منذ أعلن دونالد ترامب ترشيح نفسه لرئاسة أمريكا عادت العنصرية لتطل من جديد في أدبيات السياسة الأمريكية، نظراً لطبيعة الرجل العنصرية المثبتة والمعلنة، لكن وقتها كان البيت الأبيض يشغله رئيس أسود بالفعل، وبالتالي لم يكن ثمة ما يدعو للقلق، ثم جاء الوباء ومقتل جورج فلويد لينكشف الغطاء الزائف، فإلى أي مدى عمّقت رئاسة ترامب الانقسام في المجتمع الأمريكي، وهل تؤدي خسارته في نوفمبر/تشرين الثاني لتعافي ذلك المجتمع؟
رئيس أسود في البيت الأبيض
كان مشهد تأدية باراك حسين أوباما اليمين الدستورية كأول رئيس أسود للولايات المتحدة الأمريكية بمثابة دليل عملي على انتهاء قضية العنصرية في الدولة العظمى التي تقود العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى غير رجعة.
فالمشهد كان مهيباً بالفعل في ظهر ذلك اليوم، 20 يناير/كانون الثاني 2009، وجاء خطاب أوباما هادئاً ومركزاً على وحدة القيم البشرية والمساواة بين الجميع، لقد كان خطاباً للسلام وللتعاون، موجهاً للبشرية ككل، إيذاناً بعهد جديد لا توجد فيه تفرقة بين الأمريكيين بسبب لون بشرتهم أو معتقداتهم، واحتفل الكثيرون بنهاية عهد "سيطرة الرجل الأبيض" للأبد.
خطاب تنصيب أوباما 20 يناير 2009
عودوا من حيث أتيتم واتركوا بلادنا
لكن يبدو أن فترتي أوباما في البيت الأبيض كانتا استثناءً، وجاء الرد أكثر عنفاً مما تصور الجميع داخل وخارج الولايات المتحدة، حيث فاز بالرئاسة دونالد ترامب، الرجل الأبيض الذي يريد جعل "أمريكا بيضاء مرة أخرى"، بحسب وصف أغلب السياسيين، وأبرزهم نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الديمقراطية!
ونتوقف هنا عند أبرز تصريحات الرئيس ضد أعضاء في الكونغرس ينتمون للحزب الديمقراطي، عندما قال لهم، أو لهن بالأحرى "عودوا إلى بلادكم واتركوا بلادنا"!
والقصة هنا ربما تبدو مجرد مشاحنات سياسية بين الحزبين الأكبر في البلاد؛ فترامب الجمهوري حاول استغلال الخلافات بين أربع عضوات جدد في مجلس النواب (رشيدة طليب وإلهان عمر وأليكساندريا أوكاسيا كورتيز وأيانا بريسلي)، تنتمين للحزب الديمقراطي، وقيادات الحزب، بشأن قضية الهجرة واللاجئين، لكن تغريدات ترامب وتصريحاته فضحت مكنون القلوب وحقيقة الرئيس وقاعدته الانتخابية فيما يتعلق بالانقسام العميق داخل المجتمع الأمريكي، بين من يرون أنفسهم أصحاب البلاد (البيض) وبين الملونين بشكل عام والسود بشكل خاص.
فإلهان عمر ورشيدة طليب وكورتيز وبريسلي لسن فقط مواطنات أمريكيات، بل عضوات في الكونغرس، ورغم ذلك قال لهن ترامب نصاً "لماذا لا تعُدن إلى البلاد التي جئتن منها وتتركن بلدنا"، ولا يمكن بالطبع اعتبار ذلك خلافاً سياسياً بأي حال من الأحوال، وهذا بالتحديد ما عبر عنه عضو الكونغرس جيم هايمز (من أصل بيروفي) في تغريدة قال فيها: "على عكس العضوات اللائي هاجمهن ترامب اليوم، أنا عضو كونغرس مولود بالفعل في بلد أجنبي، لكنني ذكر، أبيض البشرة من أصول أوروبية، لذلك من المستحيل أن يهاجمني".
هل جاء ترامب بالعنصرية إلى أمريكا؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، من المهم هنا أن نذكر أن تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية مرتبط بتاريخ طويل من العبودية والتفرقة العنصرية بين المهاجرين البيض، الذين قدموا من أوروبا للعالم الجديد، بين المواطنين من القارة السمراء الذين تم جلبهم كعبيد للعمل في مزارع القطن والدخان، قبل نحو أربعة قرون أو يزيد قليلاً.
ونضال المواطنين الأمريكيين السود من أجل الحرية والمساواة طويل وممتد، وبه محطات جوهرية أسهمت في تحقيق مطالب المساواة من الناحية القانونية بصورة لافتة، وصولاً إلى أن يتولى أوباما منصب الرئيس، لكن منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض قبل أربع سنوات، عادت قضية العنصرية لتكشف عن مدى الانقسام الذي لا يزال متجذراً داخل المجتمع الأمريكي، ويرى كثيرون أن العنصرية في البلاد هي القاعدة، وما سواها ليس سوى الاستثناء الذي يثبتها ويؤكدها.
في هذا السياق يعتبر ترامب تجسيداً لواقع الانقسام المجتمعي في أمريكا، وأحد أبطاله والمنادين به، فالرجل لا يتردد في التعبير عن عنصريته بمناسبة ومن دون مناسبة، ويشير إلى "بلدنا وقيمنا وأسلوب حياتنا" تعبيراً عن "المسيحيين البيض"، رغم أنه رئيس البلاد التي تُعرف باسم "أرض الأبطال" و "أرض الأحلام"، لكن التاريخ نفسه يكشف أن ذلك الانقسام الذي تعيشه أمريكا اليوم مرت به بالفعل قبل قرن من الزمان.
ما أشبه الليلة بالبارحة
ويرى كينيث تي. وولش، كبير مراسلي البيت الأبيض أن "الانقسام العظيم" الذي تشهده الولايات المتحدة في عهد ترامب يعيد للأذهان انقساماً مشابهاً مرت به البلاد والعالم أجمع عام 1919، أي قبل قرن من الزمان، فقد بدأ وباء الإنفلونزا الإسبانية في ذلك العام، كما عصفت بالبلاد موجة من التفجيرات المحلية أدت لحملة قمع منظمة ضد "الشيوعيين" المزعومين، أثارت مخاوف بروز دولة بوليسية في البلاد، وانطلقت موجة من الاحتجاجات العرقية (ضد العنصرية)، أودت بحياة 38 أمريكياً في شيكاغو، أواخر يوليو/تموز عام 1919.
واللافت أن كراهية المهاجرين ازدادت بشكل واضح، وكانت موجهةً نحو الأقليات من السود والملونين، وشهدت البلاد وقتها إضرابات متعددة، وهجمات متكررة على أحياء المواطنين السود، وتكوَّنت عصابات من البيض تستهدف السود والملونين، وعن تلك الفترة كتب المؤرخ ويدمير أن "الغالبية العظمى من الأمريكيين أرادوا استعادة حياتهم القديمة، لكن لم يكن هناك طريق واضح لتحقيق ذلك".
في تلك الفترة ظهر عضو مجلس شيوخ من أوهايو اسمه ممرين هاردينغ، ركب موجة العنصرية ورفع شعار "دعونا نجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، ليصل إلى البيت الأبيض ويصبح رئيساً بالفعل، بطريقة تكاد تكون متطابقة مع الطريقة التي وصل بها ترامب للبيت الأبيض.
ويضيف ويدمير أن ذلك لم ينجح في انتشال البلاد من عنصريتها وانقسامها قبل 100 عام، لأنه ببساطة عمّق ذلك الانقسام المجتمعي وفشل في التعامل مع التغييرات العميقة التي كانت تمر بها البلاد وقتها، والأمر نفسه يتكرر مع ترامب الآن.
كيف فجّر مقتل جورج فلويد القصة من جديد؟
كان مقتل مارتن لوثر كينج أحد أبرز قادة السود الأمريكيين المنادين بالمساواة بمثابة محطة رئيسية في نضال الأمريكيين من أصل إفريقي من أجل حقوق متساوية مع المواطنين البيض، فقد أدى مقتله على يد أمريكي أبيض، يوم 4 أبريل/نيسان 1968، إلى موجة كبيرة من الاحتجاجات امتد تأثيرها خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية، فكينج كان رمزاً للنضال السلمي، ويحمل رسالة محبة وتسامح موجهة للجميع.
ورأى كثير من المؤرخين أن اغتيال مارتن لوثر كينج قد أحدث هزة عنيفة في المجتمع الأمريكي، وأحدث تغييراً حقيقياً في قضية العنصرية في البلاد، حيث سعت الولايات كل على حدة، والحكومة الفيدرالية في واشنطن، إلى تعديل القوانين التي تكرس للعنصرية أو تفرق بين المواطنين على أساس اللون أو العرق أو الديانة، وبدا أن قضية العنصرية في البلد الأقوى عالمياً، والذي يعطي زعماؤه السياسيون دروساً لنظرائهم حول العالم في الحرية والمساوة وحقوق الإنسان قد انتهت أخيراً، وأصبح المواطنون الأمريكيون جميعاً متساوين في الفرص والحقوق والواجبات.
لكن بعد مقتل كينج بأكثر من ستة عقود، وبالتحديد يوم 25 مايو/أيار الماضي، تعرّض مواطن أمريكي أسود للقتل خنقاً على أيدي رجال شرطة بيض في ولاية مينيسوتا، لتنفجر احتجاجات أكبر وأضخم مما شهدته أمريكا بسبب اغتيال كينج، وتخطّت حدود البلاد ممتدة إلى أوروبا وكندا، تحت شعار "حياة السود مهمة"، ليصبح المواطن جورج فلويد، الذي تعرّض للخنق بعد أن جثم الشرطي بساقيه على رقبته لمدة 9 دقائق تقريباً وسط حشرجة الرجل "لا أستطيع التنفس" دون أن يبالي الشرطي الذي بدا كمن يؤدي عملاً روتينيا يقوم به كل يوم، وهي الحقيقة بالفعل.
وهناك عدة حقائق تتعلق بالزخم الكبير الذي حققه مقتل فلويد، على عكس عشرات الحوادث المشابهة على مدار التاريخ الأمريكي، وأبرز تلك الحقائق هو مدى الانقسام المجتمعي الذي صاحب وصول دونالد ترامب للرئاسة، على خلفية مواقف عنصرية واضحة تجاه جميع المختلفين عنه كرجل أبيض مسيحي يؤمن بتفوق الرجل الأبيض على مَن سواه، وهي سمة شخصية موجودة منذ البداية، لكنه تعلّم كيف يوظفها لصالحه سياسياً، بصورة استدعت إجراء أبحاث ودراسات عن تلك السمة الترامبية.
وقد نشرت مجلة The Atlantic الأمريكية تقريراً مطولاً بعنوان "تاريخ ترامب في التعصب الأعمى: كانت هناك أدلة طوال الوقت على عنصريته وعدم تسامحه، وتعلم ببطء كيف يوظفها لمصلحته"، رصد تاريخ الرجل الممتد في التعبير عن مواقفه العنصرية، وترامب ليس نكرة أو سياسي لم ينتبه له المواطنون إلا مع ترشحه للرئاسة، بل هو من أكثر الشخصيات شهرة في المجتمع الأمريكي بحكم عائلته فاحشة الثراء، وبحكم برنامجه الشهير "The Apprentice".
وبالتالي فإن عنصرية ترامب وعدم تسامحه تجاه المختلفين عنه مادة إعلامية يرجع تاريخها لعام 1973، عندما نشرت صحيفة نيويورك تايمز وقتها تحقيقاً عن عنصريته تجاه العاملين في شركات عائلته، وللرجل تاريخ ممتد من التعليقات العنصرية الفجة في قضايا تخص الأقليات كالأمريكيين الأفارقة والمكسيكيين واللاتينيين والأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر) والمسلمين واليهود والمهاجرين والنساء وحتى أصحاب القدرات الخاصة.
ولا يتوقف الأمر هنا عند تصريحات ترامب، بل إن تصرفاته أيضاً تعكس قناعاته العنصرية؛ فقد نشر إعلانات تطالب بإعدام 5 شباب سود ولاتينيين كانوا متهمين بجريمة الاغتصاب، وثبتت براءتهم لاحقاً، كما نشرت شهادات متعددة لعاملين في فنادقه الفارهة، تزعم أنه اعتاد عندما يدخل أحد الكازينوهات أن يقوم المديرون على الفور بإبعاد الزبائن السود الموجودين في الصالة، لكن اللافت هنا أن ترامب وصف نفسه في مقابلة مع Washington Post عام 2016 أثناء حملته الانتخابية بأنه "أقل شخص عنصري يمكن أن تقابله في حياتك".
ما أبرز الأقليات في أمريكا؟
يبلغ تعداد الولايات المتحدة الأمريكية 331 مليون نسمة هذا العام، ورغم التعدد العرقي في البلاد التي ظلت على مدى عقود طويلة حلماً للهجرة وأرضاً للفرص وتحقيق الأحلام والثراء السريع، فإن غالبية السكان ينتمون للبيض المهاجرين من دول أوروبية، وهؤلاء يمثلون نحو 68% من مواطني أمريكا حالياً، ويأتي الأمريكيون من أصل لاتيني في المركز الثاني كأكبر أقلية في البلاد، ويمثلون 16.3%، ثم الأمريكيون الأفارقة أو السود، ويمثلون أكثر من 13% من السكان، وهناك أيضاً أقليات عرقية أخرى تنتمي للمنطقة العربية وإيران وآسيا وغيرها من مناطق العالم.
وبشكل عام يمكن القول إن تصنيف الأمريكيين من حيث العرق أو من يمثل أغلبية ومن يمثل أقلية مسألة معقدة للغاية، وتختلف من النظام الفيدرالي القومي إلى النظام المطبق في الولايات، لكن بشكل عام يعتبر المواطن أمريكياً ما دام حاصلاً على الجنسية ويحمل جواز السفر الأمريكي، وينص الدستور على المساواة المطلقة بين جميع المواطنين بغض النظر عن العرق أو اللون أو الديانة، لكن الواقع بالطبع مختلف بشكل تام عن النص الدستوري، وهو ما عاد مرة أخرى للواجهة مع وجود ترامب في البيت الأبيض، بعد الهدوء النسبي الذي شهدته مساحة الانقسام المجتمعي منذ ستينات القرن الماضي.
لماذا الانقسام المجتمعي أخطر في عهد ترامب؟
إذا كانت العنصرية والانقسام المجتمعي سمة جوهرية في الولايات المتحدة منذ بروزها على الساحة الدولية كقوة عظمى ناشئة قبل أكثر من قرن من الزمان، ثم هيمنتها على مقدرات العالم تقريباً وتشكيله سياسياً واقتصادياً وثقافياً منذ نهاية الحرب العالمية، فلماذا القلق إذن من بروز ذلك الانقسام على السطح مرة أخرى بوصول ترامب للرئاسة، وتفاقم ذلك الانقسام منذ مقتل فلويد في أواخر مايو/أيار؟
تعيدنا محاولة الإجابة عن هذا السؤال إلى المشهد الذي بدأنا به القصة، وهو تأدية أوباما لليمين الدستورية قبل 12 عاماً تقريباً، فوصول رئيس أسود إلى البيت الأبيض كان يفترض به أن يمثل المحطة الأخيرة في رحلة قطار العنصرية في أمريكا، فالرجل فاز بالرئاسة بأغلبية أصوات الأمريكيين من مختلف الأعراق والألوان، وليس فقط بأصوات السود الذين لا يمثلون أكثر من 13% كما ذكرنا، وهو مؤشر على تراجع العنصرية على المستوى المجتمعي وتجاوزها أخيراً.
لكن الواقع كشف عن وجهه القبيح مرة أخرى بعد أن غادر أوباما البيت الأبيض، لأن ترامب أيضاً جاء للبيت الأبيض في انتخابات حصل من خلالها على المنصب، وترامب رجل عنصري كما ذكرنا وبالأدلة المعروفة للجميع، وبالتالي فإن فوزه في حد ذاته -بغض النظر عن التشكيك من جانب منتقديه في ذلك الفوز- مؤشر واضح على أن غالبية الأمريكيين لا يزالون يريدون العودة "لأسلوب حياتهم المعتاد"، حيث السيطرة المطلقة للرجل الأبيض، بحسب باحثين أمريكيين.
وجه الخطورة الآخر في تفجر قضية الانقسام المجتمعي على خلفية العنصرية من خلال مقتل فلويد واتساع رقعة الاحتجاجات واستمرارها هو قرارات الرئيس ترامب منذ وصوله للبيت الأبيض على مستوى السياسة الخارجية تحقيقاً لشعاره "أمريكا أولاً"؛ ترامب سحب بلاده في يناير/كانون الثاني 2017 (بمجرد تسلمه الرئاسة رسمياً) من اتفاق الشراكة بين الأطلسي والهادي (أمريكا وأوروبا) وهي اتفاقية وقعها سلفه أوباما بهدف زيادة التعاون بين الشركات الأمريكية والأوروبية، وتلا ذلك انسحابات أخرى من اتفاقيات دولية سياسية واقتصادية ومناخية لتعزيز التعاون الدولي، في إشارة واضحة على أن الرجل يريد فرض إرادة أمريكا البيضاء على العالم.
وقياساً على نتائج تلك القرارات التي اتخذها ترامب على وضع بلاده على المسرح الدولي، نجد أن الولايات المتحدة قد خسرت كثيراً من مكانتها في زمن قياسي، وأصبحت الصين في وضع أقوى بشكل واضح، ولم تعد أمريكا صاحبة الريادة سياسياً واقتصادياً على الأقل، وهو ما انعكس على الأوضاع الداخلية أيضاً بصورة لم تعد خافية، ويمكن القول نها غير مسبوقة أيضاً.
كيف فضح الوباء عنصرية أمريكا المتجذرة؟
لا يمكن أن نحاول فهم طبيعة الانقسام المجتمعي الأمريكي في ظل إدارة ترامب دون التوقف عند تأثير وباء فيروس كورونا أو كوفيد-19 على الولايات المتحدة، بعد أن أصاب أكثر من 7 ملايين و400 ألف مواطن، وقتل أكثر من 209 آلاف، وأصاب اقتصاد البلاد في مقتل بعد أن فقد أكثر من 50 مليون أمريكي وظائفهم، وأوشك الاحتياطي الفيدرالي للبلاد على الإفلاس التام.
كورونا وباء عالمي أصاب أكثر من 33 مليوناً و580 ألفاً وأودى بحياة نحو مليون و7 آلاف (حتى ظُهر الثلاثاء 29 سبتمبر/أيلول 2020)، وعلى الرغم من ظهوره أولاً في مدينة ووهان الصينية العام الماضي، فإن الولايات المتحدة هي أكثر دولة تأثرت، ولا تزال في جميع المجالات، وذلك لأسباب كثيرة ومتنوعة، ليس هنا مجالها، حيث إن مساهمة الوباء في إظهار مدى عمق الانقسام المجتمعي مثلت مادة دسمة للتحليل والدراسة في الولايات المتحدة في عهد ترامب.
فقد أظهرت البيانات الصحية أن الأقليات دفعت ولا تزال ثمناً باهظاً مقارنة بالأغلبية البيضاء بين مواطني الولايات المتحدة الأمريكية بسبب الوباء القاتل؛ وكان الأمريكيون من أصل آسيوي هم أول ضحايا العنصرية والكراهية، بعد أن أطلق ترامب على كورونا "الفيروس الصيني"، وتم رصد عشرات حالات الاعتداء الجسدي والتنمر اللفظي بحق مواطنين أمريكيين من أصل آسيوي بالفعل كاد بعضهم أن يفقد حياته بسبب الاعتداء.
وكان ذلك في بداية تفشي الوباء على الأراضي الأمريكية، في مارس/آذار الماضي، لدرجة أن وكالة بلومبيرغ نشرت يوم 21 من ذلك الشهر تقريراً بعنوان "كوفيد-19: الوباء الذي يقسمنا عرقياً وطبقياً" تناولت فيه عدداً من تلك الاعتداءات، واستطلعت آراء خبراء علم اجتماع ومحللين سياسيين وغيرهم أجمعوا على أن ترامب يتحمل وزر ذلك التقسيم وليس فيروس كورونا.
لكن مع مرور الأيام والأسابيع وارتفاع حالات العدوى والوفيات بصورة رهيبة، واضطرار إدارة ترامب للرضوخ أخيراً واتخاذ قرار إغلاق البلاد في محاولة للسيطرة على الوباء، بدأت الحقيقة القبيحة المتعلقة بطبقية وعنصرية المجتمع الأمريكي تظهر شيئاً فشيئاً وتهدد السلم الاجتماعي ذاته؛ فقد اتضح أن الأقليات من السود واللاتينيين هم الأكثر عرضة للإصابة بالفيروس الفتاك، لأسباب تتعلق بظروفهم المعيشية والوظيفية، كدليل صارخ على أن العنصرية تجاه الملونين لا تزال سائدة في الولايات المتحدة بصورة لم يعد ممكناً السكوت عنها.
ففي ظل الإغلاق وتطبيق قواعد التباعد الاجتماعي أصبح واضحاً أن تلك الأمور رفاهية لا يمتلكها الجميع؛ فالمصانع لا بد أن تظل تعمل، وكذلك الصيدليات والمطاعم ومحلات البقالة وغيرها، وإذا كان المديرون وأصحاب تلك الأعمال يمكنهم إدارة العمل عن بعد، فالعاملون والموظفون مضطرون للذهاب للعمل، حتى لا تتوقف تلك الأعمال الحيوية، وبما أن أغلب تلك الفئة من الأقليات فإن فرص تعرضهم للعدوى تتضاعف.
كما أن الخدمات الصحية أيضاً تتسم بالطبقية واختلاف الدرجات ومدى توفرها بين الأغنياء وأصحاب الدخول المحدودة، وهذا عنصر آخر أسهم في ارتفاع نسبة الوفيات بين الأقلية السوداء مقابل أصحاب التأمين الصحي المتميز من الأغلبية البيضاء، وإذا أضفنا لذلك أماكن سكن هؤلاء سيئة التهوية والمزدحمة نجد أن "الوباء سلّط الضوء بالفعل على التمييز العنصري والتقسيم الطبقي والثقافي الذي لا يزال يحكم المجتمع الأمريكي"، وهو ما سلطت كثير من وسائل الإعلام الضوء عليه في تغطيتها للوباء القاتل.
هل تتعافى أمريكا إذا خسر ترامب؟
في هذا السياق من الظلم الاجتماعي الكامن، جاء مقتل جورج فلويد بمثابة شرارة سقطت على حقل فسيح عائم على بحيرة من الوقود، فاشتعلت النيران بسرعة قياسية، وتمددت من مينيسوتا إلى باقي الولايات في لمح البصر، ومنها انتقلت عبر الحدود إلى كندا وأوروبا وصولاً إلى أستراليا، فالعنصرية والظلم تجاه أصحاب البشرة السمراء لها تاريخ ضارب في الجذور، ومن الواضح أن تلك العنصرية البغيضة لا تزال كامنة في تلك المجتمعات.
ففي تحقيق استقصائي شارح، ألقت صحيفة واشنطن بوست، الشهر الماضي، الضوء على تداعيات مقتل فلويد وتكوين حركة "حياة السود مهمة"، في إطار الصورة الأوسع للتاريخ الأمريكي الطويل من الظلم وعدم المساواة، والواضح أن انتخاب ترامب رئيساً قبل أربع سنوات قد مثل شرخاً أكثر عمقاً في الانقسام المجتمعي الذي كان موجوداً بالفعل، لكنه لم يكن بمثل هذا الوضوح والخطورة كما هو الآن.
صحيح كما أوضحنا أن العنصرية والظلم وعدم المساواة كلها أمور لم يأت بها ترامب إلى أمريكا، لكن المؤكد أنه وظّف تلك العنصرية وامتطاها كحصان طروادة ليصل إلى البيت الأبيض، والمؤكد أيضاً أنه سعى وما زال لتعميق ذلك الانقسام من خلال إصراره على أن أمريكا دولة بيضاء، وأن من لا يعجبه ذلك عليه العودة إلى "بلاده" وتركها، ويبدو أن البعض يئس بالفعل وقرر العمل بنصيحة ترامب.
فقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية وغيرها من الصحف الأمريكية تقريراً عن الارتفاع القياسي في أعداد الأمريكيين الذين تخلوا بالفعل عن جنسيتهم منذ أصبح ترامب رئيساً، وخلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري 2020 تخلّى أكثر من 5800 أمريكي عن جنسيتهم، بزيادة قدرها 1200% مقارنة بعدد من فعلوا ذلك في الأشهر الستة من عام 2019.لكن الانقسام المجتمعي بسبب التمييز العنصري وعدم المساواة لن يختفي حال خسارة ترامب وفوز منافسه جو بايدن ونائبته السمراء كاملا هاريس، في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وستظل أمريكا تواجه تلك الأزمات ما لم تواجه التقسيم العرقي العميق بين مواطنيها، كما قال هاوارد فرينش في مقال له بنفس العنوان، منشور في يونيو/حزيران الماضي، تعليقاً على الاحتجاجات العرقية التي فجّرها مقتل فلويد.