الخلافات بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره التركي وصلت إلى حد تبادل الإهانات، وقصة العداء ليست وليدة قضية الرسوم المسيئة، بل هي أحدث فصول كتاب العداء المستحكم بينهما، فما القصة وإلى أين تتجه؟
من الدبلوماسية إلى الصراع السياسي
عندما وصل ماكرون إلى الرئاسة عام 2017، كانت العلاقات بين تركيا وفرنسا غير مستقرة دبلوماسياً إلى حد كبير، على خلفية محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها أنقرة وردود فعل بعض العواصم الأوروبية على حملات الاعتقال التي طالت من شاركوا فيها واتهامات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتلك الدول، ومنها فرنسا، بالنفاق السياسي، لكن بشكل عام لم تتدهور العلاقات بالصورة التي نشهدها حالياً.
وبعد وصول ماكرون إلى الرئاسة عام 2017، جاءت زيارة أردوغان إلى فرنسا في يناير/ كانون الثاني 2018 هادئة وودية إلى حد كبير وبدا أن العلاقات في طريقها للتحسن سريعاً، وأعلن ماكرون في مؤتمر صحفي مع أردوغان أنه سيطلب من الاتحاد الأوروبي اتفاق شراكة كاملة مع تركيا كبديل عن العضوية الكاملة في الاتحاد.
لكن العلاقات بين الرئيس الفرنسي ونظيره التركي اتخذت منحى عدائياً شخصياً منذ تصريحات ماكرون بشأن "الموت الدماغي" لحلف الناتو، ومنذ ذلك الوقت بدأت الأمور في التدهور على خلفية المواقف المتناقضة بين عضوي الحلف العسكري الأكبر في العالم في ملفات شائكة كسوريا وليبيا وشرق المتوسط، وأخيراً قضية الرسوم المسيئة للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، والتي أغضبت المسلمين حول العالم.
ملفات شائكة وأين يقف كل منهما؟
ولم يكن استدعاء فرنسا لسفيرها في أنقرة للتشاور اعتراضاً على إهانة أردوغان لماكرون بوصفه أنه يحتاج "لفحص قواه العقلية"، على خلفية إعلان الرئيس الفرنسي عن تمسكه بنشر الرسوم المسيئة للرسول سوى أحدث حلقات ذلك العداء، والسؤال الآن إلى أين قد تصل الأمور؟
فعندما تولى ماكرون الرئاسة، كانت العلاقات الثنائية كما أسلفنا متوترة بالفعل، ومنذ ذلك الحين، تضاعفت مواضيع الخلاف ومعها الانتقادات، وصار يمكن وصف ما يدور بينهما بحوار الطرشان و"الأخطر، رفض محاولة فهم منطق المحاور، كما يقول ديدييه بيون، المتخصص بشؤون تركيا ونائب مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) لموقع الرؤية نيوز، مضيفاً: "يبدو الآن أن الرؤى الأيديولوجية المتعارضة هي السائدة وتؤدي إلى طريق مسدود".
ففي سوريا، غضبت فرنسا من دخول القوات التركية إلى المناطق الحدودية في سوريا والتي كانت تحت سيطرة القوات الكردية التي تعتبرها باريس حليفة لها، وفي ليبيا، تدعم تركيا حكومة الوفاق في طرابلس والمعترف بها من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، بينما دعمت فرنسا قوات شرق ليبيا بقيادة الجنرال خليفة حفتر، وبعد تعرض تلك القوات للهزيمة وانسحابها نحو معقلها في الشرق، تعلن باريس إدانتها لجميع التدخلات الأجنبية وترفض السماح لتركيا بالحصول على موطئ قدم في ليبيا حيث ستسيطر على نقطة عبور ثانية للمهاجرين إلى أوروبا.
وفي شرق البحر الأبيض المتوسط، تستند تركيا إلى اتفاقية لترسيم الحدود البحرية وقعتها مع الحكومة الليبية للمطالبة بالسيادة على جرف قاري ممتد حيث تجري أبحاثاً للعثور على الغاز مثيرة استياء اليونان وقبرص، وأخيراً جبهة القوقاز، حيث تدعم تركيا أذربيجان في نزاعها مع أرمينيا حول ناغورنو قره باغ (الإقليم الأذربيجاني الذي تحتله أرمينيا).
مواجهة داخل حلف الناتو
كما أصبح حلف الناتو وكلا البلدين عضو فيه ساحةً أخرى للخلاف، حيث وصف ماكرون الحلف بأنه في حالة "موت سريري"، ورد عليه أردوغان بالقول إن الرئيس الفرنسي هو من يحتاج إلى أن "يفحص موته السريري".
ووصلت الأمور إلى حافة الهاوية بين البلدين هذا الصيف، عندما اشتكت باريس مما وصفته بالسلوك التركي "العدواني للغاية" ضد فرقاطة فرنسية تشارك في مهمة لحلف شمال الأطلسي في البحر المتوسط، خلال محاولة السيطرة على سفينة شحن يشتبه في أنها تنقل أسلحة إلى ليبيا، ورفضت أنقرة الاتهامات التي قالت إنه "لا أساس لها"، وتم حل النزاع في اجتماع داخل الحلف.
قضية الرسوم المسيئة
وفي مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري وصل العداء بين ماكرون وأردوغان إلى ملف أكثر خطورة، حينما صرح ماكرون بأن "الإسلام يواجه أزمة عالمية" وتحدث عما وصفه بـ"الانعزالية الإسلامية" وضرورة "هيكلة الكيانات الإسلامية" في فرنسا، وجاء الرد عنيفاً من الجانب التركي.
لكن المستوى الأعنف من التوتر جاء في أعقاب ذبح مدرس فرنسي عرض على تلاميذه رسوماً مسيئة للرسول وما تبع تلك الجريمة من تصريحات لماكرون أصر فيها على التمسك بنشر الرسوم المسيئة مبرراً ذلك بحرية التعبير.
واتهمت باريس السلطات التركية بعدم استنكار قطع رأس المدرس صمويل باتي في 16 أكتوبر/تشرين الأول بسبب عرضه رسوماً كاريكاتيرية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم على تلامذته، وردت أنقرة بأنها قدمت تعازيها في اليوم التالي وأدانت رسمياً الإثنين "الاغتيال الوحشي" للمدرس.
ويقول علي بكير المحلل السياسي التركي المقيم في أنقرة إن تصريحات ماكرون حول الإسلام في فرنسا لا يمكن إلا أن تصدم محاوره، ويضيف "كان على أردوغان أن يختار بين الاتفاق مع ما يقوله الرئيس الفرنسي، وبذلك يظهر ضعيفاً وعاجزاً أمام مواطنيه والمسلمين الذين يؤمنون بقيادته، أو الرد. بالطبع اختار الرد".
واختار أردوغان شن هجوم شخصي على ماكرون السبت، ما أدى إلى تأجيج مشاعر قوية جداً معادية للفرنسيين في العالم الإسلامي: "كل ما يمكن قوله عن رئيس دولة يتعامل مع ملايين ينتمون إلى طوائف دينية مختلفة بهذه الطريقة هو: افحص صحتك العقلية أولاً".
والإثنين، نشرت صحيفة ديلي صباح التركية الموالية للحكومة على صفحتها الأولى صوراً مركبة للرئيس الفرنسي وزعيم اليمين المتطرف الهولندي غيرت فيلدرز مع عنوان: "ماكرون وفيلدرز وجهان للكراهية والعنصرية في أوروبا".
يقول بيار رازو، المدير الأكاديمي لمؤسسة البحر الأبيض المتوسط للدراسات الاستراتيجية: "تتمثل استراتيجية أردوغان في دفع فرنسا إلى ارتكاب خطأ من خلال مضاعفة الاستفزازات اللفظية المباشرة، لإثارة ضجيج وصرف الانتباه" عن الصعوبات الداخلية والخارجية في تركيا، ويضيف: "أردوغان يحاول عزل فرنسا وتقسيم الأوروبيين، لذا يشعل الأمور على كل الجبهات".
ورصد تحليل لمجلة Worldpoliticsreview حول العداء بين الرئيسين، دوافع ماكرون وأهدافه منذ وصوله إلى الرئاسة وهي بالأساس تنبع من إيمانه بقدرته على استعادة أمجاد فرنسا كقوة فاعلة أوروبياً ودولياً، بالسير على خطى شارل ديغول وفرانسوا ميتران، وهو ما يضعه في مواجهة مباشرة مع نظيره التركي الساعي كذلك لتوسيع نفوذ تركيا ووضعها الإقليمي والدولي.
والآن أصبح ماكرون في مأزق أصعب مقارنة بموقف أردوغان، خصوصاً في قضية الرسوم المسيئة للرسول، في ظل الغضب المتصاعد بين المسلمين والعرب وحملة مقاطعة المنتجات الفرنسية التي من الواضح أن الرئيس الفرنسي يواجه فيها خيارين أحلاهما مر؛ فإما أن يتراجع عن التمسك بنشر الرسوم المسيئة – خصوصاً أن هناك ما يشبه الإجماع على أنها استفزاز وانتهاك لقوانين احترام الأديان – أو أن يتمسك بموقفه حتى النهاية.