابط مباشرة مع هذه الجماعات. على سبيل المثال، خلال احتجاجٍ مناهضٍ للحكومة، شارَكَ عمدةٌ محلي في ميشيغان المنصة مع اثنين من أعضاء الميليشيا المُتَّهَمين بمؤامرة اختطافٍ ضد وايتمير.
من النتائج الرئيسية للبحث حول العنف الانتخابي أن القمع والردع القوي للجماعات المسلَّحة غير الحكومية يُحدِث فارقاً كبيراً في قدرتها على العمل. وعندما يغيب هذا الحاجز أو لا يمكن توقُّعه، يمكن للجماعات أن تغتنم الفرصة للتأثير على نتائج الانتخابات، خاصةً عندما يقدِّم السياسيون الأقوياء دعماً خطابياً لها.