بعد أن خفتت حدة الهجمات المتطرفة في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، يحاول الرئيس الفرنسي توريط أوروبا بموجة جديدة من التطرف والتشدد من حيث لا يعلم. فبعد إصراره المستمر على الخطاب المتشدد ضد المجتمع الإسلامي في فرنسا الذي يريد تحويله إلى مجتمع علماني بالكامل، يتبنى ماكرون إعادة نشر الصور المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم والقيم الإسلامية.
وتوعَّد ماكرون بحملة شاملة لقمع ما سماه "التشدُّد الإسلامي"، تشمل إغلاق المساجد وغيرها من الجمعيات الإسلامية في فرنسا، وقال ماكرون بُعيد هجوم بالسكاكين بالقرب من كنيسة في مدينة نيس، يوم الخميس 29 أكتوبر/تشرين الأول، إنّ فرنسا "تخوض معركةً وجودية ضد الأيديولوجيات والانفصالية الإسلامية المتطرّفة". بينما قال وزير داخليته اليميني جيرالد دارمانان إنّ "المتشدّدين هم العدو في الداخل".
وفي استجابة لهذا الخطاب، شهدنا أيضاً يوم الخميس محاولة لعملية إرهابية في مدينة أفينيون الفرنسية، حيث حاول مسلح يميني الهجوم على الشرطة أثناء منعها له من استهداف أحد المسلمين. ويأتي ذلك في أعقاب مقتل مدرسٍ قبل أسبوعين على مشارف باريس، بعد أن عرض على تلاميذه رسوماً مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد إصابة شخصين أمام المكتب السابق لصحيفة شارلي إيبدو الفرنسية.
ومن المستبعد أن تكون الهجمات جزءاً من حملةٍ منظمة بواسطة جماعةٍ كبرى، ولكنّها تستجيب لبعضها البعض؛ إذ أوضح الخبراء الأوربيون كيف أنّ هجوماً واحداً سيُشجّع على الهجوم التالي، وذلك بسبب عدم نزع فتيل الخطاب المتشدد في البلاد.
هل يورِّط ماكرون أوروبا؟
تقول صحيفة The Guardian البريطانية، من المفهوم أنّ اهتمام الغرب بـ"التشدّد الجهادي" كان قد تراجع مؤخراً، إذ تراجعت الوفيات في أوروبا نتيجة كافة أشكال الإرهاب بنسبة 70% العام الماضي، كما سجّلت أوروبا الغربية أقل عدد من الوقائع منذ عام 2012. وكشفت آخر تقارير Europol أنّه كان هناك 21 مخططاً جهادياً في الاتحاد الأوروبي عام 2019، مقارنةً بـ24 و33 في العامين السابقين. ومن بين الـ21 مخططاً، فشلت أربعة مخططات، وأُحبِطَ 14 مخططاً، ونُفِّذت ثلاثة.
وجاء التصاعد في العنف نتيجة عددٍ من العوامل التي تضافرت في وقتٍ واحد، أبرزها يكمُن في تصاعد تيار اليمين المتطرف بالدول الغربية، تزامناً مع وصول ملايين المهاجرين إليها بطرق بطريقةٍ شرعية أو غير شرعية، حيث يجري مباشرة إضفاء طابع "التطرف" على المهاجرين المسلمين هناك.
وبالنسبة لسكان فرنسا المسلمين البالغ تعدادهم ستة ملايين، فإنّ الحزن الحالي يتفاقم بسبب الخوف والرهبة وتصاعد الخطاب اليميني المتطرف، إذ وجد استطلاعٌ آراء أُجرِيَ بعد مقتل باتي أنّ 79% من المشاركين شعروا بأنّ "الإسلاموية أعلنت الحرب" ضد فرنسا والجمهورية. بينما رأت نسبةٌ أكبر أنّ "نهج فرنسا الصارم في التعامل مع العلمانية بات مُهدداً".
وبسبب الخطاب الرسمي المتشدد في فرنسا، جاءت ردة الفعل قوية في العالم الإسلامي، إذ يشن ملايين المسلمين حول العالم حملات مقاطعة اقتصادية للمنتجات الفرنسية، في حين تصر فرنسا على المضي قدماً بخطتها، التي قد تؤدي في النهاية إلى توريط أوروبا بالكامل في موجة من العنف والتطرف المتبادل.
ويحاول ماكرون أن يقدم نفسه باستمرار على أنه قائد لأوروبا والمحافظ على قيمها، متجاهلاً ألمانيا، القوة الأولى في القارة، ولكن يبدو أن ماكرون يريد تحويل هذه الفسحة التي تركتها له ميركل ليورط أوروبا في نزاعات فرنسا أو حتى نزاعاته الشخصية، مثلما فعل مع تركيا، واليوم مع العالم الإسلامي كله.
مسلمو فرنسا محاصرون
وتحاصر الكثير من تصريحات ماكرون مسلمي فرنسا. فبغض النظر عن مدى جدية محاولاتهم، لا يستطيعون أن يكونوا فرنسيين علمانيين كما يريد ماكرون، إلّا في حال توقّفوا عن كونهم مسلمين وتخلّوا عن دينهم!
وأُدين ماكرون على الفور من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي شكّك في قواه العقلية، ورئيس باكستان عمران خان الذي كتب: "كان بإمكان الرئيس ماكرون في وقتٍ مثل هذا أنّ يضع لمسةً علاجية ويُضيّق المساحات على المتشدّدين، بدلاً من خلق المزيد من الاستقطاب والتهميش الذي سيُؤدي إلى التطرّف لا محالة".
وفي الوقت الذي فشلت فيه فرنسا نسيباً أن تكون دولة تعددية، نجد أنّ التعددية الثقافية أكثر هدوءاً في كندا والولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا؛ لأن تلك الدول لديها نهجٌ في الوحدة الوطنية يسمح بالتعبير العلني عن الاختلاف.
"المبارزة التشدُّدية"
يقول موقع The Conversation الأسترالي: مع دخول فرنسا موجتها الثانية من حالات إغلاق كوفيد-19 وتراجع اقتصادها وقلق وخوف شعبها، فإنّ آخر ما تحتاج إليه البلاد هو شبح "المبارزة التشدّدية" ودائرة العنف التصاعدية. وهذا وقت عصيب على فرنسا، ولكنّه يزداد صعوبةً إن كنتَ فرنسياً مسلماً.
وماكرون يفهم هذا، ويُدرك العوائق المتمثلة في ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب الفرنسي عموماً والمسلمين منهم خصوصاً، كما يُدرك المشكلات الضخمة للعنصرية والتعصّب المُمنهج. ولكنه هو وفرنسا لا يزالان عالقين حتى الآن في نفس الدائرة المُفرغة، حيث تتكرّر أخطاء الماضي، مثقلةً بتأطيرٍ معيب للهوية ومسار ضيق بلا داعٍ للانتماء. وهذا هو المعنى الحقيقي للديجافو.